رياض معسعس *
ما نشهده اليوم من تغول إسرائيل الدولة التي صنعتها بريطانيا، ورعتها أمريكا، يعود بشكل أساسي إلى مجموعة أسباب تتعلق لا شك بسياسة الغرب الاستعمارية واستخدامها القوة العسكرية في إرضاخ الشعوب المستعمرة واستعبادها لنهب ثروات البلاد والتمدد في كل المناطق التي يمكنها أن تتمدد فيها. لكن فيما يتعلق بالمنطقة العربية ورغم المخططات الاستعمارية البريطانية ـ الفرنسية المشتركة لتقاسم تركة رجل أوروبا المريض (السلطنة العثمانية) والتي كان التآمر عليها يطبخ على نار هادئة منذ نهايات القرن التاسع عشر (بمشاركة فعالة ليهود الدولما)، فإن فقدان النظرة الاستراتيجية، والأخطاء الفادحة التي ارتكبها زعماء العرب وأولهم الشريف حسين (ولا يزالون) كانت السبب الأول في النكبة الفلسطينية بشكل خاص والعربية بشكل عام، والمستمرة حتى اليوم.
ثورة الشريف حسين:
انطلقت ثورة الشريف حسين (ما اصطلح على تسميته بالثورة العربية الكبرى) ضد العثمانيين في 10 حزيران/يونيو 1916 (أي بعد سنتين من بدء الحرب العالمية الأولى وكان عشرات الآلاف من الشباب العرب يحاربون إلى جانب الجيش العثماني بعد نداء “السفر برلك”، وشارك الآلاف منهم في معركة محج قلعة/ غاليبولي وحققوا انتصارا على الحلفاء). بعد أن وجد الحلفاء أن احتلال الأراضي العربية (من اليمن جنوبا إلى سوريا الكبرى والعراق شمالا) لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة عربية لأن السلطنة لديها قوات كبيرة منتشرة في سوريا وأراضي الجزيرة العربية وقادرة على دحر قوات التحالف، فكان لابد من استخدام الخديعة الكبرى بوعود خلبية ببناء “الخلافة الإسلامية العربية” بقيادة الحسين شريف مكة، عبر مواجهة إعلان السلطان العثماني بالجهاد الإسلامي، وخشية انتفاضة المسلمين في الهند البريطانية التي انخرط منهم عشرات الآلاف في الحروب البريطانية.
ولهذا الغرض قامت بريطانيا بالاتصال بالشريف حسين عبر هنري مكماهون ممثل بريطانيا في مصر (مراسلات الحسين مكماهون بدأت في 14 تموز/يوليو 1915 أي بعد سنة تماما من بدء الحرب العالمية) وأرسلت الجاسوس توماس لورنس (الشهير بلورنس العرب الذي كسب ثقة الأمير فيصل نجل الحسين، وألف كتابا بعنوان أعمدة الحكمة السبعة المليء بالكذب)، وكان قد قدم تقريرا لأسياده يقول فيه: “إن ثورة الحسين مفيدة لنا لأنها تسير مع أهدافنا الحالية لكسر الكتلة الإسلامية، وهزيمة الإمبراطورية العثمانية… والدول التي سيقيمها الشريف حسين غير ضارة لأن العرب نسيج من الإمارات الصغيرة المتنافسة وغير قادرة على التلاحم”.
كان الشريف حسين في مكاتباته لمكماهون يصر ويؤكد على إنشاء خلافة إسلامية تضم كل المناطق العربية من ماردين وديار بكر ولغاية اليمن. وكان مكماهون في رده الأول على مطالب الشريف حسين: “التأكيد على رغبة البريطانيين في استقلال شبه الجزيرة العربية وسكانها جنبا إلى جنب مع الموافقة على الخلافة العربية” وفي الرسالة الثالثة يؤكد: “إن بريطانيا العظمى مستعدة للاعتراف باستقلال العرب ولتأييده في جميع المناطق داخل الحدود وضمن القيود التي طالب بها شريف مكة”. وفي آخر رسالة يعيد التأكيد: “يسرني أن أخطركم بأن حكومة جلالة الملك قد صادقت على جميع مطالبكم”.
وكان هذا هو الطعم في الخديعة الكبرى لينخرط العرب في الحرب ضد السلطنة العثمانية لصالح الحلفاء. وكانت ثقة الشريف حسين كبيرة جدا بالبريطانيين. مع أن بريطانيا وحليفتها فرنسا كانتا تتفقان في الخفاء على قسمة هذه البلاد في معاهدة سايكس ـ بيكو الشهيرة، والأخطر من ذلك هو التخطيط من قبل بريطانيا بإقامة دولة لليهود في فلسطين، وفرنسا بدورها تقيم دولة طائفية في لبنان يحكمها المسيحيون. وقد أفشت روسيا البلشفية بعد ثورتها على ملكية آل رومانوف (التي شاركت في هذه الاتفاقية على أن تكون حصتها أن تحتل اسطنبول)هذه الأسرار علم بها العرب عبر صحيفة البرافدا.
ورغم ذلك بقي الشريف حسين يثق بالبريطانيين حتى أنه أوصى نجله فيصل الذي ذهب ليمثله في مؤتمر الحلفاء في باريس بالقول: “طبق ما يقول حلفاؤنا الاوفياء الأنكليز ولا تأخذ أي مبادرة من نفسك”، (كان موقف الأمير فيصل مذلا عندما وصل فرنسا رفضت الحكومة الفرنسية أن يشارك في مؤتمر السلام، وأرسلت موفدا تعلمه بذلك وأخذه في رحلة سياحية إلى أن تم تدخل رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج وحجز له مقعدا في المؤتمر، عرض من خلاله مطالب والده بوحدة العرب وإنشاء مملكته، لكن النتائج كانت مخالفة تماما، رغم أن فيصل كان قد وقع على اتفاقية مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية قبل أسبوعين من انعقاد المؤتمر بالاعتراف بوعد بلفور وبحضور لورنس الذي ترجم الاتفاقية من الإنكليزية للعربية ولكن بشرط أن تبقى فلسطين تحت سيادة عربية. وأكد وايزمان له أنهم لا يريدون لليهود أكثر من ملجأ).
الشريف حسين من جانبه استمر في رفضه الاعتراف بسايكس ـ بيكو وبوعد بلفور، رغم عرض معاهدة ثنائية عليه مع بريطانيا مقابل دعمٍ سنويّ قدره مئة ألف جنيه إسترلينيٍّ) الأمر الذي دفع بريطانيا سحب دعمها له، ثم نفيه إلى قبرص، وتحويل الدعم إلى عبد العزيز آل سعود الذي قام بمعارك كبيرة ضد آل الرشيد في نجد الموالين للعثمانيين، وأشراف مكة الذين تم طردهم من الحجاز.
ماذا لو؟ ماذا لو أن الشريف حسين بقي مواليا للباب العالي وحارب إلى جانبه؟ ربما كان قد تغير المشهد برمته، ففي واقع الأمر أن تحالف الشريف حسين (الذي يمثل المسلمين) مع الحلفاء (المسيحيين) لإسقاط خليفة المسلمين في إسطنبول لم يكن قابلا للتصور (كما لو نشأ تحالف بين السلطنة العثمانية المسلمة مع بريطانيا وفرنسا لإسقاط بابا روما في عهد البابوية). فبماذا كافأ الحلفاء الشريف حسين؟ الجواب كان واضحا بعد سقوط السلطنة العثمانية: (معاهدة سايكس ـ بيكو، وعد بلفور، مؤتمر سان ريمو المشرع للانتداب أي الاستعمار الجديد)، ولو افترضنا أن العرب كانوا قد شاركوا السلطنة في حربها ضد الحلفاء (باتفاق سري معها على أن ينالوا استقلالهم) لكان العرب كسبوا ود تركيا إلى الأبد حتى لو خسرت الحرب لأن النتيجة على العرب لن تكون أسوأ مما تلقوه من الحلفاء، وإن لم تخسرها لربما نال العرب استقلالهم باتفاق مع تركيا، وفشل وعد بلفور وسايكس بيكو.
ما أشبه اليوم بالأمس:
كما تعرضت الأمة العربية بالأمس لهجمة استعمارية من قبل التحالف البريطاني ـ الفرنسي، ولم يفلح قادة العرب آنذاك في فهم ميكيافيلية الغرب والشرك الذي أوقعهم فيه والذي نعاني منه حتى الآن تتعرض الأمة العربية بأكملها اليوم لأشرس حملة استعمارية صهيوـ أمريكية، بدعم بعض الدول الأوربية من المستعمر القديم، ورغم وضوح الصورة التي لم يحجبها زعماء إسرائيل بنواياهم التمدد المستمر في الأراضي العربية، والقضاء على كل مقاومة، وخلق شرق أوسط جديد يوافق مخططاتهم ومآربهم، فإن ردود الفعل لدى الزعماء العرب إزاء ما يجري على الساحة من جرائم قتل وتدمير في أكثر من مكان على الأرض العربية، يقترب من العدم، ولا يمكن وصفه إلا بالمخزي، والمقزز. مع أن التهديد يطالهم جميعا دون استثناء. إن هذا الظرف الخطير الذي تواجهه الأمة العربية بأكملها يتطلب موقفا موحدا، صارما، وتوحيد كل الإمكانيات لمواجهة الخطر المداهم، وإلا ستقع هذه الأمة في مآزق ستعاني منها قرنا آخر بسبب الأخطاء السياسية الكبرى التي يرتكبها الزعماء المفتقرون للنظرة الاستراتيجية البعيدة، والأمثلة كثيرة، فخطيئة حرب حزيران/ يونيو ما زلنا نعاني منها إلى اليوم، وكذلك خطيئة غزو الكويت التي جلبت الحروب الأمريكية يعاني منها العراق.
وتنسحب هذه الأخطاء على كل الزعماء الذين واجهوا شعوبهم بالرصاص بعد ثورات الربيع العربي، واتفاقيات التطبيع التي لا تعطي حصانة لأي دولة قامت بها، ففي ساعة الصفر ستنقلب إسرائيل عليها كما فعلت باتفاقية أوسلو، واليوم تنتهك اتفاقية كامب ديفيد في محور فيلاديفيا، واتفاقية وادي عربة تنتهك يوميا في اعتداءات الأماكن المقدسة التي تعود وصايتها للأردن، وإرسال مدرعاتها إلى غور الأردن. وتجدر الإشارة هنا إلى تصريح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موجه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الذي أنكره لاحقا لكن المهم هو جواب نتنياهو) يقول: “يجب ألا ينسى نتنياهو أن بلاده أنشئت بقرار من الأمم المتحدة” ليأتي الرد سريعا من نتنياهو: “لم تنشأ إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة بل بموجب الانتصار في حرب الاستقلال الذي تحقق بدماء المقاتلين الأبطال، وبينهم العديد من الناجين من المحرقة خصوصا من نظام فيشي في فرنسا” (انظر مقالنا السابق بعنوان السياسة الفرنسية والموقف من إسرائيل). وهذا يعني أن الفلسطينيين تحولوا إلى مستعمرين لأرض يعيشون عليها منذ آلاف السنين. هذه هي عقلية زعماء إسرائيل والصهيونية العالمية الذين كانوا فقط يوهمون الشريف حسين ونجله بأنهم يبحثون عن ملجأ آمن في فلسطين، لكنهم كانوا يضمرون مخططاتهم وأن بناء إسرائيل سيعتمد على الانتصارات في الحروب، وليس الاتفاقيات “التكتيكية”، أو القرارات الدولية التي من السهل عدم احترامها طالما أن أمريكا تحمي إسرائيل.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي