إزاء رقعة متسعة للصراعات العسكرية والحروب في المنطقة، وإزاء تنوع الفاعلين كإسرائيل وإيران وصولاً لحركات وميليشيا مسلحة كحماس وحزب الله والحوثيين والحشد الشيعي.. إلخ، وإزاء تعثر متكرر للجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراعات وإيقاف الحروب ووضع حد لمعاناة إنسانية صارت فادحة بكلفة مادية ومعنوية لامست حدود التدمير الشامل، والإلغاء الكامل لمقومات الحياة الآمنة، إزاء كل ذلك تنجرف المنطقة ذات الأغلبية العربية، إلى حافة هاوية تستهلك طاقات الجميع وتعبث بما تبقى لها من شروط الاستقرار والسلام وفرص التنمية المُستدامة وتفرض عليها وضعية أشبه بوضعية حرب استنزاف لا نعلم متى ستنتهي، لأن المنطقة وقعت في أسر «العصر الإسرائيلي»، وهذا ليس تعبيراً مجازياً لأنّه صار هناك قضيّتان بدلاً من واحدة، الأولى القضية الفلسطينية التي ازدادت ابتعاداً عن الحلّ، والثانية استعادة الدول من الميليشيات.
إن التصعيد الصهيوني الجنوني مستمر والاستباحة تتسع والأهوال تكبر والحرب على لبنان مفتوحة بلا مُهل وقد تصل لما بعد الانتخابات الأمريكية بأشهر، فمن ذا الذي كان يعتقد أن الحرب على غزة ستطول لأكثر من سنة؟ فلا نهايات قريبة للحرب على لبنان، لنفس الأهداف في غزة لجهة تدمير «حزب الله»، لا بل لإلغائه، تحت وطأة ضربات فتاكة تمارسها آلة الحرب الإسرائيلية، تماماً كما تم في غزة لجهة «تدمير الضلع الفلسطيني في المشروع الإيراني»، وفوق كل ذلك إلحاق الدمار الكبير بكل لبنان وفلسطين.
فأحداث عام ونيف على بدء حرب «المُشاغلة» المزعومة، أظهرت أن طهران و«حزبها» لم يبرعا في القراءة السياسية ولا في تدقيق موازين القوى العسكرية، فحوّلت إسرائيل حرب «إسناد» غزة لـ«حربٍ شاملة»، وبدل ما كان يهدد به «حزب الله» من أن توسعة العدوان ستدفعه إلى حرب دون ضوابط ولا سقوف، تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمر التي تمنع قوانين الحرب تجاوزها، مع توقع الأسوأ؛ إذ قد لا تبقى منطقة آمنة، فوُضِعت «عقيدة الضاحية» في التطبيق لإنزال العقاب الجماعي بالمواطنين اللبنانيين، بتدمير العمران وارتكاب المجازر وتهجير متكرر للمُهجرين، والقضاء على إمكانيات العيش والاستمرار.
صار الهدف شطب الأذرع الإيرانية كلها من الوجود، وتحديد الصهاينة للأدوار، واتسعت حرب إلغاء القدرات العسكرية والمادية لـ«حزب الله»، وعدم القبول إلا بإذلالٍ تام له وقبول الفصل بينه وبين غزة صاغراً وانسحابه لما بعد الليطاني شمالاً- بعد كل العجرفة والغرور والإجرام والكذب الصريح- باتفاقية موثقة يُشرف عليها الصديق القديم للجاسوس الأول حافظ أسد، الصهيوني «آموس هوكشتاين» بأن يكون الجيش اللبناني ناطوراً لحدود إسرائيل كما هو دور الجيش السوري منذ 1970، دون أي التفات لحجم الدمار الذي طال لبنان، فبعد مرحلة قتل القادة واصطياد وتعشيب مسؤولي «حزب الله»، كما تدمير الترسانة الصاروخية والقدرة العسكرية، كان تدمير القدرات المالية، كمؤسسة «القرض الحسن» التي عبرها يتم تمويل «الاقتصاد الموازي» للدويلة، وعبرها تتم أكبر عمليات السطو والسرقة وتبييض الأموال المتأتية من تجارة كل الممنوعات!
فإذا كانت غالبية الدول العربية «الغارقة» في انقسامات واحترابات وولاءات فضلاً عن الاحتلالات، غير قادرة على توحيد نفسها وعلى مواجهة استحقاقات المرحلة من تأخر وتحقيق أسباب التقدم وتجاوز الانقسام، فهل ستكون قادرة على دعم ونصرة الفلسطينيين ومواجهة إسرائيل؟! وفوق ذلك ومعه: أن الفلسطينيون أنفسهم غير قادرين على إنهاء «انقساماتهم» لمواجهة العدو المشترك؟! وإن أي عربى يسأل: أين دعم الدول العربية للقضية الفلسطينية، عليه أن يسأل نفسه عدداً من الأسئلة البسيطة والبديهية ليدرك حقيقة الواقع المرير، لعلَ هناك أفكاراً للخروج من هذه الحالة المُزرية، من مثل: ما الذي تملكه العديد من الدول العربية غير إصدار بيانات «الشجب والإدانة» لإسرائيل، وبيانات «التضامن» مع الفلسطينيين؟ بل وصلنا لمرحلة صرنا «لا نجد فيها» حتى بيانات الشجب!
فما الذي يمكن أن تفعله دولة كـ«سورية»، بعد أن دمر النظام الأسدي بإجرامه جيشها ووضعه بمواجهة الشعب لمنعه من تحقيق التغيير المُفضي للحرية والديمقراطية وتداول السلطة بشكل سلمي منذ آذار/ مارس ٢٠١١، ونفس النظام المجرم استدعى الاحتلالات وكل المرتزقة الطائفية لمساعدته بالتخلص من الشعب!، وللأسف فإن الواقع الحالي للثورة السورية لا يسرُ أحداً، ومع ذلك يُصر من «استأثروا بقيادة المعارضة» السياسية والعسكرية والحكومية والتفاوضية على التمسك بمناصبهم حتى لو فشلت الثورة كلياً وخسر الشعب السوري قضيته، فأمام مناصبهم لا شيء يستحق الذكر, وعلى مدار 13 عام مازلنا نعاني من نفس المشكلة ونفس الأداء الفاشل, ونفس المسار غير المُجدي ونفس التعاطي ورهن القضية لـ«أجندات ومؤتمرات انفصالية» لا تخدم الثورة، ومع ذلك يُصر هؤلاء على الاستمرار بمعزل عن إرادة الشعب في الداخل وفي دول اللجوء دون أيةِ مراجعة!!
وكما سمح «نظام الكبتاغون» الفاشي، المستبد، لكل جيوش القوى الكبرى بالتواجد على أراضي سورية، كي يربك الشعب الثائر ويُهجره ويمنع تحقيق أهدافه، وليس آخرها إسقاط النظام بجميع أركانه ومرتكزاته ومحاسبة كل من أوغل بدماء الشعب السوري وساهم بسحله وتهجيره، وهو لم يبّقِ إلا على ميليشيا تحمي نظامه القاتل وتحويل الجيش ليصبح أحد تلكم الميليشيات التي كان مثالها الأعلى ميليشيا إيران ممثلة بـ«حزب الكبتاغون في لبنان»، الأمر الذي باتت معه سورية مكشوفة أمام إسرائيل لتُشَن عليها هجمات متكررة دون أن تقوى ميليشيا ما بقي من الجيش السوري المُتهالك من مواجهتها والتصدي لها.
نفس الكلام وبأشكال مختلفة يمكن أن يُقال على ليبيا واليمن والسودان والصومال والعراق و«تشقق بلدانهم وجيوشهم الكرتونية» إلى ميليشيا لمواجهة شعوبهم، ونعلم جميعاً ظروف دول الخليج وارتباطاتها ومعظمها لا يملك جيوشاً حقيقية، ربما باستثناء السعودية التي حارب جيشها طويلاً، بدون جدوى، لصالح ما سمي قوى الشرعية باليمن ضد الحوثيين الانفصاليين المدعومين من إيران، ونعلم ظروف الأردن الصعبة وموقعه الجغرافي شديد الصعوبة كالذي يسير على وتر مشدود دائماً، ولا ننسى أيضاً المغرب والجزائر وتونس ومصر ومزاوداتهم فضلاً عن دور «جامعةِ سُلطاتهم» كشاهد زور على جميع انتهاكات الأمة ودولها وتيسير خطط الغرب والصهاينة! وكلهم يحاولون إلهاء شعوبنا بأقنية فضائية، مع بث مباشر للمجازر عبر مراسلين خشبيين لا علاقة لهم بأهداف وآمال شعوب الأمة، وتستضيف «محلولين» مرتبطين بهم وبأجنداتهم المتوافقة مع الأجندة الصهيو- أمريكية!
نفس الأمر ينطبق على لبنان، فـ«حزب إيران في لبنان» الذي زعمَ دعم الفلسطينيين واسناد غزة، ما كان دوره إلا تنفيذاً لتوجيهات إيران كأحد أذرعها بالمنطقة التي تقاتل عنها، كما هي أدوار كل أذرع ما يسمى محور المقاومة وما هو إلا محور للمقاولة و«القتال باللحم العربي» عن إيران وحلفها المشبوه والإجرامي.
هؤلاء جميعاً على خلاف جوهري وكبير مع بقية قوى الشعب وأحزابه السياسية، وما اختطاف الدولة اللبنانية لصالح الدويلة، إلا نموذجاً لخوض الحرب لمصالح طائفية لم تستشر بقية القوى السياسية اللبنانية فيها، ونفس الأمر ينطبق على ما يسمى الحشد الطائفي الشيعي في العراق لتنفيذ الأجندة الإيرانية دون موافقة الحكومة العراقية المرتبطة باتفاقيات رسمية مع الولايات المتحدة.. كما غيرها من الحكومات العربية!
وأخيرا خاب أمل الكثيرين في توجيه ضربة إسرائيلية ساحقة وكبيرة ضد إيران، وتبين أن شهر الغرام والعلاقات الودية بينهما لم ولن ينتهي مهما حصل للعرب في غزة أو لبنان أو سورية أو العراق أو اليمن، لقد حصلت الضربة الإسرائيلية لإيران بنفس مسرحية ضربة إيران لإسرائيل! وتبين أن أهمية إيران لأمريكا بنفس أهمية إسرائيل في سياستها الخارجية وأمنها القومي، وأن ما تحت الطاولة كبير جداً جداُ بينهما، أما الموت والقتل والدمار فهو من حصة العرب فقط، ومُتفق عليه بين أطراف الحلف الغادر: أمريكا وإسرائيل وإيران!
أخيراً لا وجود لجيوش عربية وفق نصوص دساتيرها، الموضوعة على الأرفف، إلا لتنفيذ الأجندات السلطوية والغربية خارج مصالح وأهداف الأمة العربية وشعوبها ومستقبلها.