الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أيهما الأفضل أم أيهما الأقلّ سوءاً؟

سوسن جميل حسن *

في البرنامج الحواري “في الحدث”، على قناة فرانس 24، طُرِح موضوع للنقاش تحت عنوان “هاريس- ترامب: أيهما أفضل للعالم العربي والمنطقة؟ ارتأت إحدى الضيفات (نجاة شرف الدين) أن يكون عنوانه الأكثر واقعية: “السيئ والأسوأ”.

في الواقع، هذا السؤال جوهري، ويدفع إلى الحفر في العمق، وإلى قراءة ما هو واضح، وما هو متخفٍّ في الخطاب الأميركي على لسان الشخصيات المؤثّرة كلّها ابتداء من قمّة الهرم، إلى المبعوثين والموفدين، والمتحدّثين باسم وزارة الخارجية، وغيرهم، إضافة إلى استعراض العقود الماضية، ومواقف الولايات المتحدة من قضايا المنطقة، وأدائها أيضاً، منذ حرب الخليج الأولى على الأقلّ.

ففي حرب الخليج الأولى (1980-1988) كانت الولايات المتحدة تقدّم المعلومات الاستخباراتية والاستطلاعية للعراق (1987- 1988) الذي استخدم الأسلحة الكيميائية ضدّ القوات الإيرانية، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية تعلم تماماً أن الأسلحة الكيميائية التي ساعدت في تطويرها الشركات في بلدانٍ عديدة، بما في ذلك الولايات المتحدة، وألمانيا الغربية، وهولندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، سيتم استخدامها، وتتبعها هجمات غاز السارين، بحسب ما كشفت عنه وثائق لوكالة الاستخبارات المركزية رُفِعت عنها السرّية، وإدارة رونالد ريغان لم تتوقّف عن مساعدة العراق بعد تلقّي تقارير عن استخدام الغازات السامّة ضدّ المدنيين الأكراد. في الوقت نفسه، ما كشفت عنه التقارير حول فضيحة “إيران كونترا”، في عهد الرئيس الجمهوري ريغان، عندما كانت الولايات المتحدة تبرم صفقةً لتزويد إيران بالأسلحة لتستخدمها ضدّ العراق في حربها، في مقابل إطلاق سراح خمسة رهائن أميركيين محتجزين في لبنان، وكان لمندوب المخابرات الإسرائيلية (الموساد) حينها، آري بن ميناش، دور رئيس في نقل هذه الأسلحة من إسرائيل إلى إيران، هذا في الوقت الذي كانت إيران الخميني تعدّ أميركا “الشيطان الأكبر”.

في حرب الخليج الثانية، بعد أن غزا صدّام حسين الكويت في أغسطس/ آب 1990، وبعد رفض العراق القرارات الدولية بالانسحاب من الكويت، بدأت الحرب في يناير/ كانون الثاني 1991، شنّت قوات التحالف المكونة من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة ضدّ العراق، في عهد الرئيس (الجمهوري)، جورج بوش الأب، بعد أن منح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تفويضاً بذلك لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. ماذا كانت النتيجة؟ … سقوط أكثر من مائة ألف جندي عراقي وتلوّثا شعاعيا نتيجة سقوط مئات الأطنان من القنابل التي تحوي اليورانيوم المنضّب، وتدميرا شبه كامل للبنية التحتية الكويتية، وقسم كبير من البنية التحتية العراقية، وفرض حصار خانق على العراق أدّى إلى وفاة مئات الأطفال بسبب الجوع ونقص الدواء والرعاية الصحية، وإنشاء قواعد عسكرية للولايات المتحدة في الخليج.

في العام 2003، بناء على تقارير استخباراتية كاذبة وادّعات مغلوطة، واتهام العراق بسعيه نحو امتلاك أسلحة نووية، وهذا ما نفته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والادّعاء بامتلاكه الفعلي لأسلحةَ دمار شامل، غزت الولايات المتحدة برئاسة الجمهوري جورج بوش (الابن)، ومن خارج المنظومة الدولية، العراقَ، متحالفة مع بريطانيا، وأسقطت نظام صدّام حسين، وأعدمته، ماذا كانت النتيجة؟ … سقوط مئات الآلاف من العراقيين، معظمهم نساء وأطفال، وتدمير الآثار العراقية وسرقة ونهب ما تم الوصول إليه، ونهب البنك المركزي العراقي، وترك البلاد ممزّقةً تتصارع فيها المليشيات الطائفية، ما أدّى إلى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومن ثمّ المليشيات الشيعية التي تشلّ العملية السياسية في العراق، وتعمل أذرعاً لإيران في المنطقة.

بعد الانتفاضة الشعبية في ليبيا عام 2011، قصفت الولايات المتحدة، برئاسة الديمقراطي باراك أوباما، متحالفة مع بريطانيا وفرنسا، الأراضي الليبية، من خلال المنظومة الدولية هذه المرّة، بحُجّة الحظر الجوي في سماء ليبيا، وبسبب انتشار التسليح بين أفراد الشعب دخلت البلاد في الفوضى والعنف والاقتتال والتدخّل الخارجي من جهاتٍ عديدة، ماذا كانت النتيجة؟ … تحوّلت البلاد أقاليم متصارعة، وتحالفات متعدّدة مع قوى خارجية وإقليمية، مع وجود أطراف متطرّفة أيضاً ساعدت على انتشار السلاح والعنف خارج ليبيا.

وبعد الانتفاضة السورية في عام 2011، التي تحوّلت حرباً منذ أن تعسكرت في مواجهة عنف النظام، ومع اشتداد الحرب وسقوط مدينة الرقّة وإعلان قيام الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش) في العام 2014، أنشأت الولايات المتحدة برئاسة (الديمقراطي)، باراك أوباما، ومعها فرنسا، وبعض الدول العربية، تحالفاً يهدف إلى محاربة التنظيم والقضاء عليه، في وقت كان النفوذ الإيراني يزداد في سورية، وخاصّة في شرقها، حيث تشتدّ المواجهات منذ ذلك الحين بين الفصائل الإيرانية وقوات التحالف التي بقيت داعمةً لمنطقة الحكم الذاتي بدعوى محاربة الإرهاب. قضي على الدولة، لكن التنظيم لم ينته، بل ما زالت عملياته مستمرّة في الداخل السوري وخارجه. هذا بالإضافة إلى الدور الذي لعبته أميركا في عهد أوباما وصفقة السلاح الكيميائي، وفسح المجال لروسيا لتكون اللاعب الأبرز بالنسبة إلى الحالة السورية، وتزداد إيران تمدّداً ونفوذاً، والفصائل الأخرى المدعومة من الخارج ومن دول الإقليم، خاصّة في المناطق المدعومة من تركيا.

وأطلق الجمهوري دونالد ترامب، المؤيّد المطلق لسياسات (وحروب) إسرائيل كلّها في المنطقة، “صفقة القرن”، وهندس اتفاقات أبراهام من خلال تصوّره الخاص للسلام في الشرق الأوسط، من منظوره، وهو سوف يتابع ما بدأه في ولايته السابقة، إذا فاز في هذه الانتخابات. وبالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يكفي أن نضع عنواناً لمشروعه، وهو تصريحه بأنه يرى أن خريطة إسرائيل صغيرة، وأن الضفة الغربية يجب أن تزول، ولم يتطرّق إلى جرائم الإبادة التي تقوم بها إسرائيل.

أمّا جو بايدن (الديمقراطي) فصرّح وكرّر أكثر من مرّة بأنه “صهيوني”، ولم يقدّم شيئاً في الحرب على غزّة وعلى لبنان حالياً، ولم يحقّق وقفاً لإطلاق النار، ولا حدّاً للإبادة الجماعية، واستمر دعمه العسكري والديبلوماسي لإسرائيل، واستمرّ تدمير قطاع غزّة وقتل أطفالها ومدنييها بالأسلحة الأميركية. فإذا كان ترامب قد نقل السفارة إلى القدس، فإن بايدن أرسل حاملات الطائرات وأحدث الأسلحة إلى المنطقة. في عهده، بدا أن إسرائيل هي التي تدير السياسة الأميركية في المنطقة وتوجهها، وليست أميركا هي التي تستطيع التأثير في إسرائيل.

عقوداً، كان رؤساء الولايات المتحدة يحلمون بإحلال السلام في الشرق الأوسط (على طريقتهم). وبينما سهّل جيمي كارتر اتفاقات كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر (1978- 1979)، نسّق بيل كلينتون اتفاقات أوسلو (1993) مع الفلسطينيين، واتفاق سلام مع الأردن في العام التالي. من ناحية أخرى، أبرم دونالد ترامب اتفاقات إبراهام مع البحرين والإمارات والمغرب والسودان في عام 2020. لكن القضية الفلسطينية لم تحل، بل تزداد تعقيداً، ويزداد الشعب الفلسطيني قهراً وسلباً لحقوقه وأراضيه، ومشكلات المنطقة برمّتها أيضاً، وسيواجه الرئيس القادم التوتّرات بين إسرائيل وإيران وأذرعها وحلفائها في المنطقة، في حروبٍ تبدو لا نهاية لها. وفي السياسة الأميركية، دعم إسرائيل متجذّر بعمق، وفي حين يُنظَر إلى إيران أنها العدو، يطغى الاهتمام العالمي بالمواجهة مع إيران على الفظائع التي ترتكب بحقّ الفلسطينيين واللبنانيين، وعلى حساب القضية الفلسطينية التي يتبجح العالم تجاهها بضرورة حلّ الدولتين، في واقع لم يعُد هناك ما يكفي من مساحة تقوم عليها دولة فلسطينية لا أحد يعرف شكلها.

موقف أيّ رئيس يمكن أن يصل إلى البيت الأبيض هو موقف المؤسّسة الأميركية في الدعم الكامل لإسرائيل، وفكرة دعم إسرائيل جزء أصيل في توجّهات السياسة الأميركية والدولة العميقة التي ترسم السياسات، أمّا الاختلاف فهو في طريقة إدارة هذا الملفّ. يبقى أن نطرح الأسئلة على أنفسنا، فيما لو استطاع بعض القادة أو الفاعلين العرب الالتقاء حول هدف مشترك ووضع خطة واضحة بالنسبة إليهم، ربّما يستطيعون التأثير في الواقع، خاصّة في ما لو فاز ترامب، الذي يرى الحياة بمجملها وفق منطق البيع والشراء وأخلاقيات السوق، كما قال للأوروبيين: “ادفعوا تلقوا الحماية”. قد يكون حينها منطق “السوق” مُجدياً، فيما لو كان على الدول العربية أن تدفع لقاء أن تكسب قليلاً.

* كاتبة وروائية سورية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.