الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السوريون ومواسم التخوين

مالك ونوس *

مع كل حادث أمني أو تطور سياسي أو حتى بروز أي أمر له علاقة بالشأن السوري، تعود ظاهرة التخوين والاتهام بالعمالة إلى الظهور من خلال تراشق السوريين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي ساعدت في تفاقم هذه الظاهرة، وسهلت الطريق لكل من يريد أن ينغمس فيها فيدلي بدلوه بنشاط، وبترف التشفي والشماتة بمصائب الآخرين المختلفين في الرأي. ويمكن إرجاع أحد أسباب هذه الظاهرة إلى الركود في الحالة السورية، ثم الشعور بانتفاء الأمل في الحل السياسي بالبلاد، فيرمي الجميع المسؤولية في ذلك على الجميع. كما تزداد ظاهرة التخوين مع ازدياد شعور الفرد بالإحباط والعجز، وهو ما حصل لقسمٍ من السوريين الذين لم يستطيعوا إنجاز التغيير فهاجروا هرباً أو هُجِّروا، ولقسم آخر بقي في البلاد، لكنه لم يستطع التغلب على فقره ومصاعب الحياة فأصيب باليأس والإحباط والعجز، ولم يبقَ له سوى إطلاق الاتهامات جزافاً.

لن نعود إلى حوادث قديمة للتدليل على حدية الاستقطاب الذي أصاب السوريين وجعلهم يتمترسون ويتشاتمون مع كل حادث منذ اندلاع الاحتجاجات ضد النظام سنة 2011، إذ تتوفر بين أيادينا، وللأسف، حوادث كثيرة حصلت في الأشهر الأخيرة، وكان لدولة الاحتلال الإسرائيلي اليد الآثمة في توفيرها. فلقد ظهر الاختلاف حول شخصية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الراحل، إسماعيل هنيّة، بعد اغتياله في طهران، ليس بين معارضي النظام والموالين له فحسب، بل بين الموالين فيما بينهم وبين المعارضين فيما بينهم أيضاً. يومها اتّهمه المعارضون بالعمالة لإيران، وأفتى بعضهم بعدم جواز الحزن عليه، واتهموا من يعلن حزنه عليه بالعمالة لإيران أو النظام. أما الموالون فأفتوا بذلك أيضاً، بسبب انتشار سردية تتحدّث عن دعم حركة حماس التنظيمات العسكرية المعارضة للنظام، وكلامهم عن أنفاق حفرتها “حماس” وأهدتها لهذه التنظيمات، وهو ما لم يثبته أحد.

غير أن الأمر الذي ما زال يتفاعل ويثير الاختلاف بسبب تداعياته والتطورات التي مهَّد لها ودفع بشدة إلى التخوين والاتهام بالعمالة، فكان المواقف من تفجير الإسرائيليين أجهزة النداء اللاسلكي، البيجر، وأجهزة الاتصالات ووكي توكي، بين أيادي كوادر حزب الله والمحيطين بهم قبل أكثر من شهر، ثم حوادث اغتيال قادة فرقة الرضوان، ومن بعدها اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، وكوادر آخرين من هذا الحزب. وقد تفاعل الأمر وتطوّر مع الحرب الوحشية الجارية التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل أكثر من شهر على لبنان، فقتل المئات وقصف عشرات المدن ومئات القرى ودمر آلاف المنازل وهجَّر أكثر من مليون لبناني. إذ بينما اتهم كثيرون إسرائيل بهذه الأعمال الإجرامية وأرجعوها إلى طبيعتها الوحشية وسياسة التوسّع التي تتبنّاها وتعمل على تنفيذها بالنار، قال آخرون إن عسكرة حزب الله واحتكاره قرار الحرب والسلم في لبنان ومناوشاته الإسرائيليين منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، هو ما استدعى هذه الحرب، وهو أمر فتح حرب التراشق والتشاتم والاتهام بالخيانة والعمالة، حرب لم تتوقف منذ ذلك اليوم.

يمكن القول إن من أسباب ازدياد ظاهرة التخوين بين السوريين فقدان الأمل في إمكانية أن يأخذ الحل السياسي السلمي للقضية السورية، وفق المخرجات الدولية، طريقه إلى التنفيذ، والبدء بإعادة إعمار البلاد، من أجل حل كل الملفات العالقة، ومن بينها ملفات اللاجئين والنازحين والمعتقلين والمغيبين، وغيرها من ملفاتٍ لا يمكن الركون إلى سلم حقيقي وحل مشكلات البلاد من دون البتّ بها. وقد حلت ظاهرة الضياع محل ذلك الأمل، وكذلك فقدان السوريين، معارضة وموالاة، الثقة بالجميع؛ فقدان الموالين الثقة بالحلفاء، روسيا وإيران، وتَعمَّق ذلك مع ظهور الكلام عن معارضة إيران الحل العربي والتقارب السوري مع تركيا. وفقدان المعارضين الثقة بداعميهم في الغرب، وفي تركيا على وجه الخصوص، بعد إعلان قادتها خطواتٍ للتقارب والتحاور مع الأسد، وقبلها إحباطهم بسبب التقارب العربي مع النظام. كما أن من الأسباب فقدان الثقة بين أبناء المجتمع الواحد بسبب التمييز الذي عانوه سنوات، وهو ما يتعزّز مع ازدياد معدّلات الفقر والبطالة، لكنه يتجاوز كل المقاييس خلال التوترات والصراعات والحروب، وهذه حال السوريين عقوداً. كما زادت في الأمر التغيرات المجتمعية التي طرأت على حياة السوريين، وما زالت تطرأ، بعد تشظّي المجتمع السوري وانتقال كتلة ضخمة تقدر بنصف سكان البلاد من أماكن سكنهم في مدنهم وقراهم إلى أماكن أخرى داخل البلاد وخارجها. إضافة إلى ذلك، هنالك سبب يجعل المرء يعتمد التخوين ويُطلق الاتهامات جزافاً، وهو الشعور بالضعف وقلة الحيلة. يظهر ذلك لدى من لم يستطع مغادرة البلاد، فيلقي باللائمة على من انتفضوا ضد النظام، متهمين إياهم بأنهم هم من أوصل البلاد إلى ما هي عليه.

نتيجة سنواتٍ من العمل على ضرب مبدأ العمل الجماعي لمنع الاجتماع السوري، ثم تكريس القمع عاملاً لقسر المجتمع وضرب مكوناته وقواه السياسية والمدنية، برزت النزعة الفردية ومبدأ الشك في الآخرين. كما ضُربت منظومة التفكير العقلاني، ما جعل العواطف وردات الأفعال تتحكّم في تكوين الآراء وتفسير الحوادث والحكم عليها. وقد ساهم هذا الحال في زيادة حدّة الاختلافات التي تطرأ خلال النقاشات، لتؤدي، في حالات متطوّرة، إلى القطيعة والتخوين عند الاختلاف في الرأي. وقد ساهم في تعزيز هذه الظاهرة اتساع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي لا يرى مستخدمُها ضيراً من إطلاق اتهاماته في كل الاتجاهات، ما دام لن يلقى ملامة أو عقاباً قانونياً أو جسدياً من شخص بعيد لا لقاء حسياً معه.

وقد لوحظ، في الآونة الأخيرة، انحدار بعض المثقفين أو ذوي التحصيل العلمي العالي إلى اعتماد التخوين لغة حوار بعد تبنيهم مساراً واحداً محدّداً في التعاطي والتفكير لا يختلفون فيه عن بعض الشعبويين. إذاً، عند الرجوع إلى منجزات هؤلاء العملية والعلمية وإنتاجهم البحثي والمعرفي، يتعجّب المرء بسبب انحدارهم ذاك، ومسايرتهم ما يُروَّج، بل ترويجهم سردياتٍ حاملة التناقض داخلها. ولا يألون جهداً في تحميل منشوراتهم خطاب الكراهية والنقض وإلغاء الآخر، هذه المشاعر التي تلقى رواجاً وترويجاً تلقائياً من خوارزميات منصّات التواصل الاجتماعي، فيحصدون تسجيلات الإعحاب التي تتخطّى ما يحصدونه لدى عرض إنتاجهم المعرفي، ما يحقّق لهم رضا وهمياً عن الذات لا يحققه إنتاجهم. أما المصيبة والخطورة فتكمنان في أن هؤلاء الذين يُعوَّل عليهم القيام بمهمّة تهدئة النفوس وضبط الانفعالات ونشر قيم التعايش والتسامح يتحوّلون إلى مُخوِّنين تزيد اتهاماتهم من الانقسامات والانفعالات المرضية، متخلِّين بذلك عن دورهم الأخلاقي في تقريب السوريين بعضهم من بعض أكثر فأكثر.

ويبقى السؤال: هل يمكن لهذه الظاهرة أن تضمحل مع الزمن، فتتحوّل إلى حالة عابرة؟ ذلك رهنٌ بوضع القضية السورية على سكّة الحل، وبظهور جامع وطني كبير تنتهي معه كل الانقسامات الظاهرية. فبسبب التحدّيات التي باتت أخطر من أن يتحملها السوريون وهم في حال العافية، تبرُز، وهم في حال التأزم، ضرورة التخلص من ظاهرة التخوين والاتهامات الأخرى، والسعي إلى البحث في القضايا التي يُجمع السوريون عليها من أجل تفعيلها وتكريسها بزيادة الاهتمام بها مع إبراز أهميتها للتقريب فيما بينهم وتخليصهم من آفتي الانقسام والكراهية.

* كاتب ومترجم سوري

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.