الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قراءة في مؤتمر بروكسل المسار الديمقراطي

بسام العيسمي *

انعقد المؤتمر بـ 25 – 26 تشرين الأول 2024. في مدينة بروكسل البلجيكية. بحضور واسع وأساسي للإدارة الذاتية لشرق وشمال سورية. وحضور لبعض التيارات السياسية والشخصيات الوطنية. أدارته ورعته مسد, وهي الواجهة لقسد, التنظيم العسكري المرتبط عضوياً وعقائدياً بحزب العمال الكردستاني الـPK K. والمصنف على قائمة الإرهاب. بزعامة عبد الله أوجلان. وهو منظمة غير سورية.

العنوان الذي عُقد المؤتمر تحته جميل جداً. نحن بأمس الحاجة والضرورة الوطنية لولادة تيار وطني ديمقراطي يحجز مكانه في الفضاء السوري. ويكون له الدور الوازن في ضبط أي تحوّلات قادمة في المشهد السوري. من شأنها الإسهام بوضع سورية على سكة التطور الديمقراطي. للوصول لسورية المأمولة دولة الديمقراطية والمواطنة المتساوية, والتي تكون لجميع مواطنيها. والطريق الأنجع لفتح الطريق أمام ولادة مسار وطني ديمقراطي سوري. وخلق حالة توافق وطني. هو فتح الحوارات الجادة والمسؤولة بين القوى الوطنية الديمقراطية السورية.

وحتى لا نكرر الارتجالية السياسية في ممارسة العمل الوطني والثوري. والسباحة في بحر العناوين التزينية والمصطلحات, دون التأسيس لها وترسيخها نهجاً وسلوكاً يراكم في بناء اللبنات الأولى الحاملة لبرنامج وطني ديمقراطي سوري, ببعده الحضاري والإنساني. علينا الإجتهاد للإجابة على السؤال التالي: لماذا تعمّقت انقساماتنا, وزدنا تذرراً وتبعثرا وتشظّي؟ لماذا فشلنا بالتلاقي؟ لماذا فشلنا في بناء فضائنا الوطني الديمقراطي؟ رغم كل الأكلاف التي دفعها السوريون. وخلال أكثر من ثلاثة عشر عاماً دماءً وقهراً ودماراً وتهجيراً؟

رغم كم اللقاءات والاجتماعات وعشرات المؤتمرات. والتي صدرت عنها بيانات ختامية ولا أجمل. وجميعها تؤكد على وحدة السوريين, وعلى العملية السياسية, وبناء دولة القانون والمواطنة والديمقراطية.. ولا شك بأن البيان الختامي الذي صدر عن مؤتمر بروكسل يأتي في هذا السياق ويكرر المكرر.

منذ ثلاثة عشر عاماً وبياناتنا السياسية, ومُخرجات مؤتمراتنا الكلامية والإنشائية تُضاهي في جمالها البيانات الختامية لمؤتمرات القمم العربية.

لأننا نجيد السباحة بمهارة في بحر العناوين والمصطلحات التزينية والديكورية، وفاشلون في تأصيل هذه المصطلحات, وإيجاد تعريفات واضحة لها تؤسس لحالة إجماع وتوافق وطني على مدلولاتها ومضامينها. لأننا لا نعكسها سلوكاً وموقفاً ونهجاً.

المسألة لا تٌكمن في العناوين والبيانان الجميلة والمنمّقة والمواقف الكلامية والشعارات التزينية والمكرورة، بل هي كيف ننتقل من العناوين إلى المضامين.

هذر الكلام والبيانات شيء، والواقع والممارسة شيئاً آخر تماماً مع الأسف، وعلى سبيل المثال: نظام طغمة الأسد أصدر قانون تجريم التعذيب رقم 16 لعام 2022. أدرج فيه وبمادته الثانية. فقرة آ عقوبة من ارتكب قصداً التعذيب أو شارك فيه أو حرض علية بالسجن المؤقت ثلاث سنوات على الأقل. وهي الحد الأدنى وتتدرج ارتفاعاً حتى تصل إلى الإعدام حسب نص الفقرة- و- إلى الإعدام إذا نجم عن التعذيب موت إنسان, أو تم الاعتداء عليه بالاغتصاب أو الفحشاء أثناء التعذيب.

كلام ومواد ولا أجمل لو وٌضعت بموضع التطبيق؟ لكنه على الواقع يقوم وبلا انقطاع لليوم بسجن وخطف وتعذيب المعتقلين حتى الموت. فإذا كانت المسألة كلام وشعارات وبيانات، ما فينا نذاود على النظام. ما يجري على الواقع هو الأساس، وبخاصة إذا كانت هذه الشعارات والمخرجات تُطرح للاستثمار السياسي.

وهنا لابد من العودة بإيجاز لبدايات الثورة لتوضيح الصورة أكثر؛

انفجر مكبوت الألم السوري بوجه طغمة الأسد في أواسط آذار/ مارس لعام 2011. وسرعان ما تمددت الاحتجاجات لغالبية المناطق والبلدات السورية على مساحة الجغرافية. حراكاً وطنياَ سلمياً وحضارياً. لو استمر لكان أسس اللبنات الأولى الحاملة لمشروع وطني ديمقراطي عمومي سوري. يكون البديل الوطني والسياسي والإنساني عن نظام طغمة الأسد.

لكنه ومع الأسف سيق وسريعاً إلى الصراعات الهوياتية التي توضّعت على خطوط الإنقسامات الطائفية والدينية والأثنية بعمقها التاريخي والإقليمي. والتي قادت لتقسيم الجغرافية السورية لثلاث مناطق أمر واقع قائمة بإرادة الخارج.

بعضها انساق وراء وهم الخلاصات الفردية. ولم يلتحق بالثورة, ولا بالمشروع الوطني السوري، وإنما استثمر بالحدث لصالح مشروعه الخاص، إذ غلّب انتمائه القومي العابر للحدود على وطنيته السورية, وانتهى بشمال وشرق سورية.

وبعضها غلّب اسلاميته على سوريته وانتهى بتركيا وسلمها قراره.

الطرفان هما قوى أمر واقع. وكذلك الجولاني أيضاً، جميعهم لديهم مشاريعهم الخاصة القومية والطائفية والدينية الغير عمومية. والتي تتجاوز الجغرافية السورية. وبالتالي هذه القوى لا تصلح لحمل برنامج وطني ديمقراطي سوري على كامل الفضاء الوطني.

الاستقطابات الدينية والقومية والطائفية هي طاردة لمفهوم وثقافة الدولة الوطنية. في ظل غياب التيار الوطني الديمقراطي السوري. والذي لم يكن له أي دور في التصدّي لهذا التبعثر والانقسامات والانحدار الكارثي. بالرغم من قيام محاولات عديدة لتشكيل هذا التيار من قبل بعض الشخصيات الوطنية والسياسية التي لها احترامها. على غرار القطب الديمقراطي. والذي ضم ومع الأسف الكثير من الشخصيات التي لا علاقة لها بفكر وثقافة الديمقراطية. فكانت المحاولات واللقاءات تأخذ شكل اللمة التجميعية غير المنسجمة. لذلك فشلت. ولضعف خبرتها السياسية وتجربتها. قفزت بعض منها الى المجلس الوطني, ومن ثم للائتلاف المصنّع إقليمياً وإخوانياً. وأعتقد بأنها أخطأت في حساباتها السياسية. وهذا ليس انتقاصاً من نزاهتها ووطنيتها ومواقفها. بل توصيف حالة.

لذلك أخفقت في التأسيس لمفاهيم ومحددات الدولة الوطنية الديمقراطية. وفشلت في إعادة تعريف الهوية الوطنية السورية. وتأصيلها بالحوارات والمقاربات والاجتهادات. لتوسيع مطارحها في الفضاء الوطني السوري العام. بما يفتح الطريق أمام ولادة المسار الديمقراطي الذي يؤسس لحالة إجماع وطني ديمقراطي سوري.

وبدل ذلك، قامت بمهادنة التيار الإخواني متنازلة عن بعض قناعاتها الفكرية تحت ذريعة الوحدة الوطنية. مما مكن التيار الإخواني من الاستثمار فيها. دون حصولها على أي مقابل.

فمن كان واهماً باستحضار فارس الخوري من جديد، فاته أن الظروف تغيرت ولكل واقعة خصوصيتها. مما أبقى خطابها إنشائياً مُثقلاً بالمصطلحات المُبهمة التي لم يجر تأصيلها, والتوافق عليها وطنياً. وتحديد دلالاتها بوضوح لا لُبس فيه, في إطار الرؤية والأهداف. لبناء تيار وطني ديمقراطي يحتل موقعه في الفضاء الوطني السوري. مما جعل الكل يستثمر بهذه المصطلحات ويعمل على تأويلها لصالح مشروعه .

معارضة بائسة ساذجة تشكو الأمية السياسية, نتاج مجتمع مدمّر. بدل أن تُنتج مشروعها الوطني الديمقراطي، تحوّلت لأدوات بمشاريع خارجية. وسُلطات أمر واقع استبدادية تتشابه مع نظام الأسد ببنيتها الاستبدادية. وتختلف معه بالحامل الاجتماعي فقط. بغض النظر عن العناوين والمصطلحات البراقة التحشيدية التي تجمّل فيها بياناتها وأدبياتها وبياناتها ومؤتمراتها.

لا شك ومن الأهمية بمكان أن تجتمع القوى الوطنية الديمقراطية وتتحاور, وتقارب الرؤى, لبناء نسق من القناعات الفكرية والاعتقادية. وتؤصل المفاهيم والمصطلحات الحاملة للمشروع الوطني الديمقراطي. آن الآوان للخروج من العناوين إلى المضامين الفعلية التي تسهم في التأسيس الفعلي لمسار وطني ديمقراطي سوري.

وهذا غير ممكن إلّا عبر الحوارات الجادة والمنفتحة بين السوريين جميعاً. وعلى حامل وأرضية الهوية الوطنية السورية الجامعة. فبديل الحوار والانفتاح السوري- السوري هو تكريس الإنقسام والتشظي. ومع استمراه قد يخلق مصالح على أرضية هذا الإنقسام والتذرر تٌعاند العودة للحمة السورية. ولكن للحوار أولوياته وشروطه وحوامله. ويجب أن يكون صريحاً. وبدونها يصبح لغواً.

بالعودة لمؤتمر بروكسل؛

لنتكلم بشفافية وبدون تورية. المؤتمر ترعاه وتديره مسد المُرتهنة لقرار قسد. وهي تنظيم عسكري يرتبط عضوياً وإيديولوجياً بحزب العمال الكردستاني الـ(PKK) المصنف على لائحة الإرهاب. والذي يرأسه عبدالله أوجلان.. وهو منظمة غير سورية. والمعروف بأن حزب الـ Pyd هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني .

لم تقوم مسد وقسد بتوضيح مدى علاقتها وتبعيتها بحزب أوجلان الذي تؤكدها كل القرائن والأدلة والوقائع بما فيها الكثير من القوى والأحزاب الكردية نفسها. ووجود بعض قياداته وعناصره ضمن المنطقة التي تسيطر عليها.

بعض ممن شاركوا في المؤتمر وجهوا ثلاثة أسئلة لقسد ومسد تتعلق بـ:

(توضيح علاقتها بحزب العمال الكردستاني. وتوضيح طبيعة علاقتها مع النظام السوري. وحول الشفافية بإدارة الموارد الطبيعية. إذ تسيطر الإدارة الذاتية على أكثر من 60% من الثروات الطبيعية السورية. وهي من حق جميع السوريين. والتي تذهب بمجملها لغير السوريين). لكنها لم تقم بالرد وتهرّبت من الإجابة على هذه الأسئلة. رغم أن الإجابة عليها بشفافية وصدق هي مقدمة وشرط لازم ليكون الحوار ممكناً ابتداءً.

لم تتبنّى قسد ومسد أي موقف يقول بأن الصراع الدائر بين تركيا وحزب العمال الكردستاني يخص طرفيه. وهي قضية تركية, ونحن خارجها كسوريين. لتجنّب سورية والشعب السوري تبعاته، لا بل كما تؤكد الوقائع هي منخرطة به.

الحوار الديمقراطي يكون بين قوى ديمقراطية. وليس بين قوى وشخصيات ديمقراطية وسلطة أمر واقع قائمة بفعل الخارج. كما فصائل الشمال الغربي وما يسمّى الحكومة المؤقتة, والجولاني. جميعها لها مشاريعها الخاصة أو ملحقة بمشاريع خارجية. بمعنى أدوات في مشاريع خارجية, بما يتجاوز المشروع الوطني السوري وسورية كجغرافية.

المؤتمر هو المرحلة الأخيرة لتوقيع الوثائق واعتمادها بمعنى هو تتويج لكل الحوارات المشتركة التي جرت بين مجموعة من القوى على المواضيع والمسائل والعناوين والمصطلحات. ووصولها لمجموعة من التوافقات والمشتركات يتم رفعها للمؤتمر والإعلان عنها. وليس المؤتمر مكاناً وساحة للحوار. (أما ما سمعناه من البعض الذين شاركوا بالمؤتمر لأنهم منفتحين على الجميع, ونحاور الجميع، هو صحيح من حيث المبدأ. لكن في مثل هذه الحالة أعتقد بأن ذلك غير دقيق).

لم تراجع مسد وقسد والإدارة الذاتية المشكلة عام 2013. والتي كانت من قبل تُعرف بوحدة حماية الشعب، لم تراجع العقد الاجتماعي ومجموعة الوثائق التي سبقته. والذي كان أولها الدستور المؤقت لعام 2014 تبعه تشكيل قسد عام 2016. وما سُمّي العقد الاجتماعي للفيدرالية الديمقراطية لروج آفا وأخرها كان- العقد الاجتماعي لشعوب شمال وشرق سورية- الذي صدر العام الماضي 12/ 12/ 2023، وقد لاقى انتقادات واسعة حينها. ورفض على المستوى الكردي والعربي وعدم ارتياح دولي. وهو أشبه بدستور دولة. ينص على مجلس نقد, ومجالس تشريعية, ومؤسسات سيادية تؤسس مستقبلاً لشرعية التقسيم والانفصال. ووردت به بعض الصياغات والعبارات التي يسعى من خلالها للتقرّب من المجتمع الدولي. مثل حظر عقوبة الإعدام وضمان حرية العقيدة والضمير, وحرية الرأي, وحرية الصحافة والإعلام. وتشكيل الجمعيات والأحزاب السياسية وحقوق المرأة والطفل. والواقع والوقائع وتقارير المنظمات الدولية وآخرها تقرير منظمة العفو الدولية تقول عكس ذلك! فهو يقوم بتجنيد القاصرات والقاصرين، واستخدامهم في الأعمال العسكرية، ويعتقل ويُغيّب ويقتل ويُخفي الأشخاص ويرتكب كل أنواع الانتهاكات!

وقوله بحرية العمل السياسي، لم يسمح للمجلس الوطني الكردي إقامة مؤتمره في المنطقة التي يسيطر عليها، وأغلق مكاتبه وأعتقل بعض قياداته، فهل ما ورد في العقد الاجتماعي من عبارات وصياغات تمثّل الواقع؟ بالطبع لا، هي للاستهلاك والاستثمار مع الأسف.

في البيان الختامي للمؤتمر وردت الفقرة التالية: (التأكيد على حل القضية الكردية وفق الشرعة الدولية وضمان حقوق المكونات الأخرى). هذا النص مُلتبس ويحتاج لتوضيح وتفسير. وخاصة إذا ما ربطناه (بما ورد بالعقد الاجتماعي لشعوب شمال وشرق سورية) الذي صدر أواخر العام الماضي  والموما إليه أعلاه. إذ ورد فيه مصطلح شعوب في ترويسة العقد وفي متنه, وليس شعب! وأعتقد بأن القليل دقق في هذه الصياغة المُفخخة. وسأوضح ذلك بإيجاز.

في إطار الدولة الوطنية، الشعب هو مفهوم سياسي لا يصح أن نستخدم مصطلح شعوب، لأن الدول الوطنية تقوم على علاقة المواطن الفرد مع الدولة. عبر رابطة المواطنة. بغض النظر عن انتمائه الإثني أو الديني أو الطائفي أو أي تمايز آخر.

رغم التنوّع في الولايات المتحدة الأمريكية, أو في السويد وهما دولتان تأخذان بالنظام الفيدرالي. لم يرد في نصوص ومواد الدستور في أي من البلدين مصطلح (الشعوب) بل الشعب. فقد يكون استخدام هذا المصطلح مقصود لذاته، ومن هنا يستوجب تحديد مفهومه بدقة ووضوح. لِما قد يكون لاستخدامه من أبعاد وخلفيات، لأن ميثاق الأمم المتحدة بما فيه العهدين الدوليين تؤكّد جميعها على حق الشعوب في تقرير مصيرها وفقاً لقواعد القانون الدولي. بمعنى حقها في إقامة دولتها المستقلة، بما يؤسس للانفصال. وقد يكون استخدام هذا المصطلح مؤسس على ذلك!

القضية الكردية في سورية هي قضية وطنية بامتياز. مما يكون والحال ما ذكر حل هذه القضية يكون حلاً وطنياً بتوافق السوريين جميعاً كشركاء في حاضرهم. وشركاء في صناعة مستقبلهم.

والكل يدرك بأن نظام الإستبداد والغلواء القومي الشوفيني الذي مارسه البعث على الشعب السوري خلق تشققات وانهدامات في العمارة المجتمعية السورية. ومظالم طالت الجميع وبخاصة المكون الكردي. وحالَ دون نشوء وتشكّل الدولة الوطنية. مما أبقى كل الاستقطابات الدينية والطائفية والأثنية قائمة يلجأ لها أفراد المجتمع كمظلة حامية في غياب مظلة الدولة الوطنية الجامعة.

ولذلك حينما حدث الإنفجار العظيم في العام 2011. انطلق الجميع من الخاص. أي من خاصية انتمائه ما دون الدولة، ليُعيد انتاج العام, وغير المنتج بالأساس. ولغياب الهوية الوطنية السورية انساقت الجماعات وراء ايديولوجياتها وتموضعاتها الأثنية والطائفية للاستحواذ على سورية، وليس للشراكة فيها. مما أدار الجميع ظهره للجميع. وهذا ما قاد لهذا التذرر والانقسامات والتفتيت. فحصيلة كل مؤتمرات السوريين وحواراتهم عبر الثلاثة عشر عاماً كانت نتيجة صفرية مع الأسف، لم يتراكم أي شيء يمكن أن يُبنى عليه.

وعلينا أن نتكلم بشفافية ووضوح، قسد ومسد لم تنخرط بالمشروع الوطني السوري! وأتمنّى أن أكون مخطئاً فهي لم تكن جزء من الثورة السورية. وهنا لا أتكلم عن المكون الكردي السوري الذي كان جزء من الثورة. بل عن حزب الـPyd. المُرتبط ولاءً بحزب العمال الكردستاني ومشروعه القومي. والحاكم الفعلي لشمال وشرق سوريا. والقائم كما اسلفنا بحماية الولايات المتحدة الأمريكية لارتباطه بدور وظيفي بالتعاون مع التحالف الدولي في الحرب على داعش والتنظيمات الجهادية. وإلى الآن لم ينال الإعتراف السياسي. بمعنى في حال انتهاء الحاجة لدوره الوظيفي يخرج من المعادلة السورية. وحين تحدث ترامب قبل انتهاء ولايته السابقة بنيته الإنسحاب من سورية، هرع مسرعاً ليفاوض النظام، ويطرح عليه دمج قوات قسد بجيشه!

“مظلوم عبدي” قائد قوات سورية الديمقراطية “قسد” صرّح للشرق نيوز، ونشرت بـ13 نيسان/ إبريل لعام 2023 (أن قسد لديها علاقات مع النظام السوري وتريد تطويرها. لكنه اعتبر بأن النظام السوري يتعنت في ذلك مشيراً بأنه لا يعارض عودة علاقات دمشق مع الدول الأخرى). ومرة أخرى يسعى للدخول الى اللجنة الدستورية الهزيلة والخردة. والتي هي صناعة روسية تركية إيرانية تم تصميمها للانقلاب على العملية السياسية والقرار 2254. وإعادة تدويل النظام وتعويمه. فهو حتى الأن له مشروعه الخاص بما يتجاوز المشروع الوطني الديمقراطي السوري، ويبحث عن ارضية للبقاء والاستمرار بما يتجاوز الدور الوظيفي الذي يقوم به.

وهذا المؤتمر يأتي في هذا السياق لإيجاد شرعية وطنية وسياسية لاستمراره، دون انخراطه الفعلي بالمشروع الوطني السوري. فكيف يمكن مؤتمر المسار الديمقراطي للقوى الديمقراطية السورية؟ وفي نهاية المؤتمر تم انتخاب الأمانة العامة للمؤتمر وكان نصيب مسد 12 عضو من أصل 21!؟ وهذا يدلل بما لا يعتريه شك بأن المؤتمر هو مسرحية للاستثمار السياسي يخص مشروعها مع الأسف.

ومن هنا كنتُ لا أتمنّى للجنة السياسية لحراك السويداء حضور المؤتمر عبر ممثليها وجميعهم من السيدات والسادة المشهود لهم بوطنيتهم وشجاعتهم في مقاومة الإستبداد ونظام الجريمة والفساد. وصدق انتمائهم لجوهر وخيارات ثورة الحرية والكرامة. قبل استقراء وتحليل السياقات التي أتى بها هذا المؤتمر. والغاية منه. وليس من خلال البيانات والورقيات التي مهدت له, أو صدرت عنه، وإنما من خلال الواقع والممارسة. وغالباً ظاهر الأشياء لا يدل على حقيقتها.

فالحضور من بوابة نحن نحاور الجميع ونطرح رؤيتنا، قد لا تكون مٌنتجة وصائبة في كل الحالات. فللحوار أساسياته ومرتكزاته وأدواته وأرضيته. وغير ذلك نكون قد دخلنا من البوابة الخطأ.

كانت مسد ومن خلفها قسد تريد مشاركة حراك السويداء في المؤتمر لاستغلال واستثمار رمزيته فقط وهي غير مُهتمة بأي رأي أو مداخلة لوفد الحراك أو غيره. نعم هناك خلافات بين السوريين لا ننكر ذلك، اللوحة السورية المفتتة, والانقسامات والتذرر سيد الموقف. وإذا استمر الحال على ذلك، وفشلُنا في التجسير فيما بيننا، يعني بأن سورية تتفلّت من بين أيدينا جميعاً. والجميع سيكون خاسراً.

الحوار المُنتج والانفتاح على بعضنا البعض. هو الطريق والسبيل الذي يوقف الكارثة. الحوار الشفاف والواضح حينما تكون مداخلهُ صحيحة، يؤسس لحالة اجتماع سورية. لذلك علينا أولاً ولكي يكون الحوار مثمراً ومفيداً:

أن نقدّم أنفسنا بصفتنا أفراد سوريين شركاء متساوين في وطناً يجمعنا جميعاً. وليس كجماعات دينية أو طائفية أو قومية أو مذهبية.

السورية هي التي تخلق المساحة التي تجمعنا جميعاً. وهذا يفترض بمسد ومن ورائها قسد أن تغادر وهم الخلاصات الفردية. وتدخل هذه المساحة المشتركة الجامعة للسورين, من بوابة الهوية السورية. أول ما يتطلبه هذا، هو فك ارتباطها بحزب العمال الكردستاني بالفعل والموقف والسلوك. وليس بالكلام المُرسل. لتكون جزء من قوى الثورة السورية وشريكة حقيقية بالمشروع الوطني السوري.

ومن ثم تأسيساً على سوريتنا المشتركة كفضاء عمومي لجميع السوريين نقارب الرؤى لصياغة برنامج وطني ديمقراطي سوري عمومي يكون المدخل والمعبر لإعادة ترميم الفضاء الوطني السوري ونيل ثقة السوريين, وخارطة طريق تُحدد الآليات والممكنات والخطوات, للوصول إلى أهدافنا ببناء الدولة الديمقراطية. دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية عبر إسقاط النظام وكل اشكال الإستبداد السياسي والديني والقومي, وتجلياته بالفكر والثقافة والسلوك.

المدخل الصحيح للخروج من حالة التفتت والشرذمة الى حالة توافق وطني. وتشكيل مسار ديمقراطي سوري، يتجلّى بقدرتنا على صياغة الهوية السورية كوعاء جامع لكل السوريين بمختلف انتماءاتهم الجهوية والقومية والمذهبية كمواطنين سوريين أصلاء متساوين في الحقوق والمكانة والكرامة. فرابطة السورية كهوية تتقدّم على غيرها من الروابط ولا تلغيها. وتؤسس للمشروع الوطني.

الهوية السورية هي الرابطة المشتركة بين جميع السوريين. وهي المدخل والحامل والمساحة التوافقية التي تفتح المعابر أمام الجميع بمختلف مكوناتهم. للتأسيس لشراكة تعيد انتاج الوطنية السورية ببعدها الحضاري والإنساني. بمعنى آخر أنا سوري أنطلق من سوريتي وهي العام والمشترك بيني وبين كل من يحمل الهوية السورية. إلى عروبتي التي أعتز بها.

وعروبتي هي خاصيتي, فليس كل السورين عرباً. وهذا لا يتناقض مع عروبتي التي اعتز بها. بل يكون مصدر غنى لها. وكذلك الكردي والمسلم والمسيحي وو .. إلخ. هكذا تٌبنى الدولة الوطنية. وهكذا تتشكل البيئة المناسبة والمجدية للحوار والتوافق. ولانطلاق المسار الديمقراطي. بمعنى أول شرط للحوار هو أن يكون سوري- سوري.

فبعد ثلاثة عشر عاماً من المحنة والمحرقة السورية بعد كل الأكلاف التي دفعها السوريون.

نحن بأمس الحاجة للحوار الوطني الجاد والمسؤول. نحن بأمس الحاجة للمكاشفة والشفافية والحوار بيننا، لا للتذاكي على بعضنا.

* كاتب وحقوقي سوري

المصدر: غلوبال جستس Global Justice

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.