الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أكاذيب الحملات الإعلامية على عبدالناصر

حسين حمدان العسّاف *

لم يكن عبدالناصر حاكماً عادياً عابراً، ولا كأي رئيس، وإنما هو قائد تاريخي لأمة عربية تعرضت تاريخياً للتجزئة والاحتلال، قاد بثورته مشروع النهوض القومي الحضاري، ومشروعه ثورة اجتماعية سياسية اقتصادية يهدف إلى المساواة وإقامة العدالة الاجتماعية وتحرير الوطن والمواطن من العبودية والاستغلال والاستبداد ومقاومة الاستعمار ودعم حركات التحرر العربية والأفريقية والعالمية، تخطت قيادته محيطه العربي ليصبح من أبرز قادة العالم الإسلامي وقادة كتلة دول عدم الانحياز والحياد الايجابي إلى جانب تيتو ونهرو، وقيادته الثورية في مقاومة الاستعمار كانت مصدر إلهام وتحريض لشعوب أمريكا اللاتينية وقادتها، تجمعه بكاسترو، وغيفارا صداقة النضال التحرري المشترك ضد الإمبريالية.

ومن الطبيعي أن يشكل هذا المشروع خطراً على مصالح الإمبريالية والكيان الصهيوني وعلى مصالح المتضررين منه في المنطقة العربية كالإقطاعيين والرأسماليين والانفصاليين والانعزاليين والطائفيين والمذهبيين، كما أنه من الطبيعي أن يتصدى له هؤلاء، وأن تتوحد مساعيهم جميعاً للقضاء عليه، والتآمر على إفشاله منذ البداية من خلال مسارين اثنين مترافقين ومتداخلين: الأول؛ التآمر على تصفيته في محاولات متعددة فاشلة لاغتياله، خططت لها المخابرات الأمريكية والبريطانية والموساد الإسرائيلي وبعض الأنظمة العربية وكذلك محاولة الإخوان المسلمين الفاشلة في اغتياله بثماني رصاصات أثناء إلقائه خطاباً فى ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1954م، وتآمرهم أيضاَ على ضرب إنجازاته الثورية كالعدوان الثلاثي على مصر بعد إعلانه تأميم قناة السويس وتحريرها من سيطرة بريطانيا التي كانت تشكل دولة داخل دولة وتآمرهم أيضاً على ضرب إنجازاته الوحدوية التي تجلت في جريمة انفصال سورية عن مصر في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1961م، ثم العدوان الإسرائيلي الأمريكي على مصر وسورية والأردن في الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967م. أمّا المسار الثاني؛ فتجلى بإطلاق القوى المعادية ووسائل إعلامها ورموزها الثقافية المشبوهة حملة إعلامية واسعة للنيل من تجربته وتشويه صورته أمام شعبه وأمته .

                              ****    ****    ****

تصفه هذه الحملات مرة بالدكتاتور الذي ألغى الأحزاب ومرة بإقامته وحدة مرتجلة فاشلة بين سورية ومصر أدت إلى دمار اقتصاد البلدين. ومرة ثالثة تزعُم انتماءه إلى جماعة الإخوان المسلمين، بل اتهمه بعضهم بمحاربته الإسلام وبالعنصرية وبممارسته التفرقة داخل مصر بين المسلمين والأقباط، وزعمت أيضاً انتماءه إلى الماسونية ثم محاولة نظام السادات بذل كل ما يملك من وسائل للطعن في ذمته المالية.. وأخيراً وليس آخراً نشر مندوب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “مايلز كوبلاند” قبل وفاة عبدالناصر بعام كتابه ذائع الصيت “لعبة الأمم” عام 1969م، أوحى فيه عن صلة عبدالناصر بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية وبأنها ساعدته في القيام بثورة 23 تموز/ يوليو عام 1952م التي أنهت حكم الملك فاروق.

                              ****    ****    ****

هذه الحملات تعتمد في جانب كبير منها على أخبار كاذبة لم تحدث وقائعها، وهي تتصيد الأخطاء التي تتعرض لها تجربة عبدالناصر، فتضخمها، وتتقوّل عليها، وإذا انتقدتْ موقفاً لعبدالناصر أو مشهداً من تجربته عزلتهما عن سياقهما التأريخي وعن ظروفهما الموضوعية المؤثرة عليهما لتوظفهما في حملات تشهيرها، وهذا ما أبعدها عن الموضوعية، وجعلها مُغرضة وغير قابلة للتصديق، ولا يعني هذا أن التجربة الناصرية فوق النقد أو أنها معصومة من الخطأ والتقصير، فقد حدثت في ممارساتها أخطاء وتقصير، وما من ثورة سياسية واجتماعية وإصلاحية في العالم إلّا وارتكبت في ممارستها العملية أخطاء وتجاوزات ربما حرفتها عن مسارها المعلن، لكن ثمة فرق بين حملات التشهير والأكاذيب التي استهدفت تجربة عبدالناصر وبين تقييم هذه التجربة، فالتجربة الناصرية تناوَلتها أبحاث مستفيضة ودراسات كثيرة بالتحليل والنقد الموضوعي بل إنّ عبدالناصر نفسه مارسَ في مسار تجربته النقد والنقد الذاتي أمام شعبه، وأشرك شعبه ونخبه المثقفة في تقييم ونقد كل مرحلة من مراحلها من أجل معالجة الأخطاء، وتجاوز التقصير، وتصحيح المسار، إيماناً منه بأنّ التوقف عن ممارسة حركة النقد والنقد الذاتي والمحاسبة يعني الجمود والتوقف عن حركة التطور، وقد أجرى في حواراته مع الجماهير نقداً موضوعياً عميقاً في مختلف مراحل تجربته منذ بداية الثورة وفي أثناء الوحدة وما بعدها، وكذلك في خطاباته، وفي ميثاق العمل الوطني الصادر في 21 أيار/ مايو1962م، ثم قام بعد هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967م بأهم عملية نقد علني يمارسها زعيم في السلطة، وفي حالة نادرة في تاريخ الحكام والقادة والزعماء في العالم أعلن عبدالناصر بخطاب التنحي في 9 حزيران/ يونيو 1967م مسؤوليته عن هزيمة حزيران، وتحمّل وحده تبعاتها ليجنّب البلد في ذلك الوقت العصيب دوّامة تراشق تُهم التقصير بين مسؤوليه الكبار حرصاً منه على أمن البلد وتماسكه، وأعلن فيه عن تنحيه عن أي منصب رسمي ثم تتواصل عملية النقد والنقد الذاتي في بيان 30 مارس/ آذار عام 1968م، وفي الحوار التشاركي الواسع الذي أجراه مع المثقفين والمفكرين وأساتذة الجامعات وطلائع الطلبة في المؤتمر الكبير الذي أقيم في قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة عام 1968م، مارسَ فيه هؤلاء جميعاً عملية النقد والنقد الذاتي، أمّا الحملات الإعلامية المعادية فهي غير موضوعية ولا منصفة إنما هي حملات تضليلية لا تنشد الحقيقة، ولا يعنيها من الوقائع التي تستهدفها في تجربة عبدالناصر ظروفها المحيطة بها والمؤثرة عليها، وإنما تعزلها عنها، مع أنّ التقييم الموضوعي لأي تجربة سياسية في العالم يأخذ في الحسبان ارتباط هذه التجربة بظروفها التاريخية وتأثيرها عليها، فيبرز إيجابياتها وسلبياتها، أمّا هذه الحملات العدائية فإنها تتخذ من سلبيات تجربة عبدالناصر مبرراً لإنكار إيجابياتها.

                              ****    ****    ****

وأسوق فيما يأتي الرّد على هذه التهم التي أشرتُ إليها.. فمثلاً تتهم هذه الحملات عبد الناصر بالدكتاتور المستبد، وبأنه في نظرها قيّد حرية التعبير وحل الأحزاب، وأنه لا يؤمن بتعدد الآراء، هذا الاتهام يناقض سلوكه، ونهج ثورته الذي اتضح في أحد الأهداف الستة التي أعلنتها ثورة 23 تموز/ يوليو 1952م، وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وتأكيد ثورته على الحرية السياسية والحرية الاجتماعية، حرية الوطن وحرية المواطن، وقد صمّم عبدالناصر منذ بداية الثورة على زوال عهد الاستبداد، وبشّر بعهد الحرية، وطالب المواطن أن يرفع رأسه في هذا العهد الجديد، وسارت ثورته على النهج الديمقراطي، فالذي يعيد الحقوق المسلوبة إلى الفلاحين والعمال ويقف إلى جانب الفقراء والمظلومين، ويعمل للارتقاء بالحياة الاجتماعية لشعبه إلى مرحلة الكفاية والعدل، والذي يحاور شعبه، ويدعوه إلى تقييم ونقد كل مرحلة تمر فيها تجربته والذي أحبه شعبه، والتفّت حول قيادته جماهير أمته لا يمكن أن يكون ديكتاتوراً، أمّا عن حلّه الأحزاب فله ظروفه وأسبابه التي دعت إليه، فحين قامت الثورة كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني، وكانت تمرّ بظروف محلية وإقليمية ودولية صاخبة وبالغة التعقيد، وكانت لأحزابها المتصارعة فيما بينها ارتباطات مختلفة بالاحتلال البريطاني والنظام الملكي السابق، وكانت تسعى للقضاء على الثورة.

أمّا في سورية قبل الوحدة فقد واجهت خطرين يهددان أمنها ووحدتها: خطراً خارجياً وآخر داخلياً، خارجياً تمثلَ في الحشود التركية على حدودها في عهد رئيس وزرائها عدنان مندريس عام 1957م بإيعاز من الحلف الأطلسي بعد رفض الرئيس شكري القوتلي مدعوماً من الائتلاف البرلماني السوري دخوله حلف بغداد، وداخلياً تمثل في صراع الكتل الحزبية السورية داخل الجيش المسيطر على البلد حيث رأى قادته العسكريون بموافقة الرئيس شكري القوتلي أن لا سبيل لخروج سورية من أزمتها الداخلية ومن خطر التدخل التركي إلّا بالوحدة مع عبدالناصر الذي كان وقتذاك في أوج صعوده القومي على امتداد الساحة العربية الأمر الذي دفع فريقاً من القادة العسكريين السوريين إلى عبدالناصر يطالبونه بوحدة فورية، لم يوافق عليها، ورأى أن الوحدة يجب أن تسير بخطوات مدروسة دراسة موضوعية متأنية في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين البلدين لتوفير الظروف الموضوعية لإنضاجها في فترة زمنية لا تقل عن خمس سنوات ضماناً لنجاحها، وإلى أن  يحين موعد قيامها وافق عبد الناصر منذ اللحظات الأولى على إجراء مزيد من التنسيق في مختلف المجالات الحيوية بين البلدين، وكان له شرطان لقبول الوحدة؛ الأول، حل الأحزاب السورية كلها كما حلها في مصر والثاني، عدم تدخل الجيش في السياسة، وافق الفريق السوري على الشرط الأول حل الأحزاب السورية جميعها لكنه أوضح لعبدالناصر أن الخطر المحدق بسورية داخلياً وخارجياً لا يحتمل إرجاء قيامها إلى خمس سنوات قادمة، وأنه لابد من إنقاذ فوري لسورية من أزمتها، وألح عليه السوريون بضرورة قيام الوحدة الفورية وحرصاً منه على أمن سورية ووحدتها استجاب لمطلبهم، ودخلت سورية مرحلة جديدة في تاريخها بقيام دولة الجمهورية العربية المتحدة في 22 شباط/ فبراير 1958م بدلاً من تقدير عبدالناصر لإعلانها عام 1963م، وكان قادة الأحزاب السورية المتصارعة يخططون لدور قيادي يمارسونه في الدولة الجديدة. ولمّا وجدوا قيادة عبدالناصر للوحدة الجديدة تجاوزتهم، وقطعت عليهم آمالهم الواسعة في تهميش دوره، وأنه لم يعد لهم في هذه الوحدة الدور القيادي المأمول انقلبوا على ما وافقوا عليه، وبدؤوا يعملون سرّاً على استعادة أنشطتهم السياسية كذلك فعلت التنظيمات والأحزاب الطائفية والانعزالية متسترة خلف النوادي الرياضية والمنتديات الثقافية. وشنت القوى المعادية حملة على الوحدة، واجتهدت في تشويه صورة قائدها، ثم تآمرت جميعها عليها في جريمة الانفصال، ووقّعَ معها حزب البعث بشخص ممثله صلاح الدين البيطار على وثيقة الانفصال ورغم قصر عمر الوحدة إلّا أنّه كان لها دور هام على الصعيد العربي والأفريقي والعالمي، كما كان لها إنجازات كثيرة على الصعيد الداخلي من بينها قانون الإصلاح الزراعي وقرار تأميم المعامل والمصانع والشركات الخاصة، وهما يقضيان بنقل الملكية من القطاع الخاص إلى ملكية الدولة، وأحدث هذا الإنجاز تحوّلاً اجتماعيا هاماً في بنية المجتمع المصري والسوري على طريق التوجه نحو الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وروّج الإعلام المعادي الأكاذيب حول هذا الإنجاز كزعمه مثلاً أنّه دمّر اقتصاد سورية، كما حاول إثارة النعرات الطائفية في مصر كزعمه أنّ في هذا الإنجاز تحوّلاً طائفيّاً استهدف الأقباط بالدرجة الأولى، وهو زعم لا أساس له من الواقع، فقانون الإصلاح الزراعي وقرار التأميم شمل كل من لديه فائض عن حاجته من جميع أطياف المجتمع دون تفرقة أو تمييز، وتم توزيعه بالعدل والمساواة إلى جميع المحتاجين إليه من كل أطياف المجتمع، وساعد هذا الإنجاز على النهوض باقتصاد البلد؛ وليس صحيحاً ما زعمته هذه الحملات من أنّ الوحدة دمّرت اقتصاد سورية وأنّ الشعب المصري الجائع ابتلعه متجاهلة أنّ لحكومة الوحدة أعضاء يمثلون كلا الإقليمين السوري والمصري ويعملون على تحقيق التكامل الاقتصادي العادل بينهما بما يخدم مصالحهما المشتركة دون استغلال طرف لطرف. كما زعمت هذه الحملات أنّ عبدالناصر أطلق في تجربته الممتدة ثمانية عشر عاماً بما فيها مرحلة الوحدة سلطة الأجهزة الأمنية على المعارضين، فصادرت الحريات، وضيقت عليهم الخناق، فاعتقلتهم، وعذبتهم. وترافقت ضراوة هذه الحملة مع ازدياد أنشطة القوى المعادية لتجربة عبدالناصر مضافاً إليها مراكز القوى التي تسللت إلى نظامه، وهذه كلها شكلت عقبات على طريق مشروعه وخطراً يهدد تجربته الثورية بالسقوط. ولم يكن لعبد الناصر من خيار لحماية الثورة من خطر أعدائها المتربصين بها غير استخدام القوة بأجهزته الأمنية، لكن تضخم دور هذه الأجهزة في حماية الثورة دفعها إلى التعسف في استخدام صلاحياتها، فأساءت إليها، وأمعنت في تعذيب بعضهم، وزجت بعضهم الآخر في المعتقلات والسجون، وهذا ما دعا بعضهم إلى نعت عبدالناصر بالدكتاتور، رغم أنّ كثيراً من هذه التجاوزات الأمنية التي لا مسوّغ لها حدثت من غير علمه بدليل أن بعض المسؤولين الأمنيين مثل “شمس بدران” الذي أقرّ بعد وفاة عبدالناصر بأنه أقدم على هذا التجاوز دون إذن من السلطة والمعروف أنّ شخصيّة عبد الناصر تكره الانتقام، وتنفر من العنف، وثورته كانت منذ البداية سلمية بيضاء لم تُرَق فيها قطرة دم واحدة خلافاً لكثير من الثورات السياسية في العالم التي فجّرت داخل بلادها شلالات من دماء معارضيها كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية وغيرهما؛ وليس صحيحاً ما تروّج له هذه الحملات من انتساب عبد الناصر إلى الإخوان المسلمين، أو ما زعمه بعضهم عن محاربته الإسلام واضطهاده الأقباط المصريين، لأنّ الناصرية تؤمن بالرسالات السماوية، وتعتز بها لكنّها ترفض التعصب الديني وتسييس الأديان واتخاذ الدين ستاراً لتحقيق أهداف سياسية تقوم على إثارة النعرات الدينية التي تفرّق بين أبناء البلد الواحد وإضعاف الجبهة الداخلية التي يعدّ تصليبها حجر الأساس الذي يقوم عليه مشروعه الثوري من هنا تصدى عبدالناصر للإخوان المسلمين كما تصدى للمتطرفين الأقباط المتطلعين إلى الخارج، وشدّد في الوقت نفسه على نشر ثقافة الاعتدال الديني ليواجه به التطرف الديني، وشدّد على نشر ثقافة المحبة والتآلف بين جميع أطياف المجتمع بغض النظر عن الدين أو العرق أو المذهب أو الطائفة أو اللغة، لذا أكرم رجال الدين الإسلامي والمسيحي، وكانت تربطه برموزهم علاقات قائمة على الاحترام والتقدير، فكان يزور في المناسبات الدينية المساجد والكنائس، ويهنئهم بأعيادهم، وشهدت الأديان في عهده أفضل مرحلة لها من الحرية الدينية والنشاط الديني الذي يخدم وحدة الوطن وتماسك أبنائه، ولم يشهد عهده أي فتنة طائفية أو إحراق دور العبادة كما حدث في عهود لاحقة، فعلى الصعيد الإسلامي أشاع عبدالناصر الظروف السليمة لممارسة الشعائر الدينية، وشجّع على بناء المساجد حيث زاد في عهده عدد المساجد بمصر من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة إلى واحد وعشرين ألف مسجد عام 1970م وهو ما يعادل عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ الفتح الإسلامي حتى عهده. وأنشئت في عهده منظمة المؤتمر الإسلامي، ومدينة البعثات الإسلامية التي يدرس ويقيم فيها مجاناً آلاف الطلاب المسلمين القادمون من مختلف الدول الإسلامية، وطوّر الأزهر الشريف، ووسّع اختصاصاته، وأنشأ فيه الكليات العملية، كالطب والهندسة، وحوّله إلى جامعة عصرية لها فروع بدول متعدّدة. وأمر ببناء المعاهد الأزهرية والدينية فى مصر، وتُرجم في عهده القرآن الكريم إلى لغات العالم، كما ظهرت إذاعة القرآن الكريم، وتم جمعه فى ملايين الشرائط والاسطوانات بأصوات كبار القراء.. إلخ.

وتوطدت على الصعيد المسيحي العلاقة الشخصية بين عبدالناصر ورموز الكنيسة القبطية خاصة مع البابا “كيرلس السادس” بطريرك الأقباط للكنيسة القبطية الأرثوذكسية الذي كان يقابل عبدالناصر في أي وقت يشاء، وكان عبدالناصر يقول له(1): “من الآن لا تأت إليّ في القصر الجمهوري، تأتي إلي في البيت، البيت بيتك”، وشجّع على بناء الكنائس، وقرّر أن تساهم الدولة فى بنائها، وكان أهمها بناء كاتدرائية القديس مرقص القبطية الأرثوذكسية في حي العباسية بالقاهرة في 25 حزيران/ يونيو 1968م حيث حضر حفل افتتاحها ومعه الإمبراطور “هيلا سيلاسي” إمبراطور الحبشة “إثيوبيا”، ومعهما الأنبا “كيرلس السادس” وممثلو مختلف الكنائس  ورجال الدين الإسلامي، وكان عبدالناصر يحث المصريين على التبرع لبناء الكنائس بادئاً بنفسه، ومما يروى عنه في هذا الجانب أنّ البابا كيرلس زار الرئيس فى منزله، فجاء إليه أولاده، وكل منهم معه حصالته، ثم وقفوا أمامه، وقال عبدالناصر: «أنا علمت أولادي، وأفهمتهم إن التبرع لبناء كنيسة مثل التبرع لبناء جامع، والأولاد لما عرفوا إنك بتبي كاتدرائية صمّموا على المساهمة فيها، وقالوا حنحوّش قرشين؛ ولما بيجي البابا كيرلس حنقدمهم له، وأرجو ألا تكسفهم، وخذ منهم تبرعاتهم، فأخرج البابا كيرلس منديله ووضعه على حِجره ووضع أولاد عبدالناصر تبرعاتهم، ثم لفها وشكرهم وباركهم. ويضيف الأستاذ محمود فوزي على لسان “منى” ابنة عبدالناصر قولها: البابا لما يجيله أي رئيس دولة يودعه حتى باب الصالون فقط، لكنه لما بيجي البابا كيرلس يودعه حتى باب السيارة، ويفضل واقف إلى أن تتحرك السيارة، وكان كلما هم البابا بالقيام كان عبدالناصر يقول له ضاحكاً: ميعاد الزيارة لم ينته. وبفعل هذا التعاطف الوطني والإنساني بين عبدالناصر والأقباط اتحدت الكنيسة مع ثورة ٢٣ تموز/ يوليو، ودعمت مبادئها وشعاراتها القومية، وعندما تنحّى عبدالناصر، أرسل رأس البابا كيرلس، وفدًا من آباء الكنيسة، معلنًا تمسك الأقباط به، ودقت أجراس الكنائس ابتهاجًا بعودة الرئيس، وفي يوم رحيله في 28 أيلول/ سبتمبر سنة 1970م دقت أجراس الكنيسة حزناً عليه وبعدها بأشهر قليلة رحل البابا “كيرلس السادس” في 9 آذار/ مارس 1971م، فقالت إذاعة صوت أمريكا: مات الصديق الوفي لجمال عبدالناصر؛ أمّا محاولات نظام السادات الطعن في ذمة عبد الناصر المالية فإنه بذل كل ما في وسعه من بحثٍ وتحرٍّ عن عقارات في دوائر السجلات العقارية أو أرصدة مالية مدونة باسمه أو باسم أفراد أسرته في المصارف والبنوك المصرية والغربية للتشهير بذمته، فلم يعثر على شيء، ورُدّت محاولاته على أعقابها خائبة ليتبيّن للقاصي والداني أنّ عبدالناصر فوق الشبهات، وأنه رجل بريء الذمة، نقي السمعة، لا يملك بيتاً تسكن فيه أسرته من بعده؛ وأمّا تهمة انتمائه للماسونية فهي تهمة باطلة يدحضُها قراره بحل المحافل الماسونية وحل النوادي والجمعيات المشبوهة في مصر بعد الثورة وفي سورية أيام الوحدة؛ وأمّا ما ذكره “مايلز كوبلاند” في كتابه “لعبة الأمم” عن علاقة عبدالناصر بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي يرى أنّها أوصلته إلى قيادة ثورة 23 تموز/ يوليو ومكنته من خلع الملك “فاروق” فإنّ وزارة الخارجية الأمريكية عندما أفرجت عن وثائقها التي تتناول ثورة عام 1952 تفاجأت بقيام ثورة الجيش في مصر في 23 تموز/ يوليو 1952م وبرّر أعداء عبدالناصر مفاجأة وزارة الخارجية الأمريكية بالثورة بأن من كان يتولى التنسيق مع جمال عبدالناصر من الأمريكيين ليسوا من وزارة الخارجية الأمريكية بل من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لذا فطبيعي أن لا تحتوي وثائق الخارجية الأمريكية على تفاصيل علاقة عبدالناصر مع وكالة المخابرات الأمريكية لكن الكاتب الصحفي الأمريكي “تيم واينر” مراسل جريدة النيويورك كشف أكاذيبهم في عام 2009م عندما صدر كتاب “إرث من الرماد .. تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية”(2) ذكر فيه أنّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فوجئت بثورة الجيش في مصر في 23 تموز/ يوليو 1952 برغم أن ضباط الوكالة في مصر وقتها فاقوا مسؤولي وزارة الخارجية عدداً بنحو أربعة إلى واحد في السفارة الأمريكية بالقاهرة، فإذاً عدم علم وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة المخابرات الأمريكية بثورة 23 تموز/ يوليو يكشف كذب مايلز كوبلاند في كتابه “لعبة الأمم”، كل ما في الأمر أنّ وكالة المخابرات الأمريكية حاولت شراء جمال عبدالناصر، فدفعت له ثلاثة ملايين دولار دعماً لنظامه، وساعدته فى بناء محطة إذاعية قوية، ووعدته بمساعدة عسكرية واقتصادية أمريكية لكن المفاجأة أن عبدالناصر رفض أن يتم شراؤه فقام باستخدام قسم من ملايين الدعم الثلاثة في بناء برج القاهرة، وعندما لم يفِ الأمريكيون بتعهداتهم بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية له أتجه إلى السوفييت من اجل تسليح جيشه. وقد صرح محمد حسنين هيكل لمجلة روز اليوسف في منتصف تسعينيات القرن العشرين أنّ السعودية قامت بتمويل هذا كتاب مايلز كوبلاند  في إطار سعى الملك فيصل بن عبد العزيز المتواصل للقضاء على شعبية جمال عبدالناصر في العالم العربي بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967م، وأصبح الكتاب مرجعاً أساسياً لكل أعداء عبدالناصر وثورته، غير أنّ حقيقة شخصية عبدالناصر تأتي على لسان شاهد من أهلها وهو ضابط في المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، “يوجين جوستين” الذي فضح أكاذيب هذه الحملات في شهادته المعبّرة بدقة عن شخصية عبدالناصر الواردة في كتابه: «التقدم نحو القوة» حيث يقول فيها: “«مشكلتنا مع عبدالناصر أنه رجل بلا رذيلة، مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء، ولا خمر، ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه، أو رشوته، أو حتى إخافته، نحن نكرهه ككل، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئاً، لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد»..

                              ****    ****    ****

لم تحقق الحملات الإعلامية المضللة أغراضها في تشويه صورة عبدالناصر وإنّما باءت بالإخفاق الذريع، ذلك أنّ صورته في عيون شعبيته برغم كل حملات الافتراء ازدادت نصاعةً وتألقاً، ومكانته في قلب جماهير أمته العربية تعاظمت اتساعاً وتأييداً لأنه قائدها الذي خبرته، ووثقت به، والتفت حوله، وتفاعلت معه، وتمسكت بقيادته في نجاحاته وإخفاقاته داخل مصر وخارج حدود بلادها متجاوزة أطر أنظمتها الإقليمية الضيقة، ولأنها رأت في مشروعه النهضوي العربي الحضاري تجسيداً لآمالها وأهدافها وطموحاتها، وهذا ما دفعها أن تقف معه في تصديه للعدوان الثلاثي عام 1956م، وأن ترفض بحزم جريمة انفصال سوية عن مصر، وتطالب بإعادتها إلى الوحدة خلف قيادته، ودفعها أن تطوف في المدن والساحات العربية في التاسع والعاشر من حزيران/ يونيو 1967م رافضة قرار تنحيه عن قيادة البلد ومُلحّة عليه بالعودة إلى مواصلة قيادتها لتجاوز نكسة حزيران/ يونيو.

ودَفَعَها أن تخرج من محيطها إلى خليجها يوم رحيله الحزين في 28 أيلول/ سبتمبر عام 1970م تودّعه، وتعاهده على إكمال طريقه بالروح والدم، وهي مدركة أن لا سبيل إلى مواجهة التفكك العربي وما نتج عنه من سيطرة المشاريع الأجنبية على المنطقة العربية إلّا بتفعيل دور مشروع النهوض القومي الذي انتكس وغاب عن الساحة العربية بعد رحيله، فإحياء دور المشروع العربي في النهوض بالأمة من جديد لمواجهة التحديات الراهنة لا تستطيع أن تنهض به الحركة الناصرية وحدها، ولا أي تيار أو حزب آخر، فعبدالناصر قاد الأمة، ولم يقُد حزباً أو حركة بعينها، وإنما تنهض به مجتمعةً كل القوى السياسية في العالم العربي المعنية به والمؤمنة بأهدافه من وحدوية ووطنية ويسارية وليبرالية وإسلامية معتدلة.

                              ****    ****    ****

هوامش:

(1) ـ الكاتب والصحافي محمود فوزي في كتابه “هكذا كانت مصر وستبقى” يتحدث فيه عن علاقة البابا كيرلس بعبدالناصر.

(2) ـ مقال عن جمال عبدالناصر في وثائق المخابرات المركزية الأمريكيةـ موقع الوحدوي ـ نت ـ عمرو صابح).

ـــــــــــــــــــــ

* كاتب وباحث سوري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.