الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 «في ذكرى وعد بلفور».. من الفكرة إلى الوعد ومن الدولة إلى الزوال

بسام شلبي

في بداية القرن الثامن عشر (عصر القوميات) العصر الذي تشكلت فيه الدول الحديثة في أوربا وبعد استقرارها، كان في ذلك الأوان مطروحاً أمام أوربا الحديثة مسألتين أساسيتين سميتا وقتها المسألة الشرقية، وكانت تعني اعلان وفاة الامبراطورية العثمانية وتوزيع تركتها، والمسألة الثانية اليهودية وتعني تفريغ أوربا من اليهود الذين شكلوا وقتها عامل توتر دائم داخلها وصل في كثير من الاحيان إلى خطر تفجيرها من الداخل؛ ولم يكن وقتها في ذهن أحد أن يحل المعادلتين معاً.

يرجع الجذر الأول إلى أهم مُخطِّط استراتيجي عرفته أوربا وقتها “نابليون بونابرت” الذي فكر (على عكس حركة التاريخ) أثناء حملته على مصر بضرورة عزلها عن بلاد الشام بجسم غريب يتم خلقه بينهما وكان اقتراحه شبه جزيرة سيناء، وهذا كان يتماشى مع معطيات الجغرافيا بوجود حواجز طبيعية من الماء والجبال، وحيث أنها كانت مفتوحة من جهة الغرب على مصر تخيل خلق حاجز مائي يصل البحر المتوسط بالأحمر مع صعوبة تنفيذه بمعطيات ذلك العصر العلمية والعملية، فبقى مجرد حُلم.

وكان تفكيره بعزل الشام عن مصر لاستدامة سيطرته على مصر التي احتلت مركز الصدارة في الاستراتيجية الفرنسية وقتها، وثبت أن هذا كان عكس حركة التاريخ لأنه منذ مطلع التاريخ لم يسيطر حاكم أو إمبراطور على مصر إلا وفكر في ضم الشام والعكس بالعكس، فمن الفراعنة فالآشوريين  فالإسكندر فالرومان ثم العرب المسلمون فالصليبيون والفاطميون، ولم يستطع أحد الحفاظ على مصر دون ضمان الشام والعكس، أدرك هذه الحقيقة داهية العرب “معاوية بن أبي سفيان” في صراعه على الخلافة ونجح، وفشل المغول في السيطرة على مصر فاندحروا وفشل الفاطميون في السيطرة على الشام فاندثروا، وأدرك صلاح الدين أنه قبل السيطرة على مصر لا يمكن تحرير الشام فنجح، وأراد نابليون أن يعاند التاريخ فهُزم، وبعد أن استتب الأمر في مصر للإنجليز تمسك الفرنسيون بالسيطرة على الشام لكسر سيطرة الإنكليز على العالم.

وبعد هذا الاستطراد الواجب، عودا على بدء، فإن أول من فكر في حل المعادلتين المُضلتين في أوربا كان أول رئيس وزراء بريطاني من أصل يهودي (دزرائلي) حيث أعاد بناء فكرة نابليون مع اقتراح أن يكون الجسم الغريب في فلسطين وأن تكون ماهيته دولة يهودية، بما لذلك من جذور تاريخية لدى اليهود في العالم.

وقبل ذلك كانت كل السيناريوهات الأوربية لخلق الدولة اليهودية تدور بعيداً عن منطقتنا، حيث كانت المقترحات تدور في أمريكا اللاتينية أو أمريكا الشمالية أو أفريقيا وحتى اليونان، وكانت الوكالة اليهودية التي شُكلت بدعم من الدول الأوربية متناغمة مع تلك السيناريوهات وكانت حتى ذلك الوقت تُحبذ الأرجنتين، وقد سعت لذلك دأباً، وقامت بجهود حثيثة لتهيئة الأرض للدولة الموعودة فيها.

و لم تلقى فكرة رئيس وزراء بريطانيا دزرائلي بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين حماساً لدى معظم الساسة والمخططين الأوربيين، وقد ساد لديهم اعتقاد باستحالة تنفيذها في هذه المنطقة نظراً للكثافة السكانية وقوة علاقتها التاريخية الثقافية والاجتماعية بفضائها الجغرافي شرقاً وغرباً. كما ثارت المخاوف من الانجرار إلى مواجهة شاملة مع العالم الإسلامي لا سيما أن السلطنة العثمانية كانت قائمة وإن كانت في أقصى حالات الضعف فقد كانت الخشية أن تستغل السلطنة مثل هذه الدعوة لاستثارة مشاعر الولايات المختلفة لمواجهة هذا المشروع ولم شملها واستنهاض قوتها من جديد.

لكن الوكالة اليهودية التي بدأت تنحى منحاً مستقلاً وتلعب دوراً مؤثراً، أخذت على عاتقها إقناع الساسة المعارضين، وبذلت جهوداً كبيرة كانت ذروة جرأتها أن تطرح الموضوع صراحة مع السلطان العثماني نفسه بعرض مبلغ مالي كبير- كانت السلطنة بأمس الحاجة إليه وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة- مقابل تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، ورغم رفض هذا العرض في النهاية إلا أنه كان ذو تأثير عظيم في تغيير قناعة الساسة الأوربيين- عدا الألمان- من رد فعل العالم الإسلامي بسبب الموقف الرخو من قبل السلطنة والمجتمعات العربية أيضا (التي كانت غائبة تماماً) بسبب قرون من القمع والقهر والجهل والفقر. بينما كانت الوكالة اليهودية حاضرة في كل مكان، فقد زرعت عيوناً وأذرعاً في الأحزاب والبرلمانات ووسائل الإعلام ودهاليز السياسة الأوربية المظلمة من روسيا شرقاً إلى إنكلترا غرباً.

فما بين فكرة دزرائلي و وعد بلفور- الذي مر عليه أكثر من قرن- كان منها أكثر من خمسة عقود من العمل الجاد الكثيف المنتظم من قبل الوكالة. وحتى تلك اللحظة التي تم فيها الجهر بالسوء لم يكن الوقت قد فات، وكان من الممكن أن لا يكون له أي قيمة ويدفن بين الأوراق المعدومة مثله مثل مئات آلاف الوعود السياسية التي لا يسمح الواقع بتنفيذها. لكن ذلك كان يتطلب مواجهة مدروسة ومنظمة ولو في أدنى الحدود، ولم يكن ذلك صعباً لا سيما أن التاريخ والجغرافيا كانا يقفان بقوة في الصف العربي.

لكن معظم النخب العربية قد نظرت إلى ذلك الوعد وكأنه قدرٌ محتوم، رغم أن من أطلقوه لم يكن لديهم الكثير من الثقة في نجاحه لأنهم يفهمون أكثر منا لعبة التاريخ والجغرافيا؛ فرغم ما ذكرناه عن خمسة عقود من طرح المسألة اليهودية قبل دزرائلي ثم خمسة عقود للوصول إلى وعد بلفور ثم ثلاثة عقود إلى إعلان الدولة ثم سبعة عقود ونيف من عمر الدولة لا تساوي شيئاً كثيراً في عمر المنطقة الحضاري وتاريخها  الممّتد إلى ما يزيد عن ستة آلاف سنة.

فرغم كل ما حققه الكيان المُصطنع بجهود ذاتية أو بدعم سخي وكثيف من أعمدة النظام الغربي، لم ولن تلغي كونه كيان وظيفي وظرفي متعلق بتوازنات السياسة الدولية، والأهم مرتبط بصحوة وتمكّن شعوب المنطقة من إعادة حقائق التاريخ والجغرافيا إلى أرض الواقع، والمسألة قد تطول أو تقصر، ولكن ليس لدينا أدنى شك بأنها تمتلك كل مقومات الحدوث مع توفر الظرف المواتي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.