برهان غليون *
1). أثارت كلمة عزاء للشعب الفلسطيني بـ “استشهاد” أحد رموزه وقادته في معركة الشرف والدفاع عن الحق زوبعة في فنجان بعض أصدقائنا المعارضين السوريين.
وهي، في أحد وجوهها، لم تكن إلا اعتذاراً مقنعاً عما بدر من بعض شبابنا من كلمات لا تليق بنضال الفلسطينيين ولا تراعي معاناتهم في وقت يُذبحون فيه أمام أعين العالم المتفرج بأكمله. كانت، بمعنى آخر، تعبيراً عن الاعتراف بالتضحيات الهائلة التي قدمها هذا الشعب، وببطولة جميع أبنائه الصامدين في غزة بشكل خاص في مواجهة وحش حديدي سلطه تحالف شيطاني على الجميع. وهي، في النهاية، قضية أخلاق وأدب وتعامل إنساني قبل أن تكون قضية سياسة، ودفاعاً عن إنسانيتنا وخشية من هدرها على مذبح الشماتة والانتقام. فإذا فقدنا القيم والمبادئ والروح الإنسانية، فقدنا أنفسنا، ولن يعود هناك بعد ذلك معنى لا لثورة ولا لكرامة ولا لحقوق وحريات.
كانت أيضاً دفاعاً عن السوريين ضد خطر انطوائهم على أحزانهم وانزلاقهم إلى مواقف انعزالية تفصلهم عن محيطهم وتدفع بهم إلى الارتماء، كما يريد أعداؤهم، في حضن القوى الراعية لإسرائيل والداعمة لنظم الطغيان قبل ثورة آذار وبعدها. وكان من بين الدوافع إليها الخوف من انزلاق بعضنا، بضغط من مشاعر الشماتة والانتقام اللاشعورية، إلى تبني سردية الكيان الإسرائيلي الذي يريد أن يقلب الصورة رأساً على عقب، فيجعل من مقاومة الشعب المضطهد هي المشكلة، وليس الاحتلال، ويمرر بذلك حرب الإبادة ضد شعب كامل بذريعة الرد على عملية الأقصى “الإرهابية”، تماماً كما برر نظام الأسد ومعه العديد من العواصم الغربية الصمت على حرب الإبادة السورية بذريعة تغول داعش والفصائل الإسلامية لتخفي بذلك جوهر الثورة التحرري في مواجهة أحد أشرس النظم الاستبدادية والإرهابية.
والقبول بمثل هذا الخطاب المعلن أو المضمر من قبل بعضنا، وفي هذه اللحظة، يمكن أن يتحول إلى تواطؤ مقصود أو غير مقصود مع سياسات الحرب الاستيطانية الإسرائيلية والأميركية وتحميل الفلسطينيين وزر ما حصل ويحصل من مآس ودمار بذريعة عملية إرهابية خطط لها شخص ونفذتها حركة سياسية متطرفة وألهمتها فكرة إسلامية فاسدة بالطبيعة، وتبرئة الاحتلال بصورة مباشرة أو غير مباشرة من مسؤولياته عما يجري من عنف وقتل ودمار. وهذا يكرر ما جرى ويجري إلى الآن في سوريا. فهنا أيضاً يردد النظام وحماته وبعض المذعورين من أعضاء المعارضة أن مسؤولية ضحايا الحرب الإبادية التي شنتها قواته وقوات حلفائه تقع على الشعب وعلى الفصائل المقاتلة “الإرهابية” المرتبطة بالصهيونية وأميركا والغرب. وأنه لو لم تقم ثورة ولا كانت هناك مقاومة فلسطينية لما وصلت الأوضاع إلى ما هي عليه. فعلى منوال نظام الأسد وحلفائه، تلقي حكومة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية في كل ما يحصل من دمار وإبادة شاركت فيها قوات أميركية وأوروبية وبالأسلحة الأكثر دماراً، على الفصائل الفلسطينية وتختبئ وراء هذا الخطاب لتبرر كل سياسات القتل المنظم والانتقام الجماعي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ونظام الأبارتهايد المستمر منذ 75 سنة. وهي أيضاً ترفض الاعتراف بالفلسطينيين كشعب، ولا ترى فيهم سوى إرهابيين، حتى بعد أن قبلت قيادتهم في منظمة التحرير الفلسطينية تسوية رديئة في أوسلو رسخت حرمانهم من حقوقهم الأساسية في وطنهم. ولم تتوقف عن بناء المستعمرات في الضفة وتحويل غزة إلى “غولاغ” ومنفى لمليوني إنسان ورفض أي تسوية سياسية، ولا ترى مخرجاً للصراع سوى بالاغتيالات والقتل الجماعي والتهجير.
ولا يهدف هذا الطرح إلا إلى طمس جوهر المسألة وتغييب الأسئلة الأساسية التي لا حل من دون الإجابة عنها وهي: لماذا نشأت هذه الحركة؟ ومن دفع الفلسطينيين إلى المقاومة تحت لوائها؟ وقبل ذلك، من المسؤول عن وصول القضية الفلسطينية إلى الموقع الميت والانتحاري الذي غذى التطرف والراديكالية الإسلامية وغير الإسلامية؟ وهو المنطق الذي يضع المسألة في طريق مسدود ويلغي أي إمكانية للخروج من الصراع نحو حل مقبول يحقق العدالة ويضمن السلام والأمن للجميع.
إن إنكار المشكلة الحقيقية وعدم النظر فيها إلا من زاوية العنف من دون التفكير بأسبابه يجعل من المستحيل أن يكون هناك خيار آخر غير مواجهة العنف بعنف أكبر وأشد. وهذا ما عاشته المسألة الفلسطينية وعانت منه، ولا تزال مسائل التحول السياسي في البلاد العربية حيث ترفض النظم الأوليغارشية القائمة النظر إلى حركات المعارضة السياسية المطالبة بالديمقراطية إلا على أنها حركات إرهابية مدعومة من الخارج وعميلة، وأي تفاوض أمامها هو استسلام أمام العنف والإرهاب يهدد الدولة والنظام العام.
2). كما هو واضح، لا يقود هذا الطرح الذي يستبعد منذ البدء أي حوار أو تسوية سياسية لمسائل الصراع إلا إلى طريق العنف. ولأن الأمر يتعلق بمسألة وجودية، أي بمصير الشعوب ومستقبلها، سواء في فلسطين أو في سوريا، ولا يمكن أن يتوقف إلا بالقضاء النهائي على الخصم، فلا مهرب من خوض حروب الإبادة التي لا يتوقف عنفها عند حدود القوى المنظمة والجيوش، وإنما ينزع إلى تدمير العمران وتهجير الشعوب التي “تنتج العنف والإرهابيين”. فليس تجنب الحرب والدمار هو ما تسعى إليه هذه النظم الاستعمارية الجديدة، وإنما الاستعداد والإعداد الدائم لحروب لا تنتهي. هذا ما برهن عليه حكم الأسد، وهذا ما تبرهن عليه حروب نتنياهو في فلسطين اليوم. وينبغي التركيز على هذه النقطة دون أن يعني ذلك تجاهل أخطاء المقاومين أو التقليل من شأن الخسائر الفادحة التي قادت إليها أو يمكن أن تقود إليها قرارات مرتجلة أو خاطئة. المهم أن لا نضيع البوصلة في تحديد المشكلة الرئيسية، ونطمس دون قصد مسؤولية المجرمين الفعليين أو نغطي عليها بتحميل الضحايا مسؤولية قتلهم بأنفسهم بعد دفع بعض شبابهم إلى العنف والتمرد والانتحار. والمشكلة الرئيسية هي في أساس وجود إسرائيل وشروط تأمينها والوظيفة التي تقوم بها لحساب الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي حولت المشرق العربي إلى برميل بارود وجعلت تاريخه سلسلة من الحروب والنزاعات والاغتيالات والموت الطويل.
3). لا ينفي ذلك أن عدداً من المعنيين، ومنهم السنوار، قد أخطؤوا بحق السوريين بإعلان تأييدهم لنظام الأسد الإجرامي. لكنهم لم يرتكبوا، كما فعل قادة حزب الله، الذين تباهوا بغطرسة استثنائية بمشاركتهم في القضاء على الثورة السورية، وارتكبوا جرائم حرب مباشرة بحق أبنائنا وبناتنا ليس دفاعاً عن قضية عادلة أو حتى بذريعتها، وإنما ارتهاناً لإرادة الولي الفقيه الإيرانية الطامحة إلى بناء إمبراطورية إقليمية على حساب استقلال شعوب المشرق وحريتها وكرامتها. ولم يكن في ذلك إلا أداة في يد الحرس الثوري لاختراق هذه الشعوب وإخضاعها.
أخطأت حماس في التعبير عن تأييدها للنظام بعد أن وقفت في البداية مع السوريين وأغلقت مكاتبها في دمشق، لكنها لم تنحرف عن هدفها، وزجت بكل قوتها في مقاتلة المحتل الإسرائيلي لأرض فلسطين والجولان. وهذا يُحسب لها. وللشعب الفلسطيني وحده الحق في محاسبتها فيما يتعلق بأخطائها وبخيارها السياسي والاستراتيجي، ونحن لسنا أوصياء عليه. وبكل الأحوال، ليس خطاب السنوار السيئ الحظ وبعض رفاقه من أجهض ثورتنا، إنما الغرفتان العسكريتان “الموم” و”الموك” اللتان تولتا منذ 2013 القيادة وتوزيع المال والسلاح على الفصائل، فأعطت كل منهما من تشاء وحرمت من تشاء، وقبولنا بذلك وتسليمنا بالتبعية للغير. هكذا تراجعت مواقع الثورة ومساحات سيطرتها إلى منطقة محدودة بعد أن كانت الفصائل الأهلية قد حررت الجزء الأكبر من الأرض السورية، حتى بعد زج الإيرانيين ميليشياتهم الطائفية وتدخل القوات الروسية الذي لم يكن من دون موافقة أميركية. فليس لسياسة أميركا في منطقتنا بوصلة أخرى غير المصالح الإسرائيلية.
4). في جميع الأحوال، لا ينبغي أن نفرح لفرح الإسرائيليين ونشمت لشماتتهم. ليست مصالحنا متطابقة مع مصالح إسرائيل ولا متقاطعة معها. من يعتقد ذلك يضيع البوصلة ويضل الطريق ويفاقم من أزمتنا وانقساماتنا وضياعنا. لا يمكن لمصالحنا الوطنية أن تلتقي مع حرب الإبادة الجماعية لإخوتنا في فلسطين، ولا يمكن لمرتكبي جرائم هذه الحرب أن يكونوا حلفاء ذاتيين أو موضوعيين لنا في أي وقت وحال. فهم يرون فينا فرائس، تماماً كما يرونها في الفلسطينيين. ولا ينبغي أن تغرنا ابتساماتهم أو صراعهم مع طهران لوراثة مكانها وبسط سيطرتهم علينا. إسرائيل ليست ولا ينبغي أن تكون البديل لإيران في سوريا. البديل الوحيد لتسلط إيران وعميلها الأسد هو الشعب السوري وحده. ولهذا ناضلنا وضحينا وما نزال.
5). ثم إن نضالنا لم ينتهِ ولن ينتهي قريبًا، ومعركتنا طويلة، وطريقنا مليء بالأشواك والمطبات والمعارك، ونحن بحاجة إلى أن ننسق كفاحنا مع كفاح إخوتنا في كل بلاد الشام، التي هي كتلة جيوسياسية واحدة، لا يمكن إرساء السلام فيها إلا باحترام وتأمين حقوق جميع أبنائها وشعوبها. فلا يعني الانتصار الساحق لإسرائيل، كما تريده الولايات المتحدة وحلفاؤها، سوى انفلات الشهية الإسرائيلية لمزيد من الغطرسة والتجبر والتوسع، والدوس على حقوقنا ومصالحنا. ولا بديل ممكن لنا لمواجهة خطط إسرائيل التوسعية وتسلطها على مصائر شعوب المنطقة إلا بإعادة التنسيق بين كفاحنا على جميع الجبهات. لهذا، ليس من مصلحتنا ولا مصلحة أحد في المشرق العربي أن نصنع أعداء من إخوة لنا فلسطينيين ولبنانيين وخليجيين، بدل أن نقاتل معهم ويقاتلوا معنا ضد عدوهم وعدونا، سواء كانت إسرائيل الرافضة لأي حل سياسي في فلسطين والجولان أو إيران التي جَيَّشت ميليشياتها الطائفية لتدمير كياننا وتفكيك مجتمعاتنا وابتلاعها.
6). ومن يراقب بدقة ما يجري في منطقتنا يدرك أنه لم يُترك للشعوب العربية في المشرق، الذي تم تمزيقه وبلقنته عمدًا لإخضاعه والتحكم بمصير شعوبه، وإقامة إسرائيل مستعمرة استيطانية أجنبية وتعزيزها بكل الوسائل القتالية والتدميرية، سوى أحد خيارين لا ثالث لهما: الأول: الحل الانتحاري الذي بدأ مع الفدائيين الفلسطينيين منذ الخمسينات من القرن الماضي ولن ينتهي بحرب الإبادة في غزة، مرورًا بخسارة جميع الحروب التي خاضتها الدول العربية مجتمعة ومنفردة مع إسرائيل. والثاني: قبول السلام المجاني، وهو ليس السلام مقابل السلام الذي أعقب التخلي من دون ثمن عما كان موضوع اتفاقات كامب ديفيد: الأرض مقابل السلام، وإنما أصبحت المعادلة اليوم: التسليم بقيادة إسرائيل للمنطقة أو بأسبقية أجندتها التوسعية التي لا نعرف أين تقف مع بروز الصهيونية التوراتية المتطرفة.
فليس هناك دولة عربية قادرة على هزيمة أو حتى التفكير في مواجهة الولايات المتحدة، التي وضعت كل ترسانتها في خدمة أحط حروب إسرائيل، وهي حرب الإبادة الدائرة منذ أكثر من عام في غزة. وليس لدى أي منها، ولن يكون، خيار آخر للحفاظ على سلامها وأمنها إلا التطبيع المجاني مع إسرائيل، الدولة القوية والنووية الوحيدة، والطامحة إلى السيطرة الكلية على المنطقة. وقد جاء دعم واشنطن غير المحدود وغير المشروط لها وإطلاق يدها في الحرب التوسعية ليزيد من طموحاتها، وتمكين حكومات اليمين المتطرف من إخضاع الدول العربية، ووضعها تحت التهديد الدائم لفرض الإذعان عليها والعمل على أجندتها. ومن الطبيعي أن يفتح هذا الوضع، كما ذكرت في مقال سابق، شهيتها للتوسع والسيطرة دون حساب، وربما التدخل في تعيين الحاكمين في هذه الدولة أو تلك وفرض الجزية عليهم أيضًا.
وإذا رفضنا الخيارين: الاستسلام والانتحار، وينبغي أن نرفضهما، فلا بد أن نبلور خيارًا ثالثًا لم نوجده بعد، ليس بالضرورة من أجل هزيمة إسرائيل وحلفائها الأمريكيين في الميدان العسكري، وهو مستحيل، ولكن لتعزيز قدرتنا على المناورة السياسية الإقليمية والدولية، والحد من جموح إسرائيل العنصرية، واستقطاب تعاون وتفهم الدول الأوروبية ودول الجنوب العالمي الأكثر تعاطفًا مع قضايانا إلى جانبنا. ومن المؤكد أنه إذا بقينا مشتتين، نشتم بعضنا بعضًا، ونندب حظنا، ونشكك واحدنا بالآخر، ونفقد احترام شعوبنا لبعضها البعض، ونشمت بخسارة أشقائنا، ونغض النظر عن خساراتنا ونبتلعها، لن نتقدم خطوة في تجاوز محنتنا، وسنبقى ممزقين ونزداد تمزقًا. لهذا، أعتقد أنه ليس لنا مصلحة في تعميق الشروخ بيننا نحن في هذه المنطقة المتنازع عليها، والتي نسميها بلاد الشام، وما كان ينبغي أن يكون دولة واحدة في عشرينات القرن الماضي. فسورية الطبيعية، كما ذكرت سابقًا، وحدة جيوسياسية متكاملة، ولا يمكن أن يحل فيها السلام ما لم يتم احترام حقوق جميع شعوبها وأفرادها. وهذا يتطلب منا ويفرض علينا أن نقدم التفكير السياسي والحسابات الاستراتيجية على العواطف والمشاعر والحزازات والجروح القديمة أو المتجددة، حتى نستطيع أن نعمل معًا، وحتى لا تصبح حياتنا اجترارًا لخلافاتنا ونزاعاتنا وخساراتنا وإحباطنا. وأرى أنه من الضروري، بعد أن فقدنا الماضي وخسرنا الحاضر، ألا نضيع المستقبل. ونحن لن نستطيع أن نبنيه إلا معًا، وبالتفاهم والتعاون والتضامن كدول متجاورة، إذا لم نشأ أن نعترف بهوية قومية واحدة أو قرابة ثقافية وتاريخية قائمة. وإعطاء الأسبقية لحساباتنا السياسية والاستراتيجية لا يعني بالضرورة الدوس على مشاعرنا وعواطفنا، بل ضبطها وعدم الانسياق وراءها وتعميق أسباب الصراع والنزاع وتغذية الاحتقانات النفسية والجروح العاطفية.
إن الاستسلام لمشاعر الكراهية وإحياء العداوات التاريخية أو الطائفية أو الجهوية أو الإثنية لن يفيد إلا في تعطيل تفكيرنا، ويسيء إلينا قبل أن يسيء إلى من نخطئ بتحويله إلى خصم لنا وهو ليس كذلك. فهذا يوجهنا توجها خاطئًا، ويبدد جهودنا جميعًا، بدلًا من أن نعمل على تجميع قوانا والتعاون على معالجة مشكلات ضعفنا وعجزنا. لا بأس في أن نتذكر الأخطاء، بل ينبغي أن نتذكرها ونتداول فيها حتى نتجاوزها، لكن لا أن نستمر في تحريك الخنجر في الجرح حتى يتفاقم الألم ولا يمكن شفاؤه. وبعبارة أخرى، حتى بين الأخوة تحصل خلافات وينبغي ألا نتوقف عندها أو نجمد التاريخ بسببها. فنحن أمام تحدٍّ واحد وخطير، تحتاج مواجهته إلى تضامننا جميعًا وتوحيد جهودنا وطاقاتنا، ليس من أجل تحقيق السلام الذي يكاد يصبح حلمًا فحسب، ولكن من أجل البناء والتنمية وتوفير شروط الحياة الكريمة لأبنائنا. باختصار، ينبغي ألا نفقد البوصلة، وأن نضع دائمًا في كل حركة وكلمة وخطاب في مقدمة تفكيرنا وأهدافنا تأمين شروط تغيير أحوالنا، والبحث عن كل ما يساعدنا على هذا التغيير، وما يعزز جبهتنا الداخلية وتحالفاتنا الخارجية. والتحالفات العربية، مهما كانت حدودها، تبقى هي مصدر الدعم الرئيسي المتاح لنا. لنترك الشكوك والاتهامات الباطلة والتنمر على الآخرين ورمي المسؤولية عليهم، ونركز على ممارستنا الفردية والجماعية التي نادرًا ما نخضعها للمراجعة والنقد والإصلاح. وهذا لا يتحقق من دون تنمية الروح الإيجابية والتعاونية والتوقف عن تضخيم ما يولده الإحباط من روح الهدم المتبادل، والتشكيك بالنوايا وتحطيم الثقة بالآخر، والإساءة له لمجرد اختلافه في الرأي معنا.
ينبغي علينا، بالعكس من ذلك، النظر إلى الاختلاف في الرأي كمصدر للتجدد وإغناء روح المبادرة وإبراز الخيارات العديدة الممكنة التي تحررنا من الانغلاق على السائد وتفتح آفاقًا وحلولًا جديدة ومتجددة. وهذا يستدعي أن نفتح أذهاننا للآخر ونتقبل التحاور معه، والسعي إلى تفهم طروحات ومنطق كل واحد منا قبل تكبيله بالتهم واختلاق القصص والأقاويل الباطلة. لا يحتاج المرء من أجل التعبير عن رأيه إلى تجريم رأي الآخر أو تقويضه، ولا يزيد هذا التجريم والتشويه من قيمة الرأي المقابل، بل ربما يقلل من شأنه ومصداقيته.
ولم أكن مضطرًا لتأكيد حقي الطبيعي في التعبير عن رأيي إلى اتهام أحد في وطنيته أو عقيدته أو سلامة عقله، ولا إلى نفي حق الآخرين المختلفين في تقييمهم وتقديرهم للموقف في التعبير عن رأيهم، ولم أنكر عليهم موقفهم. وأبسط مبادئ الديمقراطية، التي هي جوهر ثورتنا الدامية، هو الاعتراف بحرية الرأي والتعامل مع الاختلاف بروح إيجابية والنقاش بموضوعية وبحجج منطقية من دون اتهام أو تشهير أو شتائم لا تليق بشعب ضحى بمليون شهيد من أجل أن يستعيد حقه في الكلام والتعبير عن الرأي والاحتكام للشعب، ليس في الانتخابات السياسية فحسب، ولكن في تداول الأفكار والطروحات والمواقف أيضًا. فحرية الفكر كانت وينبغي أن تكون مقدمة لجميع الحريات السياسية. وعذرًا لكل من ساءه ما ذكرت أو وجد في موقفي خروجًا عن المألوف أو المعقول أو المطلوب أو المأمول.
* كاتب أكاديمي وباحث وسياسي سوري
المصدر: تلفزيون سوريا