إبراهيم الغيطاني *
تترقب أسواق الطاقة العالمية التوقف المُحتمل لآخر نقطة اتصال رئيسية بين شبكتي الغاز الروسية والأوروبية بحلول كانون الأول/ ديسمبر 2024؛ إذ من المقرر أن يتوقف ضخ الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية، بعد قرار كييف بعدم تجديد اتفاقية نقل الغاز المُوقعة مع موسكو عام 2019؛ ومن شأن توقف هذا المسار أن يؤدي إلى حالة من عدم اليقين، بشكل مؤقت، في سوق الغاز الأوروبية، خاصةً مع اقتراب فصل الشتاء؛ إذ يصل الطلب على الخام إلى ذروته؛ ومع ذلك، لن تكون التقلبات المُحتملة لأسعار الغاز في أوائل عام 2025، عند ذروتها، كما كان عليه الحال عقب تعليق إمدادات خطي أنابيب “يامال” و”نورد ستريم-1″.
فقد تبنت الدول الأوروبية تدابير تعويضية لانقطاع معظم الإمدادات الروسية من الغاز بأسواق الاستهلاك الأوروبية الرئيسية، وتضمن ذلك الحصول على إمدادات إضافية من الغاز المُسال من موردين بالشرق الأوسط والولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع استيراد شحنات إضافية من الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب عبر النرويج ومنطقة شمال إفريقيا. وبالمثل، تدرس دول وسط وشرق أوروبا عدة خيارات متاحة لتعزيز استقرار الطاقة لديها، بعد توقف تدفقات الغاز الروسي عبر أوكرانيا، من بينها استخدام شبكة الغاز الأوروبية ومحطات استيراد الغاز المُسال بالدول المجاورة للحصول على إمدادات إضافية من الخام؛ بل حتى إن بعض الدول مثل المجر تُرحب باستقبال تدفقات إضافية من الغاز الروسي، لكن هذه المرة عبر خط أنابيب “ترك ستريم”.
حسم القرار:
أنهت كييف، بشكل رسمي، الجدل الدائر حول تجديد عقد نقل الغاز الروسي عبر خط أنابيب “يورنغوي- بوماري- أوزغورود”؛ إذ أبلغت الحكومة الأوكرانية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري نظيرتها السلوفاكية- وهي نقطة عبور رئيسية للغاز الروسي إلى أسواق وسط وشرق أوروبا- أنها لن تمدد اتفاقية نقل الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية، والمُقرر انتهاؤها بحلول 31 كانون الأول/ ديسمبر من هذا العام.
ولعل دافع كييف من وراء إنهاء هذه العلاقة الممتدة مع موسكو منذ خمس سنوات، واضح للعيان؛ إذ ترغب في إنهاء النفوذ الروسي، وفك ارتباطها التجاري والاقتصادي مع موسكو بعد الحرب. ولعل هذا ما يتماشى في الوقت نفسه مع هدف الاتحاد الأوروبي بتحقيق الاستقلال التام عن مصادر الطاقة الروسية بحلول عام 2027.
ويُعد خط الأنابيب الرابط بين أوكرانيا وروسيا آخر نقاط الاتصال الرئيسية بين شبكتي الغاز الروسية ونظيرتها الأوروبية، وذلك بعد أن تم إغلاق معظم مسارات الغاز الروسية الأخرى بما في ذلك خطا أنابيب “يامال- أوروبا” عبر بيلاروسيا، و”نورد ستريم-1″ تحت بحر البلطيق في العامين الماضيين. وتُمثل تدفقات الغاز الروسي عبر خط أنابيب “يورنغوي- بوماري- أوزغورود”، أهمية لأمن الطاقة واستقرار سوق الغاز بمنطقة وسط وشرق أوروبا.
وقد بلغ إجمالي إمدادات الغاز الروسي للقارة الأوروبية عبر أوكرانيا نحو 15.5 مليار متر مكعب عام 2023، ما يشكل 3% فقط من إجمالي واردات القارة من الغاز (سواء المنقول عبر خطوط الأنابيب أم الغاز المُسال). وبالرغم من ضآلة هذه الحصة بالنسبة لأوروبا، لا تزال أسواق مثل: سلوفاكيا والنمسا ومولدوفا تعتمد بدرجة أكبر على الغاز الروسي، وتتفاوت النسبة ما بين 80% إلى 100% من إجمالي واردات الغاز.
وإجمالاً، استوردت سلوفاكيا والنمسا ومولدوفا نحو 10.9 مليار متر مكعب من الغاز الروسي العام الماضي، وهي تتوزع كالتالي: سلوفاكيا بحجم قدره 5.7 مليار متر مكعب، والنمسا 3.2 مليار متر مكعب، ومولدوفا 2 مليار متر مكعب، وفقاً للأرقام التقديرية لشركة “ريستاد إنيرجي” النرويجية. وتشكل تلك الكميات ما يصل إلى 70% تقريباً من إجمالي الغاز الروسي المُورد عبر أوكرانيا.
الفائزون والخاسرون:
تنظر أسواق الطاقة بترقب للانقطاع الوشيك لتدفقات الغاز الروسي عبر أوكرانيا، ولكنها ترى هذه المرة أن خطر نقص إمدادات الغاز داخل القارة أقل حدة مما كان عليه الوضع بعد تعليق مسارات الغاز الأخرى في العامين الماضيين؛ إذ استطاعت معظم الدول الأوروبية إيجاد بدائل كافية لواردات الغاز الروسي؛ ومع ذلك، صدرت تحذيرات من وكالة الطاقة الدولية من أن وقف ضخ الغاز الروسي عبر أوكرانيا يمثل “حالة عدم يقين رئيسية” لمنطقة وسط وشرق أوروبا هذا الشتاء، حينما يبلغ الطلب على الخام ذروته.
ويتمثل الخطر الأساسي في أن يضغط توقف إمدادات الغاز بين روسيا وأوكرانيا، على التوازن الهش لسوق الخام داخل القارة الأوروبية؛ الأمر الذي قد ينجم عنه ارتفاع قصير الأمد في تداولات أسعار الخام بالبورصات السلعية الأوروبية والعالمية في أوائل عام 2025. وعلى الرغم من هذه الأضرار التي يُضاف إليها احتمالية خسارة أوكرانيا رسوم عبور للغاز الروسي قدرها مليار دولار تقريباً، ينظر الاتحاد الأوروبي- إلى جانب كييف- لهذه الخطوة باعتبارها انتصاراً رمزياً على موسكو، بعد أن اقتربت القارة من هدفها بالتخلي نهائياً عن الغاز الروسي المنقول عبر خطوط الأنابيب.
أما بالنسبة لروسيا، فمع خسارة آخر أسواق تصدير الغاز الرئيسية بأوروبا، ستفقد موسكو وشركة “غاز بروم” إيرادات مالية تتراوح بين 4 إلى 4.5 مليار دولار سنوياً؛ وذلك من شأنه أن يُفاقم أوضاع الشركة المتأزمة بالأصل؛ إذ تكبدت خسائر صافية لأول مرة في عقدين بنحو 6.9 مليار دولار تقريباً عام 2023. بيد أن روسيا تبحث عن خيارات أخرى لتصدير الغاز والغاز المُسال بدلاً من أوروبا، وتأتي آسيا وتحديداً الصين في مقدمة الأسواق المُستهدفة، وإن نجحت موسكو في ذلك، فسيجعلها تتلافى هذه الخسائر المالية في الأمد الطويل.
خيارات بديلة:
تبنت الدول الأوروبية تدابير تعويضية لتوقف تدفق الغاز الروسي في العامين الماضيين، وتضمن ذلك استيراد شحنات إضافية من الغاز المُسال من الولايات المتحدة وبعض دول الشرق الأوسط وإفريقيا، بموجب عقود قصيرة ومتوسط الأجل، بالإضافة إلى استيراد كميات إضافية من الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب عبر النرويج ومنطقة شمال إفريقيا.
وهناك خيارات مماثلة متاحة أمام منطقة وسط وشرق أوروبا لتعويض الغاز الروسي، لعل من أهمها الإمكانات المتاحة لتزويد أسواقها بشحنات تعويضية من الغاز والغاز المُسال عبر محطات الاستيراد بالدول المجاورة، أو شبكة الغاز الأوروبية، أو البنية التحتية لمشروع “الممر العمودي” الذي يهدف لربط وتسهيل نقل الغاز بين سبع دول أوروبية؛ وهي: اليونان وبلغاريا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا ومولدوفا وأوكرانيا.
كذلك تُرحب بعض الدول الأوروبية الصديقة لموسكو مثل المجر، باستقبال تدفقات إضافية من الغاز عبر مسار نقل آخر، وهو البنية التحتية لخط أنابيب “ترك ستريم”، الذي يربط روسيا بتركيا ويمتد إلى بلغاريا وصربيا والمجر. بخلاف هذا المسار، طُرحت للنقاش، من قِبل أطراف أوروبية، في الأشهر الماضية، إمكانية إعادة استخدام شبكة الغاز الأوكرانية لاستقبال تدفقات الغاز من أذربيجان. وإلى الآن، لم تتضح كيفية عمل المسار الأوكراني من أجل الوفاء بهذا الغرض؛ ومن ثم ليس بالإمكان تحديد جدواه الفنية والمالية بالوقت الحاضر.
ويكشف الاستعراض السابق عن خيارين متاحين أمام دول وسط وشرق أوروبا، بعد توقف شبكة أنابيب الغاز الأوكرانية؛ الأول يتعلق بالتخلي تماماً عن الغاز الروسي، مع إمكانية الاستفادة من شبكة الغاز الأوروبية القائمة لتلبية احتياجات أسواقها من الخام. فيما يتمثل الخيار الثاني في الحصول على تدفقات إضافية من الغاز الروسي عبر مسارات نقل أخرى. وتُدرك الحكومات الأوروبية مدى الضرر الذي سيلحق بها؛ إذا ما توقفت إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا، دون إيجاد البدائل الحاضرة والكافية؛ ومن ثم فهي تبحث عن سد الفجوة المُحتملة بمعروض الغاز، بانتقاء آليات التوريد الملائمة لها من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، على حد سواء.
النمسا نموذجاً:
في بدايات الحرب الأوكرانية، رفضت الحكومة النمساوية رفضاً قاطعاً تطبيق أي حظر أوروبي على الغاز الروسي، مبررة ذلك بأن هذه الخطوة ستضر بشدة الاقتصاد النمساوي، الذي خرج لتوه من تبعات جائحة كورونا. وحتى وكالة الطاقة النمساوية (Austrian Energy Agency) اعتبرت- وفق ورقة صادرة عنها في عام 2022- أن أقرب موعد ممكن لتحقيق الاستقلال التام عن الغاز الروسي هو عام 2030، وليس 2027، كما هو مقرر بموجب خطة الاتحاد الأوروبي للتخلص من الواردات الروسية. ولعل هذا التاريخ يسبق موعد انتهاء العقد المُوقع بين شركتي “غازبروم إكسبورت” و”أو إم في” لتوريد الغاز الروسي إلى النمسا بنحو 10 سنوات؛ إذ إن موعد انتهائه الفعلي بحلول عام 2040.
وتلافياً لأن يتحمل اقتصادها أية أضرار جانبية، استمرت النمسا في تلقي تدفقات الغاز الروسي دون انقطاع في عامي 2022 و2023، وبمعدلات قياسية بلغت 3.2 مليار متر مكعب العام الماضي؛ ما شكّل ما يزيد عن 80% من واردات البلاد من الغاز في نفس العام. يُذكر أن الوقود الأحفوري لا يزال يُشكل حصة كبيرة من مزيج الطاقة في النمسا وبنسبة تبلغ 66% تقريباً، في حين يستخدم الغاز بصفة أساسية في مجالي التدفئة والتصنيع.
بيد أنه مع تزايد ضغوط الاتحاد الأوروبي على أعضائه للتخلص من واردات الطاقة الروسية، والصعوبات القانونية أمام تسوية المعاملات المالية بين دول الاتحاد وموسكو؛ رأت الحكومة النمساوية ووكالة الطاقة المحلية أنه من المناسب الاستعداد لإنهاء واردات الغاز الروسي وإلغاء عقد التوريد المُوقع مع “غازبروم” في أقرب فرصة ممكنة. وأعلنت شركة “أو إم في” النمساوية، في شهر أيار/ مايو الماضي، استعدادها للتخلي عن إمدادات الغاز الروسي في المستقبل القريب.
ويبدو السؤال الجوهري، هل النمسا على درجة كافية من الاستعداد للتخلي عن الغاز الروسي قريباً؟ وهنا يكشف خطاب الحكومة النمساوية أن بمقدورها تجاوز المرحلة التالية لإنهاء اتفاقية نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا؛ إذ إن لديها خيارات عديدة لاستبدال الغاز الروسي، سواء من خلال الحصول على شحنات إضافية من الغاز المُسال، أم استيراد الغاز عبر شبكة الغاز المجاورة (خاصةً من النرويج وإيطاليا وألمانيا). يُضاف إلى ذلك، أن لدى النمسا مخزوناً كبيراً من الغاز، نسبته 93.5% حتى أكتوبر الجاري (ما يعادل 9500 تيراوات في الساعة)؛ ومن ثم يمكن تلبية أي نقص مُحتمل في إمدادات الغاز لأشهر متواصلة، حتى وإن لم تتلق إمدادات إضافية من إيطاليا أو ألمانيا.
وفي الحقيقة، تمتلك شركة “أو إم في” النمساوية، أكبر شركة طاقة في البلاد، قدرات لوجستية كبيرة وعلاقات تجارية ممتدة مع موردي الطاقة حول العالم، بما سيُسهل مهمة الحكومة النمساوية في الحصول على الغاز من النرويج والسوق العالمية، مع إمكانية استيراد شحنات الغاز الطبيعي المُسال عبر محطة (GATE) في روتردام، حيث تمتلك الشركة هناك سعة لإعادة “تغويز” الغاز (Regasification Capacity) بقدرة 3 مليارات متر مكعب سنوياً.
إضافة إلى ما سبق، وبدءاً من عام 2026، ستتلقى شركة “أو إم في” شحنات إضافية من الغاز المُسال من شركة “بي بي” بقدرة مليون طن سنوياً، بالإضافة إلى تدفقات أخرى قدرها 850 ألف طن سنوياً بدءاً من عام 2029 من شركة “شينير إنيرجي” الأمريكية (Cheniere Energy). كل هذه الخيارات المتاحة ستُتيح للحكومة النمساوية التعامل بمرونة كافية مع توقف ضخ الغاز الروسي عبر أوكرانيا في بداية العام المقبل.
وربما تتخذ الحكومة النمساوية إجراءات إضافية لتعزيز أمن الطاقة بالبلاد؛ وذلك من خلال تبني تدابير إضافية لتعزيز كفاءة استهلاك الطاقة، وترشيد استهلاك الغاز، إلى جانب التوسع في تطبيقات الطاقة المتجددة بقطاع المنازل والتدفئة. وفي كل الأحوال، لا تعتبر الإجراءات المذكورة سابقاً حلاً دائماً فيما يتعلق بهدف النمسا لتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2040؛ فهي بحاجة لتطوير خيارات أخرى لتوسيع قدرات الطاقة المتجددة واستيراد الهيدروجين الأخضر، وفق ما تقوله وكالة الطاقة النمساوية.
ختاماً، يمكن القول إن حساسية سوق الغاز الأوروبية لمخاطر انقطاع ضخ الغاز الروسي عبر أوكرانيا، باتت أقل حدة، بخلاف ما كان عليه الأمر خلال العامين الأولين للحرب الأوكرانية (2022 و2023)؛ وذلك بسبب وفرة الإمدادات وتعدد خيارات التوريد؛ ومع ذلك لن يكون هناك مفر أمام الدول الأوروبية من اتباع نهج شامل لتعزيز أمن الطاقة بها، وتقليل انكشافها على سوق الغاز الأوروبية ذات التوازن الهش، وسيتضمن ذلك التوسع في قدرات الطاقة المتجددة، وتعزيز تدابير كفاءة الطاقة.
* باحث مصري ورئيس برنامج دراسات الطاقة في مركز المستقبل
المصدر: المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة