مالك ونوس *
ثبتَ أنّ لبنان كلّه، وليس حزب الله وبيئته الحاضنة والمناطق التي تسكنها فحسب، بات مكشوفاً للإسرائيليين؛ يعرفون السكّان بالاسم، ويعرفون مذاهبهم وتوجّهاتهم السياسية ومستوى تعليمهم وأعمالهم، ويراقبون تحرّكاتهم، وربّما يحصون ما يملكون، وحتّى ما يتبضّعون وما ينفقون وأين. وإذ انقلبت الحياة الرتيبة للبنانيين فجأة بعد تفجيرات أجهزة البيجر والووكي توكي، في الـ17 من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وقتلت أفراداً من حزب الله ومناصريه وأصابت الآلاف، بات التوجسّ مهيمناً على حياة اللبنانيين، وبات كلّ فردٍ يخاف أن ينفجر الشخص الذي يقف معه فيلقى حتفه في مصادفة، وبطريقة للموت لا يتوقّعها حتّى أصحاب أعتى العقول الشيطانية. وبينما جاءت الحرب الإسرائيلية الجارية لتدمّر جغرافياً البلاد وقطاعاتها الاقتصادية والخدمية، فإنّ الدمار السياسي كان قد حلّ مع تعمّق أزماتها السياسية والاقتصادية وعجز السياسيين وربّما امتناعهم، عن أيّ تحرّك يوقف الانهيار، ويحد من توسّع الحرب، ما ينذر بتغيير شكل البلاد، فلا تصبح البلاد التي عرفناها أو حتّى توقّعناها في أسوأ كوابيسنا.
كثيرة أطماع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي لن تتنازل عنها في لبنان، تلك الأطماع القريبة المتمثّلة في مياه نهر الليطاني والمنطقة الواقعة جنوبي هذا النهر، والتي تسرّبت مخطّطات الإسرائيليين بصددها قبل عشرات السنين، ولم يتوقّفوا يوماً عن الإفصاح علناً عنها، وكأنّهم يقولون للبنانيين جهّزوا أنفسكم وسلّموا بالأمر الواقع سنأخذ مياهكم وأرضكم، ولن تستطيعوا فعل شيء. ولم يكن اتباع إسرائيل سياسة الأرض المحروقة بتدمير القرى الواقعة جنوب هذا النهر وتهجير سكّانها سوى الإجراء الأولي التمهيدي بغرض تغيير معالم المنطقة، ومن ثمّ احتلالها وتغيير مسار النهر ليصبّ في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ثمّ ضمّها أخيراً. أمّا الأطماع البعيدة فتتمثّل في احتلال لبنان بأكمله وضمّه للدولة العبرية، تنفيذاً لخطّة الشرق الأوسط الجديد الهادفة إلى تغيير معالم المنطقة العربية، التي تحدّث عنها رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عشيّةَ إعلان حربه على قطاع غزّة قبل سنة، وردّدها مرّات عدّة بعدها.
بسبب الدعم الأميركي والغربي (العسكري والسياسي) غير المحدود للحرب الإسرائيلية على غزّة ولبنان، لا يُرجى من أيّ تحرّك غربي (إن وجد) أن يُؤتي ثماره ويوقف الحرب على لبنان، على أقلّ تقدير. ولذلك لا يمكن فكّ الارتباط بين دعم الولايات المتّحدة الحرب الإسرائيلية وتزويدها الكيان بصنوف الأسلحة والقذائف كافّة، ومنها القنابل المحرّمة دولياً من قبيل الفوسفور الأبيض الحارق وغيره، وترميم ترسانتها كلّما شارفت على النفاد، وبين تصاعد الجرائم الإسرائيلية عبر الاستمرار بقتل المدنيين وتهجير السكّان واستهداف البنية التحتية للبلاد من أجل شلّها، ودفع مزيد من السكّان إلى النزوح نحو مناطقَ أخرى.
بعد تكثيف جيش الاحتلال الإسرائيلي حملته الجوّية على لبنان، في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، وقتله أكثر من 550 مدنياً، بينهم نساء وأطفال، وجرح آلاف، بعد شنّه مئات الغارات الجوية في يوم واحد، تبيّن أنّه بذلك أطلق إعلانه الدموي لبدء الحرب رسمياً على هذا البلد. وقد أدّى استمرار الغارات الإسرائيلية إلى تدمير عشرات القرى وتفريغها من سكّانها وتفجير آلاف المنازل، واستشهاد أكثر من 2546 شخصاً وجرح 11862 آخرين، بحسب بيان صدر قبل أيام عن وزارة الصحة اللبنانية. كما هجَّر القصفُ أكثر من مليون و200 ألف شخص من قراهم ومدنهم التي، إنْ استطاعوا العودة إليها، فلن يجدوا سوى الركام، وحطام المنازل، والحقول المُجرَّفة والمُحترقة. وقد انضمّت مدينة صور الجنوبية أول من أمس الأربعاء (23 أكتوبر/ تشرين الأول) إلى القرى والبلدات المنكوبة، بعد استهداف الطيران الحربي الإسرائيلي عمارات سكنية يقطنها مدنيون. وليس معلوماً متى يمكن أن توقف دولة الكيان حربها، أو متى يمكن أن تتوقّف الولايات المتّحدة ودول الغرب عن دعم إسرائيل بالأسلحة ومساندتها بالسياسة، على الرغم من أنّ الوقائع تشير إلى ارتكاب جيش الاحتلال عشرات جرائم الحرب الموصوفة والمكتملة الأركان، علاوة على اتّباعه سياسةَ التطهير العرقي ونقل السكّان عبر تهجير القرى الجنوبية، وضاحية بيروت الجنوبية، وغيرها من المناطق، وتحويلهم نازحين تعجز مراكز الإيواء عن استيعابهم.
قبل الحرب الإسرائيلية الجارية، كان لبنان في طور الانهيار، بعد أن أصبح دولةً فاشلة، نتيجة الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية التي استبدّت به، وبات عاجزاً عن تأمين متطلّبات مواطنيه الغذائية والدوائية، وعاجزاً عن سداد ديونه بعد إعلان إفلاسه رسمياً إثر تعليقه سداد ديونه سنة 2020، وكذلك عاجزاً عن تأمين حدوده الجغرافية وحماية أمن مواطنيه. وزاد في الطين بلّةً غياب السلطة التنفيذية بعد فراغ موقع رئاسة الجمهورية قبل سنتَين، وتحوّل حكومته حكومةَ تصريف أعمال، أي حكومة عاجزة لا تملك قراراً. وقد فاقم هذه المشكلات الاستقطاب السياسي الحادّ والخلافات بين الزعماء السياسيين وزعماء الطوائف، ما زاد من التشرذم ومنع انتخاب رئيس جديد، لأنّ كلّ طرف يريده أن يكون في مقاسه وإلا يُعطِّل عبر نوابه انتخابه في مجلس النواب.
قبل هذه الحرب التدميرية، كان هنالك من يخرج كلّ حين ليتنبأ ويحذّر من خطر “زوال لبنان”. قال ذلك الموفد الفرنسي إلى لبنان، إيف لودريان، الذي صرّح في بيروت بما مفاده بأنّ لبنان السياسي سينتهي إذا بقيت الأزمة على حالها من دون رئيس جمهورية، ولن يبقى سوى لبنان الجغرافي. قال لودريان ذلك أواخر مايو/ أيار الماضي، ولم تكن قد اندلعت هذه الحرب التي أخذت تدمّر “لبنان الجغرافي”. وقد تبيّن أنّها حرب تجري وفق أجندة إسرائيلية معدّةٍ سلفاً، وسيجري تنفيذها إلى النهاية حتّى تدمير البلاد، ولن تتوقّف إلى أن يظهر ما يردع الإسرائيليين عن فعل ذلك، سواء كان الرادع عسكرياً أم سياسياً دبلوماسياً.
انتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى تنفيذ سياساتها التدميرية التي اعتمدتها في غزّة، لتعتمدها في لبنان، عبر استهداف القطاعات المالية التابعة لحزب الله، التي يمكن لها أن تسهم بطريقة ما في مساعدة النازحين. كما بدأت باستهداف القطاع الصحّي عبر استهداف بعض المشافي وتوجيه تحذيرات إخلاء إلى أخرى، قبل ضربها وتدميرها. وهذا يشير إلى أنّ البلاد تتّجه إلى مرحلة جديدة من التدمير، في وقتٍ تعاني فيه من التصحّر على الصعيد السياسي، مع استمرار بعض الأفرقاء السياسيين في تعنتهم، ورفض بعضهم الرئيس التوافقي المُقتَرح. ولا عجب، إذ إنّ مَنْ ساهم من زعماء الطوائف في دمار البلاد اقتصادياً وسياسياً، لا يرى في دمار قطاعاتها الاقتصادية والخدمية وجغرافيتها سبباً يؤدّي إلى زوالها، أو سبباً يدعوه إلى تحمّل مسؤولياته الأخلاقية، قبل أن يتحول لبنان أمام أعينهم بلاداً لم يألفوها.
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: العربي الجديد