الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“إيكونوميست” عن “تجارة النّفط السريّة التي تموّل حروب إيران”

إيمان شمص *

ما هو النظام الذي من خلاله تبيع إيران نفطها بطريقة سريّة، وتقبض ثمنه، وتوزّعه على ميليشياتها، خارج النظام المصرفي الدولي؟ وكيف تستطيع إدارة هذه العملية المعقّدة، عبر الكوكب، من دون أن تكشفها أو تتمكّن العيون الغربية من منعها؟ وهل يمكن للبلدان التي تفرض عليها عقوبات أن توقف هذه الدولة التي تنتج لها عشرات مليارات الدولارات سنوياً لتوزيعها على الحرس الثوري وعلى أذرعها في المنطقة؟

في حالة الحرب مع إسرائيل، ستحتاج إيران إلى المال. ليس فقط لشراء الأسلحة والحفاظ على استدامة اقتصادها، بل أيضاً لإعادة تسليح الجماعات التابعة لها مثل حماس والحزب. يفترض كثيرون أنّه بعد سنوات من العقوبات ستعاني إيران. وهم مخطئون، ففي كلّ عام، وفقاً لتحقيق أجرته مجلّة إيكونوميست البريطانية عن شبكة بمليارات الدولارات تتحدّى العقوبات الأميركية، تحوّل إيران عشرات المليارات من الدولارات من مبيعات النفط غير المشروعة إلى حسابات مصرفية في جميع أنحاء العالم. وقد تمّ استخدامها لتمويل هجوم حماس على إسرائيل، وأسراب الطائرات الروسية بدون طيار في أوكرانيا والبرنامج النووي الإيراني، وأدّت إلى تأجيج العديد من الأزمات ويمكن أن تؤجّج أخطرها قريباً…

يُظهر تحقيق “إيكونوميست” الذي استند، كما تدّعي، إلى معلومات من أشخاص لديهم معرفة مباشرة بنظام النفط الإيراني، بما في ذلك مسؤولون سابقون عن ملفات العقوبات، ومطّلعون إيرانيون، ومتخصّصون في المخابرات، ومحرّرون في موقع “ويكيران” التابع لجهة خارجية والمتخصّص بالتسريبات، أنّه كان لدى ايران في تموز/ يوليو الماضي 53 مليار دولار، و17 مليار يورو (19 مليار دولار)، ومبالغ أصغر من العملات الأجنبية الأخرى في الخارج. وأنّ البلاد بنت قنوات ظلّ ماليّة موازية مترامية الأطراف، تمتدّ من منصّات النفط إلى الخزائن الافتراضية للبنك المركزي. وأنّ الصين، المشتري الرئيسي لنفط إيران، هي مهندسة هذا النظام والمستفيد الرئيسي منه، وأنّ البنوك العالمية والمراكز المالية غالباً ما تستخدم دون علم منها كواجهات حيويّة.

لفهم كيف يمكن لإيران جمع الأموال، يسلّط تحقيق المجلّة الضوء على اقتصادها النفطي. فبعدما انهارت صادرات النفط الخامّ الإيرانية عندما أعادت إدارة دونالد ترامب السابقة فرض الحصار على إيران قبل 6 سنوات، عادت وتضاعفت اثنتي عشرة مرّة إلى 1.8 مليون برميل يومياً في أيلول/ سبتمبر لتحقّق مبيعاتها في العام الماضي ما بين 35 و50 مليار دولار. أضافت إليها صادرات البتروكيماويات مبلغ 15 إلى 20 مليار دولار أخرى.

لكن إذا كان من الصعب تهريب النفط على مئات الناقلات، وأكثر صعوبة غسل مليارات الدولارات سرّاً عبر النظام المصرفي العالمي في وقت تراقب فيه أميركا جميع المصارف، حتى الأجنبية منها، التي تجري المعاملات بالأوراق المالية الخضراء، فكيف يتمّ الدفع لإيران؟ وكيف تتحرّك وتخزّن وتنفق مثل هذه المبالغ من الأموال؟

إيران وتكتيكات كارتيلات المخدّرات:

يشبّه تحقيق المجلّة “تكتيكات إيران بتلك التي تستخدمها كارتلات المخدّرات لتسويق المنتجات وإعادة تدوير العائدات في مشاريع مشبوهة، غالباً من خلال أعمال مشروعة ظاهرياً”. ويوضح: “تصدّر أغلب الدول النفطية النفط عبر شركة عملاقة مملوكة للدولة، لكنّ إيران مختلفة. إذ تحتكر الإنتاج شركة النفط الوطنية الإيرانية، وهي شركة النفط المملوكة للدولة. وتساعد شركة نفط إيران إنترتريد Naftiran Intertrade Company  التابعة لشركة النفط الوطنية الإيرانية ومقرّها سويسرا، في تسويق النفط في الخارج. ومع ذلك، يتمّ تخصيص حصّة متزايدة منه للوزارات الإيرانية والهيئات الدينية وحتى صناديق التقاعد حتى يتمكّنوا من بيعه بأنفسهم، الأمر الذي يشبّهه مسؤول أميركي سابق “بالعصور الوسطى حيث يتمّ منح اللوردات أجزاء من المملكة”.

يضيف التحقيق: “في بلد يفتقر إلى العملة الصعبة، يشكّل النفط الخام شكلاً بديلاً للسيولة. سمحت ميزانية إيران في العام الماضي للقوات المسلّحة ببيع نفط بقيمة 4.9 مليارات دولار. كما تكافئ المخصّصات الموالين: في عام 2022 عُرض على الأفراد المعتمدين من النظام ما مجموعه 3.6 مليارات دولار من النفط. كما يتلقّى الحرس الثوري الإسلامي كمّية كبيرة من النفط، غالباً خارج السجلّات الرسمية. وبحسب مسؤول إيراني سابق حقّق فيلق القدس، الجناح الخارجي للحرس الثوري الإسلامي، 12 مليار دولار من مثل هذه المبيعات في عام 2022”.

لكلّ هذه الكيانات قنوات بيع منفصلة، على الرغم من أنّ شركة نيكو والحرس الثوري الإيراني غالباً ما يقدّمان خدماتهما للآخرين. في بعض الأحيان، تدير شركة وهمية كلّ شيء. وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية، تدير شركة Sahara Thunder في إيران مبيعات للقوات المسلّحة بينما تتظاهر بأنّها شركة تجارية خاصّة. تعهد إيران بانتظام بمبيعاتها إلى طرف ثالث في الخارج، مثل ASB، وهي شركة تركية، وفقاً لوزارة العدل الأميركية. لكنّ إيران تصرّ على الضمانات. نقلت شركة Baslam، وهي شركة تابعة لشركة ASB، 51% من أسهمها إلى قوّة القدس عندما بدأت العمل لمصلحتها، وفقاً لعقد تمّ الكشف عنه بين ASB وقائد الحرس الثوري الإيراني.

الاعتماد على الصّين:

يؤكّد التحقيق مدى اعتماد بقاء إيران الاقتصادي على الصين، حليفها الأقوى في المحور المناهض للغرب. لكنّ الصين أكثر اهتماماً بإبرام صفقة جيّدة، فتعرض المساعدة، مستغلّة موقف إيران الضعيف، ما دامت لا تخاطر بإحراق جسور مهمّة مع أميركا، منافستها الجيوسياسية، لكن أيضاً شريكتها التجارية الكبرى، وتوفّر الظروف المثالية لازدهار التهريب الإيراني، دون أن تظهر رسمياً على الإطلاق أنّها متورّطة فيه.

لكن على الرغم من أنّ الصين تستوعب 95% من صادرات إيران من النفط الخام، فإنّ شركاتها الحكومية الحذرة من العقوبات لا تريد لمس النفط. لذلك تقوم ثلاث أو أربع “شركات واجهة” إيرانية باستكشاف السوق. تظهر الوثائق التي شاركها أحد المصادر أنّ شركتي  Litamos International Limited  وHaosi Trade Limited، نفّذتا هذه المهمّة حتى عام 2021، عندما تمّ حلّهما. بينما لدى الصين سماسرتها، الذين يقوم عملاؤهم بتزويد المصانع التي رخّصت لها الدولة لمعالجة النفط الإيراني، ومعظمها مصافٍ صغيرة ومستقلّة تسمّى “أباريق الشاي”.

عند العثور على مشترٍ يتمّ توقيع اتفاق رسمي يكون عادة بين شركتين وهميّتين. ونظراً للمبالغ الضخمة، إذ يمكن أن تكلّف شحنة النفط الخامّ الإيراني بسهولة 50 مليون دولار إلى 100 مليون دولار، لا يمكن القيام بالأعمال على أساس الثقة. وتحدّد الوثائق كلّ التفاصيل، من التشغيل التجريبي وجداول التفتيش إلى حجم الشحنات المستقبلية. السعر مشابه عموماً لسعر خام برنت، وهو المعيار العالمي للنفط، ناقصاً حسماً يراوح بين 10 و30 دولاراً للبرميل. وتشمل العملات المقبولة الدولار، وفي حالات نادرة اليورو أو الدرهم الإماراتي أو الين. لكن ما لا تذكره العديد من العقود هو منشأ النفط، والذي عادة ما يذكر زوراً أنّه عراقي أو ماليزي أو عماني. وغالباً ما يتمّ تأكيد المنشأ الفعليّ في رسالة سرّية، مع كتابة الطبيعة الحقيقية للصادرات بأحرف كبيرة: النفط الإيراني.

100 “شركة واجهة” لبيع نفط إيران:

بحسب أحد المصادر للمجلّة، “هناك أكثر من 100 شركة واجهة تعمل على شراء ناقلات النفط. وغالباً ما تكون سفناً قديمة ترفع علم بنما، وهو ميناء متساهل، وقد أعيدت تسميتها لإرباك أجهزة التعقّب. وتبدأ السفن بالتقاط النفط من إحدى محطّات التصدير الإيرانية. ولتجنّب لفت الانتباه، فإنّها غالباً ما تستعير أجهزة إرسال واستقبال لسفن أخرى تدور حول المنطقة، أو تستخدم برامج كمبيوتر لجعلها تبدو وكأنّها في مكان آخر. ثمّ تبحر السفن إلى العراق أو عُمان، حيث قد يتمّ نقل حمولتها إلى سفينة جديدة. وقد تحدث إعادة شحن أخرى قبالة ماليزيا أو سنغافورة، وبعد ذلك تتّجه الشحنة إلى الصين”.

في كلّ مرحلة من هذه المراحل يتلقّى العملاء الإيرانيون تقارير تُحال إلى كبار المسؤولين، الذين قد يختبئون وراء ألقاب (“روجر”، في مثال حديث لقائد في الحرس الثوري الإيراني) في رسائل واتساب والملاحظات الصوتية. ويتمّ توفير شهادات المنشأ والأوراق المزيّفة طوال العملية. وحتى الأجزاء الأكثر سرّية من الرحلات تتمّ إدارتها عن كثب. وتضمّنت إحدى قوائم المراجعة، التي شاركها أحد المصادر، 24 سؤالاً عن إعادة شحن قبالة ماليزيا تتعلّق بـ Remy ريمي، المعروفة الآن باسم ويلما 2Wilma II، وهي ناقلة تشير معلومات التتبّع من شركة بيانات Kpler، إلى أنّها تحمل النفط الخام الإيراني.

في بعض الأحيان تسوء الأمور. قد تفشل عملية البيع مع انطلاق الناقلة. وقد تختفي الشحنة أحياناً، وهو ما يؤدّي إلى تهديدات بالعنف من قادة “الحرس الثوري”. يتمّ التخلّي عن بعض السفن ببساطة. غير أنّ البضائع تُسلَّم عموماً دون مشاكل ويستحقّ الدفع في غضون 45 يوماً. وهنا يأتي دور نظام الظلّ المصرفي الإيراني، الذي يمثّل إنجازاً بيروقراطياً بارعاً. إذ أنّه، بحسب مصدر مطّلع على الشركات النفطية الكبرى في البلاد، بما في ذلك شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة “بي.سي.سي”، وهي شركة تصدير رئيسية للبتروكيمياويات تسيطر عليها وزارة الدفاع، لدى هذا النظام إدارات ماليّة ضخمة تعمل كبنوك. وقد قامت بتأسيس شركات في إيران، يطلق عليها اسم شركات “الصيرفة”، تدير المدفوعات الأجنبية غير المشروعة ليس فقط لمصدّري النفط، بل ولأجزاء كبيرة من الاقتصاد الإيراني. فهي بدورها أنشأت شركات واجهة (صندوق ائتمان trust) هدفها جمع وتحويل الأموال تتّخذ لها مقرّات في مختلف أنحاء العالم. وتحمل أغلبها أسماء عشوائية مثال شركتَي “رينبو إنترناشيونال كوميرشال” «Rainbow International Commercial Company» أو “غلوريوس غلوبال ليمتد” «Glorious Global Limited»، ومقرّهما هونغ كونغ. يقتصر دور المالك المعلن عنه على الاتّصال بالسلطات المحلّية وتوفير وكلاء للإيرانيين أو العملاء الإيرانيين. وبحسب مسؤول إيراني سابق فإنّ نحو 200 إيراني يحملون جوازات سفر مزدوجة يشرفون على مثل هذه الشركات في أوروبا.

عندما يريد مصدّر نفط الحصول على أمواله، يرسل بريداً إلكترونياً إلى شركة الصيرفة المفضّلة لديه، موضحاً المبلغ الذي يحتاج إلى تسلّمه ومن هو المتسلّم. ثمّ تتحقّق هذه الشركة من الأرصدة عبر شبكتها لتحديد المكان الذي تفضّل أن تصل إليه الأموال. ثمّ تطلب من شركة النفط إبلاغ عميلها بأنّه يجب أن يتوقّع فاتورة من صندوق ائتمان باسمه. ويتمّ سداد بعض المدفوعات باليوان الذي تعيد إيران تدويره داخل الصين. ولكنّ اليوان غير قابل للتحويل، ولا يمكن لإيران شراء الكثير من الصين. لذا غالباً ما تطلب الشركات الإيرانية العملة الصعبة. وتعمل الآلية نفسها في الاتّجاه الآخر أيضاً، فتسمح للشركات الإيرانية بدفع ثمن الواردات سرّاً.

كيف تصل إيران إلى النظام المالي الدولي بمساعدة الصينيين؟

البنوك التي تمتلك فيها حساباتٍ الشركاتُ الوهمية، التي تعمل “واجهات” لإيران، والتي تعمل على التحويلات، تسمح لإيران بالوصول إلى النظام المالي الدولي. يصرّ العديد من الخبراء الغربيين على أنّ الشركات الواجهة الإيرانية يديرها بالكامل تقريباً مقرضون صينيون إقليميون لا يمارسون أيّ أعمال تجارية في الغرب، وبالتالي هم محصّنون ضدّ الانتقام الأميركي. وبنك كونلون، البنك الصيني الوحيد الخاضع للعقوبات المرتبطة بإيران، مسجّل في شينجيانغ، وهي مقاطعة نائية للغاية.

لكنّ بعض خبراء الامتثال المصرفي أفادوا أنّه يتمّ أيضاً استخدام المؤسّسات الكبيرة بهذه الطريقة. واستناداً إلى تسريبات من شركة نفط إيرانية، أدرج موقع “ويكي إيران” في نيسان من العام الماضي تفاصيل 218 حساباً مصرفياً مرتبطاً بـ 71 صندوقاً تديرها شركة “أمين”، وهي واحدة من أكبر شركات الصرافة في إيران. وتشير مراجعة لقاعدة البيانات المرتبطة إلى أنّ 67 من هذه الحسابات فقط استضافها بنك صيني صغير. ومن بين بقيّة الحسابات، كان 99 حساباً في أحد أكبر 20 مصرفاً في الصين. وبمراجعة أرقام الحسابات الأخرى من خلال IBAN Checker، وهو موقع إلكتروني يتحقّق من تفاصيل البنوك، تبيّن أنّ 30 حساباً كانت موجودة في الإمارات العربية المتحدة، بما في ذلك أكبر بنكين في البلاد، وعشرة حسابات كانت في بنوك أوروبية هي CBC وING وOTP وCommerzbank، وثلاثة بنوك ادّخار ألمانية، وخمسة أخرى كانت في بنوك تركية. وكان اثنان في شركات التكنولوجيا المالية الأوروبية Paysera وWise التي تتعامل مع المدفوعات عبر الحدود.

الصين- هونغ كونغ- إيران:

لا يوجد ما يشير إلى أنّ البنوك أو شركات التكنولوجيا المالية كانت تعلم أنّها تتعامل مع شركات واجهة تعمل نيابة عن إيران. وردّاً على رسائل البريد الإلكتروني من معدّي تحقيق المجلّة، قالت CBC وWise إنّهما لا تستطيعان التعليق على الحسابات الفردية. وقالت ING إنّها بدأت تحقيقاً داخلياً العام الماضي كشف عن معاملات مع كيانات مذكورة على موقع “ويكي إيران” Wiki Iran وأسفرت عن إغلاق الحسابات في وحدتها البلجيكية. وقالت OTP إنّ الحسابات ذات الصلة أُغلقت في آب 2019.

في المقابل، تُظهر المستندات التي حصلت عليها المجلّة أنّه في وقت ما، على الأقلّ منذ عام 2021، كان للشركات الواجهة التي تسهّل أو تطلب المدفوعات المرتبطة بتجارة النفط الإيرانية حسابات في Citibank في هونغ كونغ، وHSBC في هونغ كونغ، وأكبر أربعة بنوك في الصين. لا يوجد ما يشير إلى أنّ البنوك كانت تعلم أنّها كانت تتعامل مع شركات واجهة تعمل نيابة عن إيران. لكن يكشف التحقيق أنّ عدداً من الشركات الواجهة تمكّنت من التهرّب من أساليب التحقّق التي تستخدمها البنوك. ومعظم هذه الحسابات بعضها مقوّمة بالدولار، وبعضها الآخر باليورو. وتُظهِر إيصالات المعاملات أنّ الشركات الواجهة الإيرانية تستخدم بعض المقرضين العالميين كـ”مراسلين”، وهي البنوك الدولية التي تقوم بتسوية معاملات العملات الأجنبية للبنوك الأصغر حجماً من خلال المراكز المالية الكبرى.

غالباً ما تستخدم البنوك الصينية البترودولار، حيث يحتفظ مشترو النفط بأموالهم، ويكون ترتيب التحويل المحلّي أكثر تحفّظاً من إرسال الأموال إلى الخارج. ثمّ يسمح غموض النظام المصرفي الصيني للبورصات الإيرانية بتداول الأموال في القارّة مع تدقيق أقلّ. وبالنسبة للمصرفيين المحلّيين، الأمر أشبه “بأيّ نوع آخر من تجارة السلع الأساسية”، كما تقول جوستين ووكر من جمعية المتخصّصين المعتمدين في مكافحة غسل الأموال.

تتمتّع البنوك الصينية الكبرى بجاذبية أخرى: فروعها في هونغ كونغ، حيث تلتقي حلقة المال المغلقة في الصين بالتمويل العالمي. وتعدّ المنطقة موطناً لنظام المقاصّة الوحيد المهمّ بالدولار خارج أميركا. ويسمح نظام USD CHATS، الذي يعمل من خلال حسابات تموّلها البنوك بالدولار، للأعضاء بإجراء المعاملات بالدولار دون المرور عبر المؤسّسات في أميركا. وتستخدمه جميع البنوك الدولية التي لديها أعمال لائقة في آسيا، بما في ذلك تسعة من أكبر عشرة بنوك في الصين. ولا يُطلب من هذه البنوك ولا من بنك HSBC، الذي يدير النظام، الإبلاغ عن المعاملات إلى العمّ سام.

التّمويل الوهميّ: أميركا عاجزة؟

بموجب اتفاقية مع الولايات المتحدة، يجب على بنوك هونغ كونغ التحقّق من أنّ المدفوعات التي تسدّدها من خلال CHATS تتوافق مع العقوبات الأميركية حتى لو لم تطبّقها هونغ كونغ. وفقاً لديفيد آشر من معهد هدسون للأبحاث، فإنّ عدم قدرة أميركا على التحكّم في المعاملات يترك مجالاً للمناورة. في العام الماضي، عالج النظام ما معدّله 60 مليار دولار من المدفوعات يومياً، وهو حجم يجعل من الصعب اكتشاف المعاملات المشبوهة.

في مرحلة لاحقة من رحلتها، قد تنتقل أموال إيران عبر مراكز مالية أخرى. وتشير الوثائق التي تسرّبت إلى “ويكي إيران” إلى أنّه قبل شهر أيار، استضاف فرع بنك مصر في دبي، وهو بنك مصري، ما يصل إلى 38 شركة واجهة تستخدمها الذراع المالية لشركة “بي.سي.سي”، وهي شركة تصدير البتروكيمياويات. وتستخدم بعض شركات الصيرفة الإمارات العربية المتحدة لتحويل الأموال بين صناديق الائتمان من أجل الحفاظ على توازن الحسابات، وغالباً بعد تحويل الدولارات إلى دراهم، كما يوضح أحد المصادر. وتتنقّل حزم الأوراق النقدية بين البنوك. وتحتفظ بعض شركات الصرافة بـ”خزائن نقدية” لشحن الحسابات.

بحسب مصادر التحقيق، لا يتمّ التقاط العلامات التي ينبغي أن تثير الحذر في العديد من البنوك التي تستضيف شركات وهمية. وقد يكون المالكون المسجّلون من مواطني الفلبين أو الهند الذين لا يحملون مؤهّلات مناسبة. وعند التفتيش، قد يبدو سلوك الحسابات غريباً، حيث تتلقّى الشركة أموالاً من تجارة النفط وتقوم بدفعات لأشياء غير ذات صلة. ويقول مصدر مطّلع على شركة النفط الوطنية الإيرانية إنّ البنوك التي تعمل عن علم مع إيران يمكن أن تكسب عمولة تصل إلى 15% من قيمة التحويلات.

أين تنتهي الأموال؟

تبقى بعض الأموال في آسيا أو تتدفّق إليها، وهي مصدر العديد من الواردات الإيرانية، بما في ذلك قطع غيار الأسلحة. ويتمّ إخفاء البعض الآخر في منطقة الشرق الأوسط، حيث تدفع أجور مقاتلي حماس والحوثيين والحزب. وفي بعض الأحيان يتمّ تخزين الأموال في أماكن أقلّ وضوحاً، مثل فروع البنوك في بودابست أو آخن، وهي مدينة منتجعات تقع على حدود جبال إيفل في ألمانيا. ولندن هي سادس أكبر قاعدة في العالم من حيث عدد الكيانات المرتبطة بإيران المدرجة على القائمة السوداء للولايات المتحدة.

تتابع شركات الصيرفة الأموال الإيرانية من خلال الاحتفاظ بدفاتر الأستاذ الداخلية: جداول بيانات ضخمة تسجّل المدينين والدائنين عبر مئات صناديق الائتمان. يقوم عملاء الشركات الإيرانية بتسوية المعاملات عن طريق شراء أو بيع الدولارات الافتراضية عبر منصّة عبر الإنترنت، تسمّى نيما NIMA، وعادةً بأسعار صرف مدعومة. على الرغم من بقاء العملة الصعبة في الخارج، إلا أنّها في النهاية ملك البنك المركزي الإيراني، الذي يدير نيما. ويقول مصدر مطّلع على كيفية إدارة البلاد لدفاترها إنّ البنك لديه جدول بيانات خاصّ به لتسجيل الاحتياطيات الافتراضية التي يحتفظ بها في الخارج.

مثل هذا النظام مكلف. فإلى جانب الحسومات والمكافآت للوسطاء والرسوم المالية، تتلقّى إيران عملة أقلّ بنسبة 30% إلى 50% ممّا قد تحصل عليه في سوق مفتوحة، وفقاً للمصدر. ويختفي أمناء الشركات الواجهة أحياناً مع الصندوق. ومع ذلك، فإنّ هذا التعقيد المسرف يجعل الشبكة مرنة أيضاً. وعلى الرغم من أنّ منفّذي القانون الأميركيين كشفوا عن مئات الشركات المرتبطة بإيران، إلا أنّ شركات جديدة تظهر بسرعة. وتُظهِر رسائل البريد الإلكتروني بين الرؤساء في شركة PCC أنّه في عام 2022، عندما تمّ الكشف عن مئات الحسابات الائتمانية، لم يستغرق الأمر سوى بضعة أشهر حتى تتمكّن الشركة من استخراج الأموال واستبدال معظمها. قد يكون لإجبار البنوك على فحص الجبهات الإيرانية بشكل أكثر جدّية ربّما من خلال معاقبة الحالات الفادحة، تأثير أكبر. لكن على الرغم من التحذيرات من أنّها قد تفعل ذلك، فإنّ إدارة بايدن لم تدرج بنكاً واحداً على القائمة السوداء بعد.

وفقاً لمؤيّدي مثل هذا التنفيذ غير المدروس تحقّق العقوبات هدفها: تقليل الإيرادات التي تكسبها إيران من المبيعات دون الإضرار بإمدادات النفط العالمية. لكن تكمن المشكلة في أنّ التكاليف تتحمّلها إلى حدّ كبير الأسر الإيرانية، التي تواجه تضخّماً مزدوج الرقم، والتجّار المستقلّون، الذين يفتقرون إلى الاتصالات لتأمين الواردات. بينما في الوقت نفسه، يستفيد الموالون للنظام ويجمعون الصواريخ، مع اقتراب البلاد من بناء الأسلحة النووية.

إنّ مغسلة إيران، يخلص تحقيق “إيكونوميست”، إهانة للغرب، ونعمة للصين وتهديد للعالم.

…………………………………..

النص الأصلي على “ذا إيكونوميست”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* صحافية لبنانية ومترجمة للعربية من اللغتين الفرنسية والإنكليزية

المصدر: أساس ميديا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.