وليد حباس *
نشر المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) دراسة مقتضبة للباحث وليد حباس يعرض فيها لحيثيات المشروع الإسرائيلي الهادف إلى تهجير سكان قطاع غزة. وقد ضمنها معطيات تفيد الباحثين.. وهذا ما جاء في الدراسة:
في بداية العام 2024، وعشية عقد “مؤتمر الاستيطان في قطاع غزة”، قالت مديرة منظمة “نحالاه” الاستيطانية دانييلا فايس إن هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 قد غيرت التاريخ و”إنها تشكل نهاية لوجود العرب في قطاع غزة. إنها النهاية لهم…. وبدلاً منهم، سيكون هناك الكثير والكثير من اليهود الذين سيعودون إلى المستوطنات، والذين سيبنون مستوطنات جديدة”. في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، تم عقد مؤتمر الاستيطان للمرة الثانية، في منطقة ما بالقرب من حدود القطاع، حيث أعلن الوزير إيتمار بن غفير خلاله بأن “تشجيع هجرة سكان القطاع هو الأمر الأكثر أخلاقية اليوم”.
تستعرض هذه المقالة قضية التهجير، وإفراغ قطاع غزة من سكانه، باعتبارها قضية مطروحة داخل إسرائيل وإن كان حتى الآن بشكل غير رسمي.
محاولات إسرائيل لطرد سكان قطاع غزة بعد 1967:
عندما احتلت إسرائيل قطاع غزة في حزيران/ يونيو 1967، كان هناك 400 ألف فلسطيني يقطنون داخل القطاع، أكثر من نصفهم من اللاجئين.
وقد حاولت إسرائيل تنفيذ سياسات تهجير (ترانسفير) عبر ثلاث طرق:
- برنامج حكومي لتشجيع الترانسفير: حيث ناقشت الحكومة الإسرائيلية برامج مختلفة لتهجير الفلسطينيين أو نقلهم إلى خارج قطاع غزة، واعتمدت بعضها. فقد تشكلت وحدة سرية تحت إشراف رئيس الوزراء ليفي إشكول العام 1968 لتشجيع الهجرة إلى دول مثل البرازيل وباراغواي، التي وافقت بشكل مشروط على استقبال أعداد محددة من اللاجئين. وتم تعيين “عيدنا سيرنا”، وهي عميلة سابقة في الموساد، لتقود هذه الوحدة السرية لتشجيع سكان القطاع على المغادرة. رغم المحاولات المكثفة والتكاليف التي خصصت، كانت النتائج محدودة وأثارت مقاومة من الفلسطينيين والدول المجاورة. وظل الهدف الإسرائيلي بتخفيف السكان في غزة حلماً لم يتحقق، مما أدى إلى تبني استراتيجيات جديدة في العقود التالية تستهدف السيطرة بدلاً من الإخلاء، مع استمرار محاولات لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة خارجاً عبر مسارات غير مباشرة.[1]
- التهجير عبر الإفقار: وهي رزمة من الاستراتيجيات التي وضعتها إسرائيل لإفراغ قطاع غزة عبر تشجيع ما يسمى في الخطاب الإسرائيلي بالـ “الهجرة الطوعية”. وللتأكيد، لم تكن هذه هجرة طوعية لسكان قطاع غزة، وإنما هجرة قسرية عبر آليات غير مباشرة كإبقاء ظروف المعيشة متدنية ورفع معدلات البطالة. تشير التقارير إلى أنه غادر نحو 3000 فلسطيني القطاع شهرياً، لكن هذه الأعداد تراجعت بعد رفض الأردن دخولهم في أواخر 1968، وقد نشرت دراسة أن عدد الفلسطينيين الذين “هاجروا” من قطاع غزة حتى نهاية العام 1968 (أي بعد سنة ونصف السنة على بدء الاحتلال الإسرائيلي) قد وصل إلى نحو 31 الفاً، أي ما يقارب 8% من سكان قطاع غزة في حينها.[2]
- التهجير القسري: في فترة تصاعد المقاومة في قطاع غزة في أوائل السبعينيات، وخلال فترة تولي أريئيل شارون منصب قائد المنطقة العسكرية الجنوبية، قاد شارون سياسة منهجية لنقل السكان قسراً من غزة. كان يتم كل أسبوع تحميل فلسطينيين من القطاع في شاحنات ونقلهم نحو الحدود الأردنية- الإسرائيلية في منطقة وادي عربة، حيث يُجبرون على عبور الحدود إلى الأردن. طلب إسحق “إيني” عَبادي، الذي كان يشغل منصب حاكم غزة آنذاك في الإدارة العسكرية الحاكمة، من موشيه دايان إصدار أوامر لشارون بوقف هذه السياسة القسرية،[3] التي كانت تنفذ بهدوء، ولكن بانتظام، مما جعلها ظاهرة تمتد على فترة زمنية طويلة وتهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في القطاع بوسائل غير معلنة رسمياً.
صحيح أن نسبة الولادات والتكاثر في سكان قطاع غزة كانت عالية، بحيث ارتفع عدد سكان القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي من 400 ألف في العام 1967 إلى نحو 2.1 مليون في العام 2023، إلا أنه يمكن أيضاً رصد نتائج سياسات إسرائيل للتهجير بشكل واضح، وإن لم تصل إلى مبتغاها النهائي بإفراغ القطاع. وحسب جهاز الإحصاء الإسرائيلي، فقد غادر قطاع غزة ما بين 1968- 1987 نحو 94 ألف شخص (أي ما يعادل نحو 23.5% من سكان غزة في عام 1967).[4]
“أحلام” إسرائيل بإفراغ سكان القطاع بعد 7 أكتوبر:
مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أغلقت مصر حدودها مع قطاع غزة، مانعةً أي خروج للفلسطينيين، ومع ذلك تمكنت أعداد من الميسورون من المغادرة بـ “تنسيق” مقابل مبالغ طائلة دفعوها لشبكة غامضة من الوسطاء ووكلاء السفر. جاء هذا الإجراء في سياق الإبادة الجماعية وتدمير الحيز السكني في القطاع، الأمر الذي أدى إلى تشريد أكثر من 80% من سكان القطاع من منازلهم، بما يعادل نحو 1.9 مليون شخص. ويقدر دياب اللوح، سفير فلسطين في مصر، أن نحو 100,000 فلسطيني من سكان غزة قد لجأوا إلى مصر بشكل مؤقت خلال فترة الحرب، داعياً السلطات المصرية إلى إصدار تصاريح إقامة لهم إلى حين تمكنهم من العودة إلى منازلهم.[5] وفي السياق نفسه، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أنها تدرس إمكانية استقبال بعض اللاجئين الفلسطينيين من غزة ممن لديهم أقارب من حملة الجنسية الأميركية، عبر منحهم صفة اللاجئ.
منذ الأسابيع الأولى للحرب، تصاعدت داخل إسرائيل دعوات لتبني سياسة “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين، حيث اقترحت بعض الدوائر الحكومية، مثل وزارة الاستخبارات برئاسة عضو الليكود “غيلا غملئيل”، تشجيع الهجرة من غزة نحو سيناء، كخطوة نحو تخفيف العبء الديمغرافي في القطاع. بيّد أن الحكومة الإسرائيلية، رفضت تبني مقترح وزارة الاستخبارات بشكل رسمي.
وبعد شهر من اندلاع الحرب، نشر عضوا لجنة الشؤون الخارجية والأمن الإسرائيليان داني دانون (حزب الليكود) ورام بن براك (حزب “يش عتيد”) مقالاً في صحيفة “وول ستريت جورنال” دعيا فيه إلى تبني خطة تتيح إمكانية هجرة اللاجئين الفلسطينيين من غزة إلى دول أخرى تقبل استيعابهم.[6] ولا بد من التأكيد على أن لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، هي لجنة مفتاحية في ما يتعلق بالمصير السياسي والأمني للأرض المحتلة، وتُعرض أمامها تقارير من كبار المسؤولين الإسرائيليين في مجالات الأمن، الخارجية، والاستخبارات، بمن في ذلك رئيس الوزراء، وزير الخارجية، وزير الدفاع، رئيس هيئة الأركان، رئيس الشاباك، رئيس الموساد، رئيس شعبة الاستخبارات، ورئيس مجلس الأمن القومي. يتلقى أعضاء اللجنة معلومات واسعة من الجهات الأمنية، مما يجعل معرفتهم بالشؤون الأمنية غالباً أوسع من غالبية الوزراء وحتى بعض أعضاء الكابينيت الأمني.
مؤتمر الاستيطان في قطاع غزة:
في آذار 2024، صرحت “دانييلا فايس” عن أفكارها المتعلقة بتهجير سكان قطاع غزة عبر مقابلة مع شبكة سي إن إن (CNN)، وقالت: “لن يكون هناك عرب في قطاع غزة، أنا أتحدث عن أكثر من مليوني شخص. لن يبقوا هناك… نحن اليهود سنكون في غزة”.[7] وفي مقابلة أخرى مع صحيفة فايننشال تايمز (Financial Times)، قالت: “كل العرب سيخرجون من غزة، وغزة ستكون منطقة يهودية. دعهم يذهبون إلى أفريقيا أو تركيا أو اسكتلندا. عندما لا يكون سكان القطاع مكدسين في مكان واحد، ربما تكون أوضاعهم أفضل”.[8]
تعبر منظمة “نحالاه” عن إسرائيل الاستعمارية- الاستيطانية بصورتها الأكثر وضوحاً، وتترفع عن إخفاء نواياها الاستيطانية كما تفعل الحكومة الإسرائيلية أو الجيش الإسرائيلي. فمنذ تأسيسها العام 2005، شكلت المنظمة رأس حربة للتوسع الاستيطاني، والسيطرة على أراض أكثر، وقيادة الأنوية التوراتية التي تبني مستوطنات الكرافانات في جبال الضفة الغربية والتي تكاثرت كالفقع لتصل إلى نحو 200 مستوطنة، نحو 64 منها تم بناؤها منذ العام 2023. مؤسسة منظمة “نحالاه”، ومديرتها حتى اليوم، هي دانييلا فايس، من أهم قيادات المستوطنين في الضفة الغربية، وربما أكثرهم نشاطاً على صعيد الاستيلاء على الجبال في الضفة الغربية وبناء مستوطنات الكرافانات. وقد أعلنت منظمة “نحالاه” أنها أعدت نحو 700 عائلة من المستوطنين المتطوعين (أنوية استيطانية) والذين أبدوا استعدادا للانتقال فورا للاستيطان في قطاع غزة.
تكشف هذه الأحداث عن ديناميكيات جديدة تتعلق بمصير سكان غزة في ظل الأزمات المتكررة. يبدو أن الدعوات المتزايدة في إسرائيل لتشجيع الهجرة الطوعية هي جزء من استراتيجية تهدف إلى تخفيف الضغوط الديمغرافية والسياسية الناجمة عن الأعداد الكبيرة لسكان غزة. ومع أن الاستجابات الدولية لا تزال محدودة، فإن مسألة توطين الفلسطينيين خارج القطاع تُبرز تعقيدات دولية وسياسية، وتفتح أسئلة جديدة حول المستقبل الديمغرافي والسياسي للقطاع وسكانه.
………………
هوامش:
[1] عومري شابير- ربيب، “مكان يجب إخلاؤه من السكان”، مجلة قضايا إسرائيلية، العدد 92 (شتاء 2023).
[2] Gabriel Stuart and Eitan Sabatello, „Palestinian Migration from the West Bank and Gaza”, in Economic Development and Cultural Change, Jan 1986, Vol. 34, No. 2 (Jan 1986).
[3] أنظر/ي الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=v8ZYkohXY5I
[4] Shafer Raviv, O. (2021). Israeli emigration policies in the Gaza Strip: crafting demography and forming control in the aftermath of the 1967 War. Middle Eastern Studies, 57(2), 342–356.
[5] أنظر/ي الرابط: https://www.reuters.com/world/middle-east/palestinian-embassy-seeks-temporary-status-gazans-who-entered-egypt-during-war-2024-05-02/
[6] انظر/ي الرابط: https://www.ynet.co.il/news/article/ryu1113en6
[7] https://edition.cnn.com/2024/03/20/middleeast/israel-gaza-settlers-daniella-weiss/index.html
[8] https://www.ft.com/content/8a6a3e01-0f92-4541-9b90-c19e6fd030d4
ــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)