عبير النجار *
لم يكن تعبير “اليوم التالي” الذي أطلقه الإسرائيليون مُجرَّد مصطلحٍ عابر، بل هو أداة سياسية تهدف إلى تحويل الأنظار عن الإبادة الجارية في غزّة، وتحويل النقاش إلى مستقبلٍ مجهول. يستهدف هذا المصطلح حرف الانتباه عن الجرائم الجارية، والتلاعب بالمفاهيم، لترسيخ واقع ما بعد الإبادة، هذا التعبير يعكس الهيمنة الإسرائيلية على المشهد الإعلامي والمعرفي، ويكشف ضعف الردّ الفلسطيني والعربي في صياغة لغة تعبّر عن الواقع الفلسطيني بدقّة وأصالة، وبما يتناسب مع محطّات نضاله المهمّة بما فيها “طوفان الأقصى”، ومواجهة حرب الإبادة.
انتشر تعبير “اليوم التالي” بسرعة بين المُحلّلين والسياسيين، وأصبح يُستخدم مصطلحاً يصف مرحلة ما بعد الإبادة، كما حدث مع مصطلحات إسرائيلية أخرى مثل “بنك الأهداف” و”الرهائن” و”الدروع البشرية”، على الرغم من محاولات بعض الصحافيين والمعلّقين تقييد استخدام هذه المصطلحات بإضافات سابقة لها أو لاحقة عليها مثل “ما يسمى باليوم التالي”، إلا أن تلك الجهود لم تمنع من انتشار المصطلح واستخدامه بشكل واسع، حتى في الأوساط الفلسطينية، وفي أوساط المناصرين للحقوق الفلسطينية.
يعود توقيت استخدام هذا المصطلح إلى الأيام الأولى للإبادة، إذ استُخدم لحجب حقيقة الإبادة المستمرّة وإسكاتها، وتحويل الانتباه إلى ما بعدها، وكأنّ المطلوب نقاش مستقبلي بينما تستمرّ الإبادة ضدّ الفلسطينيين من دون التطرّق إلى أسئلة انتهاء الإبادة وعواقبها، ما يعكس قبولاً ضمنياً بترتيبات “اليوم التالي”، التي تركّز في الأمن الإسرائيلي وتجاهل حقوق الفلسطينيين. اللافت للانتباه وجودُ أوساطٍ سياسيةٍ ونشطاءَ، وحتى ممثّلين دوليين ممّن رفضوا التعاطي مع مصطلح “اليوم التالي” في الأشهر الأولى للإبادة، مشدّدين على أنه لا يجوز الحديث عن يوم تالٍ قبل توقّف الإبادة، إلا أن هذه الجهات لم تصمد في موقفها، وأرغمت على التعاطي مع استخدام المصطلح، وتقديم تصوراتها هي لذاك “اليوم التالي” الذي لا يزال موعده مجهولاً.
لقد قاومت حركة حماس نفسها التعاطي السياسي والإعلامي مع المصطلح شهوراً، ثمّ ما لبثت أن انصاعت للنقاش السياسي والتفاوضي المنصبّ على “اليوم التالي”، قبل توقّف الإبادة، وهو تغير واضح في موقفها المُعلَن. ومعروف أن المنتصر في أيّ حرب يكتب التاريخ ويصوغ السردية، لكنّ أدبيات الحروب والصراعات في العلوم الاجتماعية تعلّمنا أن القوّة عنصر متحوّل، وأن وعي الضحية الصراع قد يحرم الجلّاد من الانتصار الأخلاقي والسياسي الكامل، حتى لو حافظ على التفوّق العسكري والسياسي. السيطرة على اللغة والمفاهيم تشكّل بعداً أساسياً في هذه المعركة، وسرقة اللغة (كما سُرقت الجغرافيا) يُعدّ امتداداً لهذا الصراع.
في التعامل مع مصطلح “اليوم التالي”، نواجه ثلاثة مستويات: أولا، الخضوع الكامل. فاستخدام المصطلح من دون تحفّظات أو مقاومة، وهو الأكثر خطورة لأنه يعكس خضوعاً لغوياً وفكرياً، وتبنياً للأجندة الإسرائيلية. ثانيا، المقاومة اللغوية باستخدام لغة مضادة، مثل “اليوم التالي للإبادة” أو “اليوم التالي للنكبة”، وهي محاولات لتغيير تفسير الحدث من دون تغيير جذري في الأولويات أو الاهتمامات. رغم المقاومة، يبقى المصطلح الإسرائيلي حاضراً في هذه الصيغ. ثالثا، الإبداع اللغوي المستقلّ، عبر ابتكار لغة فلسطينية تعبّر عن الواقع والمستقبل من منظور وطني مستقلّ، مثل الاستعاضة عن مصطلح “اليوم التالي” بمرحلة “إعادة الإعمار” أو “إعادة البناء” أو “الفجر الفلسطيني” أو “البناء الوطني” أو “بناء الأمة”، بدلاً من الانجرار وراء لغة العدو. هذا المستوى هو الأكثر أهمّيةً، لأنه يتيح للفلسطينيين إعادة صياغة سرديّتهم وترتيب أولوياتهم بعيداً من المفاهيم التي يفرضها الاحتلال.
ليست اللغة مُجرَّد وسيلة للتواصل، بل أداة حاسمة في إدارة المعارك والصراعات، وفي صياغة الوعي الجماعي. في عصر “اقتصاد الانتباه”، يصبح التحكّم في السردية والمفاهيم وسيلةً للتأثير في الوعي العالمي وفرض القبول ضمنياً بالواقع الميداني من دون مقاومة حقيقية. لهذا، تبرز الحاجة إلى بناء خطاب فلسطيني مستقلّ يتجاوز المفاهيم الإسرائيلية المفروضة. وتبنّي لغة جديدة تتيح للفلسطينيين إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، ومقاومة الهيمنة المعرفية، هو الطريق نحو تحقيق انتصار حقيقي في ساحة الخطاب، حتى في ظلّ استمرار الهيمنة المادّية للعدو سياسياً وعسكرياً.
الخروج من الهيمنة اللغوية الإسرائيلية يتطلّب منا تجاوز المقاومة اللغوية والخطابية، والانتقال من مُجرّد الامتناع عن استخدام مصطلحاتهم إلى صياغة لغة وخطاب يعكسان الواقع الفلسطيني بصدق، وتقديم رؤية فلسطينية للواقع والمستقبل تستوجب صياغة التسميات والمفاهيم الراهنة وتعميمها في التعاطي مع الواقع. استخدام تعبيرات مثل “الفجر التالي” أو “بناء الأمة” يعكس إرادة في رسم جدول أعمال وطني مستقلّ يُعبّر عن طموحات الشعب الفلسطيني، ويعيد التركيز في حقوقه، بدلاً من الانخراط في نقاشات مفروضة من العدو.
على السياسيين والأكاديميين والإعلاميين الفلسطينيين مسؤولية مشتركة لتطوير مصطلحات تتوافق مع البرنامج الوطني، لكن يبقى الأكثر أهمّيةً توحيد الجهود لوقف الإبادة في غزّة أولاً، قبل الدخول في أيّ نقاش حول المستقبل، فمُجرَّد الخوض في عنوان آخر يتضمّن (ولو بشكل غير مباشر) القبول بالواقع الراهن؛ الإبادة.
الصراع على اللغة جزء من الصراع السياسي والحقوقي، فالهيمنة الإسرائيلية على المفاهيم ليست قدراً محتوماً، بل تُمكن مواجهتها من خلال تبني لغة فلسطينية مستقلّة. يجب على النُخَب الفلسطينية أن تبتكر مفاهيمَ وأجنداتِ عملٍ جديدةً، تعيد ترتيب الأولويات بعيداً من لغة الاحتلال، وتفتح آفاقاً للتفكير النقدي والمقاومة المعرفية الفعّالة، التي تصوغ مرجعياتٍ لفهم الواقع والعمل السياسي في أحلك أيام النضال الفلسطيني وأمرّها.
* كاتبة فلسطينية في الشارقة
المصدر: العربي الجديد