صلاح الدين الجورشي *
أغلق ملف الانتخابات الرئاسية في تونس، وفتح باب الأسئلة على مصراعيه. أولها ما الذي يجب أن يتغيّر في النخبة التونسية حتى تستعيد قدراً من عافيتها وهيبتها، وحتى تتمكّن من أن تضع أقدامها على أرض الواقع، وتقرأ بعيونٍ مفتوحةٍ رموز المشهد الراهن، فالطرف الخاسر والمصدوم بعد انقضاء الانتخابات هو النخبة العالمة بدرجة أساسية. حتى الذين اختاروا المقاطعة، وبقوا يتابعون المشهد عن بعد، فاجأتهم النهاية. لم يقع تزويرٌ مباشرٌ في الصناديق، وفي الآن نفسه، شارك في التصويت أكثر من مليونين وأربعمائة ألف ناخب، منحت أغلبيّتهم الساحقة أصواتها باقتناع ودون تردّد للمرشّح قيس سعيّد. لم يفكروا في ما حدث خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ولم يتوقفوا عند الاتهامات الخطيرة التي تحدّثت عنها الأحزاب والجمعيات والمنظمات الدولية، وإنما توجهوا نحو الصناديق بحثاً عن “الرجل الأمين والصادق والمحارب للفساد” لا غير.
هناك من اتهم مواطنيه بالجهل وعدم النضج. وهناك من ردّد أن الشعب لم ينضج ولم يفهم الديمقراطية في أبعادها الحقيقية والعميقة، فعاد بسرعة ليتمسّك بالحاكم النقي والقوي والحازم، ويعلن مساندته في حروبه ضد الخونة والأشرار.
تحتاج هذه المسألة إلى إسهاب وتفكيكٍ كثيرين. لكن المؤكّد أن الذين صاغوا هذا التعليل، وحاولوا بناءً عليه تفسير ما جرى، ألقوا باللائمة على عموم التونسيين، وأخرجوا أنفسهم من دائرة الاتهام، واكتفوا بجَلْد الآخرين.
حتى نتجنّب التعميم والغموض، يجب التأكيد أن النخب جزء من الشعب أو الأمة. لا يوجد شعب دون نخبة. ويفترض في النخبة أن تقود، أو على الأقل أن تشارك في القيادة. يمكن أن تخطئ النخبة وتنحرف، لكن المطلوب منها أن تعتذر لشعبها، وأن تصحّح أخطاءها، وتعدل في مساراتها. من الخطأ الاعتقاد بضرورة التخلّص من النخبة، مثلما تسعى لذلك القيادة السياسية في تونس، بحجّة الاعتماد فقط على الشعب، فالشعب كمّ من الأفراد المختلفين والمتناثرين، ولقيادتهم يحتاجون إلى الانصهار الاجتماعي والسياسي والثقافي في نسقٍ من القيم والرموز والمؤسّسات. وهي مهمة تساهم في إنجازها النخب بأقدار متفاوتة. فالنخبة نخب تختلف وتتصارع وتتباين، لكنها تبقى جزءاً من البناء الوطني، تحتاجها الدولة وتحتاج هي للدولة مع وجود أجسام وسيطة.
لقد أساءت النخبة التعامل مع المرحلة التي تلت خروج بن علي من السلطة. يستوي في ذلك الذين حكموا أو الذين عارضوا، ارتكب كلاهما أخطاءً من الحجم الثقيل، أدّت إلى صعود ظاهرة قيس سعيّد. وعندما ارتقى هذا الأخير سدّة الحكم، تعاملت معه كل الأطراف بتعالٍ، وأساءت تقدير الموقف، ولم تتوقع ما الذي يمكن أن يفعله، واستمرّت في لعبتها المفضّلة، وهي الصراع على المواقع، وتقسيم المجزّأ. واستمرّ الأمر على ذلك الحال إلى أن نضجت الثمرة، وتهيأت الظروف والشروط، فباغتهم في ليلة ليلاء وهم جلوسٌ في بيوتهم ومنتدياتهم، فسحب منهم صلاحياتهم ومواقعهم، وشرع ببناء نظامه القاعدي من دون استشارة أحد. وكلما توغل في هذا الاتجاه سخر منه القوم، وندّدوا بما فعل، وظلّوا منقسمين، يلعن بعضهم بعضاً. وعندما بلغ الرجل الشوط الأخير، ارتبك الجمع، واختلفوا بشأن المشاركة في الانتخابات أو المقاطعة. وانتهوا بالانسياق وراء اختيار المقاطعة، تاركين أنصارهم وبقية الشعب في حيرةٍ لا يحسدون عليها. وبعدها انطلق موسم تبادل التهم وإظهار الحيرة بمختلف أبعادها ومعانيها. أما التونسيون، فتابعوا بامتعاض ما يحصل من جدلٍ كاد أن يصبح عقيماً. وعندما دقّت ساعة الحسم عبر الصناديق، اختار الناخبون من بدا لهم الأصدق والأكثر حزماً والأنظف يداً، من دون الالتفات إلى ما قيل عن الرجل أو فعل.
هذا ما جنته براقش على نفسها. وإذا كان قيس سعيّد لم ينجح في تغيير الأوضاع نحو الأفضل، فالمؤكّد أيضاً أن النخب، وخصوصاً السياسية والحزبية، قد فشلت في صناعة البديل. وفي انتظار أن تخرج هذه الأطراف من دهشتها، عليها أن تدرك أن الوضع يستوجب قراءة جديدة، وتعاملاً مختلفاً، سواء مع الرئيس سعيّد، أو مع الشعب الممتحن في نخبته.
* كاتب تونسي
المصدر: العربي الجديد