رياض معسعس *
استشاط بنيامين نتنياهو غضباً، بعد تصريح إيمانويل ماكرون الداعي إلى وقف توريد الأسلحة لإسرائيل بقوله: “أعتقد أن الأولوية اليوم هي العودة إلى حل سياسي، والكف عن تسليم الأسلحة لخوض المعارك في غزة” وأضاف ماكرون: “فرنسا ليست مورداً رئيسياً للأسلحة لإسرائيل، وأعتقد أنه لم يتم الاصغاء إلينا، لقد قلت ذلك من جديد لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأعتقد أن ذلك خطأ، بما في ذلك بالنسبة لأمن إسرائيل مستقبلاً إننا نلمس ذلك بوضوح لدى الرأي العام، وبشكل أفظع لدى الرأي العام في المنطقة، إنه في الجوهر استياء يتولد، وكراهية تتغذى عليه”، وأكد أن: “الشعب اللبناني لا يمكن أيضاً التضحية به ولا يمكن للبنان أن يصبح غزة جديدة”.
حظر الأسلحة:
هذا التصريح قابله نتنياهو بالقول: ”بينما تحارب إسرائيل القوى الهمجية التي تقودها إيران، يتعين على جميع الدول المتحضرة أن تقف بحزم إلى جانب إسرائيل. إلا أن ماكرون وغيره من القادة الغربيين يدعون الآن إلى حظر الأسلحة على إسرائيل. يجب أن يشعروا بالعار، هل تفرض إيران حظر أسلحة على حزب الله، على الحوثيين، على حماس وعلى وكلائها الاخرين؟ طبعا لا، محور الإرهاب هذا يقف صفا واحدا. لكن الدول التي يفترض أنها تعارض محور الإرهاب هذا، تدعو إلى الكف عن تزويد إسرائيل بالسلاح. يا له من عار.. إسرائيل ستنتصر حتى دون دعمكم، لكن عاركم سيستمر لوقت طويل بعد الانتصار في الحرب “. ونسي نتنياهو أن ماكرون كان من أوائل الزعماء الأوربيين الذي تقاطروا إلى تل أبيب على أعقاب عملية “طوفان الأقصى” للتعبير عن دعم فرنسا الكامل. واللافت أن ماكرون لم يُدلِ بمثل هذا التصريح إلا بعد العدوان على لبنان الذي تعتبره من صنع يديها، أسوة ببريطانيا التي صنعت إسرائيل، بينما أغفله خلال سنة كاملة من العدوان على غزة.
جاء رد الفعل الأول على تصريح نتنياهو من قصر الإليزيه بالقول بأنه:” كلام مفرط ولا علاقة له بالصداقة بين فرنسا وإسرائيل”. وندد وزير الخارجية الفرنسي بالاستفزاز الصادر عن نتنياهو الذي هدد بتدمير لبنان مثلما حصل في غزة إذا لم يتخلص من حزب الله. وحاول ماكرون أن يعدل من موقفه سريعاً بتغريدة على منصة “إكس” بلغات ثلاث فرنسية وإنكليزية وعبرية بالقول: “ما يزال الألم حاضراً، وأكثر حدة مما كان عليه الحال قبل عام، ألم الشعب الإسرائيلي ألمنا نحن الخاص، وألم الإنسانية الجريحة”. وسارع ليتصل بنتنياهو “ليُطيب خاطره”. وأصيبت الأوساط السياسية الفرنسية بارتباك، (لا تعرف على أي الجانبين تميل)، حزب “فرنسا الأبية” اليساري الداعم للفلسطينيين حيّا موقف ماكرون، لكن الجهات السياسية الأخرى دخلت في جدل بين مؤيد، ومعلل، ومعارض، وخاصة من الجالية اليهودية في فرنسا التي عبرت عن غضبها، مع أن من المعروف أن ماكرون كان قد خرق القانون الفرنسي لاحترام العلمانية (قانون 1905 وتم تعزيزه بقانون 24 آب/ أغسطس 2021 الذي يروم تكريس احترام مبادئ الجمهورية، وتم إضفاء الطابع المؤسسي على اليوم الوطني للعلمانية في فرنسا، والذي يحتفى به في 9 ديسمبر/ كانون الأول كل سنة) عندما قام ماكرون بإضاءة شمعة عيد “الحانوكا” (عيد الأنوار اليهودي) في قصر الإليزيه تخليداً لذكرى الإسرائيليين الذين قُتلوا خلال عملية طوفان الأقصى.
أربع محطات تاريخية تطبع العلاقات العربية الفرنسية وتتداخل فيها القضية الإسرائيلية:
1). معركة بلاط الشهداء في بواتييه 718.
2). قيادة فرنسا للحملات الصليبية واحتلال فلسطين 1096.
3). غزو مصر 1798 من قبل نابليون.
4). معركة ميسلون واحتلال سوريا 1920.
قلائل من يعرف أن فرنسا تُعتبر أول دولة أوروبية أعادت الاعتبار لليهود في عهد نابليون بونابرت الذي عقد أول اجتماع للسنهدرين (في أيلول/ سبتمبر 1809. والسنهدرين هو مجلس المشيرين اليهود) وأن نابليون كان أول من نادى بتوطين اليهود في فلسطين إبان حملته على مصر في 1798 إذ أصدر بياناً يقول فيه: “إلى ورثة فلسطين الشرعيين أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط. يا ورثة فلسطين الشرعيين إن الأمة الفرنسية تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء”.
لم ينجح نابليون في مسعاه بعد هزيمته في عكا، لكن مع اتفاقية “سايكس- بيكو” تخلت فرنسا لبريطانيا عن فكرتها القديمة في فلسطين (التي لقطت خيط اليهود ووعدتهم بوطن قومي حسب وعد بلفور) مقابل السيطرة على سوريا الكبرى.
وبدأ اهتمام فرنسا بالصهيونية اليهودية عندما استغلتها كإحدى الوسائل لإسقاط السلطنة العثمانية حليفة ألمانيا التي تُعاديها. (فرنسا دعمت الإرهابي اسحق شامير الذي دمر فندق الملك داوود وقتل مبعوث الأمم المتحدة الكونت برنادوت ومعه الكولونيل الفرنسي أندريه ساروت، وتمت ملاحقته من بريطانيا وهرب إلى الحبشة ومنها إلى جيبوتي ثم إلى فرنسا التي رفضت تسليمه وأقام فيها حتى إعلان دولة إسرائيل). ولكن هناك نقطة سوداء في تاريخ فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية (حكومة فيشي) تجاه اليهود، والتي تمثلت باعتقال عشرات الآلاف من اليهود وترحيلهم إلى ألمانيا النازية، وإلى اليوم تشعر بعقدة الذنب وتدفع ثمنها. مع إعلان الدولة الإسرائيلية بدأت السياسية الفرنسية تأخذ انعطافه تجاه العرب بحيث تمسك العصا من الوسط خوفاً على مصالحها في البلاد العربية، ولم تعترف بإسرائيل إلا بعد سنة من قيامها (24 كانون الثاني/ يناير 1949). وجاء تأميم قناة السويس من قبل الرئيس جمال عبدالناصر لتقوم فرنسا بالتحالف مع بريطانيا وإسرائيل بالهجوم على مصر واحتلال إسرائيل لصحراء سيناء مع أنها ليس لها في قضية قناة السويس لا ناقة ولا بعير، إذ كانت شركة فرنسية- بريطانية- مصرية. في السنة التالية (أيلول/ سبتمبر) كافأت حكومة غي موليه الاشتراكية إسرائيل بتوقيع اتفاقية لإنشاء مفاعل ديمونة النووي الذي تمكنت بفضله تصنيع مئات القنابل النووية، التي هدد وزير التراث عميخاي إلياهو مؤخراً بإلقاء واحدة منها على غزة. (وقامت بالمقابل بناء مفاعل نووي للعراق مع شركة إيطالية وقامت إسرائيل بتدميره في العام 1981)، واستمالت فرنسا اليهود (الذين كانوا يعيشون مع العرب في إسبانيا) في حربها في الجزائر، وفي سنة الاستقلال 1962 غادروا جميعاً معها.
في العام 1958 طوت فرنسا الجمهورية الرابعة وأنشأ الجنرال شارل ديغول الجمهورية الخامسة بدستور جديد للبلاد. في هذه الفترة ظهر ديغول وخلال استقباله لديفيد بن غوريون في بداية الستينيات بأنه يعتبر إسرائيل “صديقة وحليفة” لكن حرب حزيران/ يونيو قلبت موقفه رأساً على عقب عندما أعلن حظر الأسلحة على إسرائيل (كما طالب ماكرون اليوم)، ويتذكر رئيس الوزراء السابق ليفي أشكول عند زيارته لديغول الجملة الشهيرة التي تفوه بها واصفاً اليهود بـ : “بالشعب المتميز، والواثق من نفسه، والمستبد” وبقيت كلمة “مستبد” ترن في آذان أشكول حتى مماته، وهذا الموقف المبدئي من ديغول ربما كان السبب في إثارة احتجاجات 1968 التي أطاحت به. ولم يستمر الحظر طويلاً بعد قرار رئيس الوزراء جاك شابان ديلماس بإرسال غواصات خمس إلى إسرائيل كان قد شملها الحظر.
الانقلاب الحقيقي في السياسة الفرنسية جاء مع الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي كان أول من استقبل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي كان تصفه الصحف الفرنسية وكل منظمة التحرير بـ “الإرهابيين” التي اعتمدتها من موقف إسرائيل ثم أنقلب الوصف إلى “فدائيين” وهذا ما أزعج الساسة الإسرائيليين، وقد تبنت فرنسا حل الدولتين ومازالت تتمسك به وهو ما يتعارض مع مواقف إسرائيل التي تريد محو كلمة فلسطين من الخريطة.
اجتياح بيروت:
نقاط الخلاف بين البلدين كثيرة، ونقاط اللقاء أيضاً، خلال الحرب الأهلية اللبنانية واجتياح إسرائيل لبيروت كان موقف فرنسا ضد الاجتياح رغم أن حزب الله كان قد فجّر مقر الجيش الفرنسي، وقامت فرنسا بتقديم السفن لترحيل قوات منظمة التحرير إلى تونس، وقد استقبلت فرنسا الرئيس ياسر عرفات في رحلة علاجه الأخيرة بعد أن حاصرته إسرائيل (وربما دست له السم) وتوفي هناك. وفي فترة الرئيس جاك شيراك كانت العلاقات الفرنسية الإسرائيلية في أسوأ أحوالها بعد أن تعرض شيراك للمضايقة من قبل رجال الأمن الإسرائيليين خلال زيارته لفلسطين.
وأزمة ماكرون نتنياهو ما هي إلا آخر حلقة متأرجحة في العلاقات بين البلدين التي يمكن وصفها “بضربة على الحافر وضربة على المسمار”، ووصف موقف ماكرون (الذي عاد بطلبه لوقف تصدير الأسلحة المستعملة في غزة ولبنان) من نتنياهو: “مجبر على حبك لا بطل”.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي