الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كيف سيكون “اليوم التالي” بعد الحرب؟

دلال البزري *

المجيب بسرعة عن السؤال: “كيف سيكون اليوم التالي للحرب الإسرائيلية على لبنان؟”، سيقع في معضلة مفادها: هل نسارع إلى التفاؤل بأننا سنتخلّص من هيمنة حزب الله، ويدخل لبنان في السلام والازدهار؟ وعلى أيّ أكتاف سيحمل هذان؛ السلام والازدهار؟

والمعضلة ليست فلسفيةً مُجرَّدةً. إنها تعني خصوم الحزب وأعداء إسرائيل، فهم من ناحية يريدون نهاية لهيمنة هذا الحزب على لبنان، ولكنّهم، في الوقت نفسه، يرعبهم أن تكون نهايته بيد إسرائيل. ليس لأنها إسرائيل وحسب، وليس لأنها يد أجنبية “مُحرِّرة”، قتلاً وغزواً وتدميراً بدعم من أكثر الدول تسلّحاً، ولا لأنها تعيدنا إلى 2003، عندما “حرّرت” أميركا العراق من الديكتاتور صدّام حسين، ودخل معارضوه بغداد على ظهر الدبابات الأميركية، فصار العراق مشاعاً لإيران، ودخل في طور الاحتلالَين، الأميركي والإيراني. والتاريخ يضجّ بأنواع من “التحرير” كهذا.

ونحن على ظهر دبابة إسرائيلية نتوهّم أننا سنتحرّر بالمطلق، طالما أننا سنتحرّر من حزب الله. هذا يدلّل على كثرة ما عذّبنا هذا الحزب، ولكنّه أيضا يدلّل على استعجالنا. وهو استعجال مفهوم، يضغط من أجله الجحيم الناري الذي وضع الحزبُ لبنانَ فيه الآن، لكنّه ينطوي أيضاً على أوهام الحرّية المُبهجة التي سنتمتّع بها بعد رحيل الحزب من المشهد. نحن لا نريد حزب الله، ولا نريد أيضاً التخلّص من هيمنته بقوة غير قوتنا، ولكنّنا أخفقنا في ذلك طوال السنوات السابقة. وفي الآن عينه، لسنا أبداً سعداءَ بأن تكون إسرائيل هي التي “تُحرِّرنا” منه، فالحرّية هي من صنع أصحابها. هي عملية طويلة، مسار طويل ومتعرج، وهي دائماً ملغومةً إذا كانت تُقدَّم لك من طرف لا تعنيه حرّيتك، إنما حرّرك من أجل غاية في نفسه، مصلحة ما، طمع ما؛ أرض، ثروة، مجال حيوي، سلطة “ناعمة”… أمّا أن يكون “مُحرِّرك” هو إسرائيل بالذات، فذلك ما يقيم محلّاً للقهر السافر، النقيض الصريح للحرّية.

كان الاعتماد على إيران لإنقاذ حزب الله بعدما تراخت في إنقاذ غزّة. إيران الآن حُيّدت، وفي الأصل لم تشتبك مع إسرائيل إلّا بعد اغتيال إسماعيل هنيّة في أراضيها؛ أي بعدما انتُهِك أمنها، وسيادتها. والاثنان، الأمن والسيادة، هما حجر الزاوية في حكمها. وقد أعانتها أميركا في ذلك، بأن لجمت إسرائيل عن ضربها في العمق، أو بالطريقة التي تعتمدها في لبنان وغزّة والضفة الغربية. ولم تلجمها أميركا في هذه البقع الثلاث. وتبرّؤ إيران من استهداف منزل بنيامين نتنياهو، وإعلان حزب الله مسؤوليته عن العملية، يلخّص أبرز معالم هذه السياسة الإيرانية، القائمة على “الأذرع”. مع استثناء “العمق” السوري، وصمته المدوّي في هذه الحرب.

حسناً، ما الثمن الذي سندفعه بعد نهاية هذه المعارك، وخسارة حزب الله سلاحه، وبعدما تصبح حدود إسرائيل الشمالية آمنةً لسكّانها كما وعد قادتها؟… هذا هو “اليوم التالي”، وتكون الطريق سالكةً أمام المتفائلين بأنهم أصبحوا الآن بصدد العودة إلى الحياة الطبيعية؛ لبنان ذو سيادة، برئيس جمهورية وحكومة وبرلمان، ومجالس بلدية، وعودة النازحين إلى ديارهم. فهل يكون الأمر بهذه البساطة؟… طبعاً لا، سيكون اليوم التالي محكوماً بما سبقه. الذين قرّروا ونفّذوا نيابةً عن غالبية الشعب اللبناني ما كان يتمناه، لن يتركوه في حال سبيله. سوف يملون علينا ما يرونه مناسبا لنا، بحسب مصالحهم، ولا أحد من هذه القوى الكُبرى يعمل ضدّ مصلحته. العمل ضد المصلحة الذاتية من اختصاص شعوبنا، لا حكّامنا الأقرب والأبعد.

إسرائيل لن تحلّ المشكلة الأصلية، المزْمنة، التي أشعلت الحرب، أي حقّ الفلسطينيين بدولة. هي الآن أبعد ما تكون عن هذه الفكرة، تدير فقط رفضها هذه الحقوق بالقوة العسكرية التي تمتلكها، فيما آمال المطالبين بالسلام بين أبنائها تلاشت، وتهجرها غالبية ليبرالييها وعلمانييها. كانت الموجة الأولى من هذه الهجرة على أثر مشروع الإصلاح القضائي الذي تقدّم به الائتلاف الديني الحاكم من أجل ضرب استقلال القضاء، وإلحاقه بالحكّام السياسيين، وهو مشروع لم تتوقّف خطاه خلال الحرب على غزّة.

رفض للحقوق مقرون بـ”نصر مطلق” يتوق إليه نتنياهو وصحبه في غزّة، ولا رؤية ولا مشروع، إنما ضبابية، مقصودة ربّما تهيئ لها طلائعُ مستوطنين جُدد، عقدت مؤتمراً في غلاف غزّة شارك فيه وزراءُ كبار في الحكومة، وضعوا الحجر الأساس للمستوطنات المنوي بناؤها في شمال غزّة. وكذلك فعلت المجموعات نفسها بخصوص جنوب لبنان، من دون مؤتمرات، قدّمت مشاريعَ غامضةً واضحةً تقول فيها إن الجنوب اللبناني هو امتداد للجليل، وإنه من العدل أن يُضَمّ إليه. ويمكن القول إن مشاريع الاستيطان في غزّة، متقدّمة على مشاريع الاستيطان في جنوب لبنان. تحت شعار “إنهاء المليشيات اللبنانية والفلسطينية”، يطرح نتانياهو فكرةَ استقدام مليشيات غير إسرائيلية الى غزّة؛ مليشيات أميركية تديرها شركات خاصّة، عملت في العراق وأفغانستان، “تنظّم” الحياة اليومية للغزّيين؛ أي تقهرهم، تتعسف في حقّهم، تسجنهم، تقتلهم، ولا مسؤولية قانونية لإسرائيل في هذه الأعمال.

تخلّت إسرائيل عن “حبّها لحياة مواطنيها”، لا حياتنا فقط، ولم تعد حياة مواطنيها تهمها، بعد الأولوية التي أعطتها للحرب على “حماس” بدل التفاوض معها على الرهائن. ويشهد الأمس القريب على استغنائها عنهم، أحياءً كانوا أم أمواتاً. هي الآن في واحدة من ذروات إسبارطيّتها. كانت دولةً مقاتلةً تصنع السلاح وتورّده لجيش هو من بين الأقوى في العالم، وها هي الآن تتوسّل المزيد من الذخائر، المزيد من التجنيد والتكنولوجيا، المزيد من الحماية الأميركية، في ظلّ تفاقم إعفاء متديّنيها من الخدمة بالمزيد من الاعتراض؛ “هم يصلّون فيعيشون؟ ونحن نقاتل فنموت؟” (شعار المعارضين لإعفاء طلاب المدارس الدينية من الالتحاق بالجيش).

هل نتلو الطبائع الإسرائيلية المُتجدِّدة كلّها لندرك أن تحريرها لنا من قبضة حزب الله لن يكون مشواراً ممتعاً لنا، ولا سيادةً وطنيةً؟ “الحَمَل” الأميركي الذي ساندها طوال حربها علينا، وتوكّله بشؤوننا “ديبلوماسياً”، هل تكون اقتراحاته أو مشاريعه بالإصلاح وبالعودة إلى القانون والمؤسّسات في صالح لبنان واللبنانيين؟… من الآن يمكن الإجابة بالنفي. وما يمكن أن ينضمّ إلى هذه “المشاريع” هو بقاء الجنوب اللبناني تحت السيطرة النارية لإسرائيل، إن لم يكن تحت احتلاله، فلا يعود النازحون إلى ديارهم التي تتجمّع فوقها الخرائب. ساعتها، سيحتاج اللبنانيون إلى نوع آخر من المقاومة، ليست معالمها واضحة الآن، ولكنّ الأرجح أنها لن تقوم على حسابات ضيّقة كمثل أن تستوجب هيمنة طائفة على أخريات. فلبنان جرَّب هيمنة الطوائف الكبرى كلّها عليه، الواحدة تلو الأخرى، ولا مرّة نجح بانتشال نفسه من واحدة منها إلا بقوة السلاح.

وهل نتشاءم أقلّ من اللزوم إذا قلنا إن هذا النوع من المقاومة قد يشكّل فاتحة لجميع اللبنانيين على أساس أنهم مواطنون في دولة واحدة، ينتخبون ممثّليهم في دائرة واحدة، وليس على أساس أضيق الانتماءات، الطوائف، التي لم تقم لا سلماً ولا ازدهاراً، بل عقليات ضيّقة، متعصّبة، تحمل المسدّس والكراهية. وأنها، أي هذه المقاومة، تستند إلى قريناتها اللائي تشترك معهن بوحدة المصير، بتشابكه، وباختلاط المصائر؛ أعني الشعبين السوري والفلسطيني.

هنا تتوقّف اليوتوبيا…

* كاتب وباحثة لبنانية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.