يوسف موسى *
يقول الطبيب النفسي الأميركي هارولد سيرلز أن مريضا مشخّصا بالفصام، أخبره مرة: “يا دكتور، أنت لا تعرف كيف يبدو الأمر عندما تنظر إلى العالم من خلال عيون مربعة”، فسر الطبيب سيرلز ذلك بأن المريض لا يستطيع التمييز بين حدود جسده وحدود الغرفة التي يجلس فيها، فالعيون المربعة هي نوافذ الغرفة التي تطل على العالم الخارجي، وجسده هنا تحول إلى الغرفة نفسها، وكل خبراته وتفاعلاته تجري ضمن عدم إدراكه لهذا التمييز بين الغرفة وجسده، كما أن العالم بالنسبة له يتحول إلى حدود ما يظهره النافذة/عينه.
ينزع البعض، وإن كانوا أسوياء لا فصام لديهم، إلى حصر أنفسهم في غرفة متخيلة، قد تكون حدودها الأيديولوجيا أو الدين أو المذهب أو القضية، لها نافذتان مربعتان تطلان على كون واسع، غير أنهم يصرون على اختزال العالم بما تظهره حدود هاتين النافذتين، دون إدراك بما هو أوسع وأرحب.
أمة “محور المقاومة” أولاً:
استُفز البعض من مشاهد توزيع الحلويات التي انتشرت في الشمال السوري، في مناطق يجتمع فيها ملايين السوريين، جُلهم ممن هجرهم النظام وحلفاؤه، بمن فيهم حزب الله من مدن وقراهم، بعد مقتل حسن نصرالله، فبدأ “مؤثرون” يضللون من قبيل أن التنظيمات التي قاتلت في سوريا لم تختلف عن النظام، فقتل بعضها بعضاً، واستهدفوا الأبرياء، وفي هذا القول تحميل للسوريين أولاً؛ مسؤولية الحرب التي شنها النظام بداية منذ أول شهيدين سقطا في درعا في أول مظاهرة يوم 18 آذار/ مارس 2011، فكان الإنذار من وقتها بسيل الدم. وثانيا؛ مسؤولية ظهور التنظيمات الإرهابية في سوريا فيصمُ بذلك كل من احتفل بمقتل نصرالله بأنه في أدنى الأحوال راضٍ عن هذه التنظيمات إن لم يكن جزءاً منها. وهذا كالذي يُحمل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الدم المنساب في شوارع غزة منذ عام، مجتزئاً السياق، وناسفاً أكثر من 70 سنة من الاحتلال والانتهاكات الإسرائيلية.
كما يقول آخرون أن السوريين “يشقون صف الأمة” و”إذا لم تتضامن فاخرس” وكأن الناس جميعاً كانوا مجتمعين سابقاً على تعريف واحد لـ”الأمة” وجاء السوريون المُقتَلَعون من أرضهم، والمقتول أهلوهم، ليشقوا صف الأمة، ويفرقوا اجتماعها، لكن هؤلاء ينسون أن يحددوا ما “الأمة” التي يقصدون؟
ثم يأتي أولئك الذين يصرون على أن نصرالله امتنع عن حرب السوريين بدايةً، حتى هدد السوريون مخازن سلاحه وطريق إمداده، فهذا ما ينقضه حسن نصرالله ذاته في مقابلة تلفزيونية أجراها مع قناة الميادين يؤكد فيها تدخله بشكل شخصي مع الحاج قاسم “قاسم سليماني” منذ اليوم الثاني لسقوط حسني مبارك، أي قبل اندلاع الثورة، حيث قال إن قوى خارجية حركت مسلحين ليتحركوا ضد الدولة.
يطلّ هؤلاء على العالم عبر عيون مربعة، متقوقعين على أنفسهم في غرفة الاصطفاف مع “محور المقاومة”، في عالم خاص بهم، مُتخيل عن واقع لا يشبهه إطلاقا، فالحزب الذي قُتل أمينه العام، قصف وقتل وهجّر وشرّد مئات الآلاف من السوريين، وأوغل في الدم السوري.
أسئلة المغالطات:
كما أن هناك حالة منتشرة في أوساط وسائل التواصل الاجتماعي باتهام السوريين بشكر نتنياهو، حيث تم الاعتماد في السردية على صورة واحدة انتشرت لطفلين قيل إنهما في شمالي سوريا، يحملان لافتتان فيهما توجيه شكر لنتنياهو بعد مقتل حسن نصرالله، لتوسيع التعميم على المجتمع كله في المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام، متمترسين وراء عبارة “هل يسعدك أن تشارك نتنياهو ذات الشعور؟”.
صورة واحدة، مجهولة المصدر، تدفع جمهوراً واسعاً من المغردين لاعتبارها موقفاً رسمياً يعبر عن السوريين على امتداد الجغرافيا السورية، ويتخذونها فرصة، ليس فقط للهجوم على كل من لا يمجد بحمد من حمل السلاح في وجههم يوماً، وإنما أيضاً لوضعهم في خانة العمالة و”الصهينة”، كما يحب أولئك أن يصفوا. وعلى الرغم من أن خاتمة المقطع المنشور تحوي فيديو آخر من مظاهرة فيها شبان يرفضون شكر إسرائيل أو نتنياهو على فعلهم باعتبارهم مجرمين بحق أهالي غزة ولبنان معاً، في محاولة للقول إن الجميع ليسوا سواء، لكن السياق الأطول والأكثر تركيزاً واستحضاراً للدلائل والإثباتات، والذي يثبت وجهة النظر الأولى، حاز الحضور الأكبر، ما يوحي بأن المقطع الأخير جاء وكأنه “سقط عتب”، في حال تلقيهم أي لوم أو انتقاد، يبرزونه كورقة رابحة، أننا لا نقصد الجميع، بل من شكر إسرائيل فقط!
صورة واحدة، لطفلين مجهولين، قام في الغالب أحد الجاهلين بكتابة اللافتات وتصويرهم يحملانها، كانت كفيلة بأن تنتشر كالنار في الهشيم الذي تذروه الرياح، وأن تكون حجة ودليلاً لكل أولئك الذين يصرون على استسخاف الدم السوري، المُراق على أيدي الأعداء الكُثر، بما فيهم حزب الله، ليطلقوا أحكامهم يميناً ويساراً.
ثم إن هذا السؤال ذاته “هل يسعدك أن تتشارك مع نتنياهو شعور السعادة؟” سؤال سطحي، وفيه تسطيح لقضية قضى في سبيلها الآلاف، وشُرّد وهُجّر الملايين. أبسط ما يمكن يقال مثلاً، إن وزير الخارجية الإيراني حميد رضا آصفي آنذاك، رحب بإعدام الرئيس العراقي صدام حسين يوم 30 كانون الأول/ ديسمبر 2006، فصدام يمثل عدواً تاريخياً لإيران، والذي سلمه للإعدام كانت أميركا، العدو التاريخي الآخر لنظام الملالي في إيران، فهل تُلام إيران على ترحيبها، ويصح أن نقول لها: هل يسعدكم أنكم تتشاركون مع جورج بوش الأب ذات الشعور؟ كما بعض هؤلاء قد شمتوا سابقاً بمقتل قادة تنظيمات عسكرية تقاتل في سوريا، فنقول لهم بذات المنطق: هل يسعدكم أنكم تتشاركون ذات الشعور مع بشار أسد؟
أصحاب هذا المنطق، ما هم إلا ناظرين إلى القضية من كوّة صغيرة لا تكاد تكون أوسع من نافذة مربعة في غرفة حصروا أنفسهم داخلها، وأقنعوا ذواتهم أن العالم ما هو إلا ما يُرى من خلال هذه الحدود المتوهمة.
هذه مثل تلك!
كما يجيء أولئك الذين يظنون أن لديهم البطاقة الرابحة، فيقولون: ألم تتحالف الثورة السورية مع الولايات المتحدة، والتي احتلت العراق، وقتلت المدنيين في أفغانستان وفيتنام، وتدعم احتلال إسرائيل لفلسطين، وتؤيد حربها، وأخذ الثوار دعماً من غرف العمليات المدعومة أميركيا مثل “الموك والموم”، فلماذا يلومون على الفلسطينيين التحالف مع إيران، وهي الجهة الوحيدة التي وقفت في صفهم ودعمتهم؟
هناك جانبان ضمن هذا القول لا بد من توضيحهما:
أولاً؛ غرف العمليات الدولية التي تشكلت لدعم الثورة السورية لم تكن أميركية بالمطلق، وإنما كانت الولايات المتحدة واحدة من 10 دول كانت داخل غرف العمليات تلك، كما أنه لم يكن هناك اشتراطات من خلال هذه الدعم على الفصائل الثورية، إلى من وإلى أين وضد من يجب أن يستخدم هذا السلاح. كما أن الفصائل وبعد بدء المعارك ضد تنظيم “داعش”، أطلقت الولايات المتحدة مشروع تدريب لمجموعات عسكرية في الخارج، ولكن أول دفعة من المقاتلين الذين ذهبوا إلى التدريب ما لبثوا أن غادروه بعد أن طُلب منهم الموافقة على قتال “داعش” فقط وليس نظام أسد.
وثانياً؛ الفارق الرئيس بين هذا وذاك هو التمجيد، والسؤال هنا: هل شاهد أو سمع أحد من أولئك أي ثوري سوري، أو قائد عسكري، أو ناشط مدني، وصف أحد الجنود الأميركيين الذين قُتلوا على حدود الرقة في الحرب ضد “داعش” بأنه “شهيد تحرير الرقة” مثلاً؟ أو رفعوا صورته باعتباره قاتلَ تحت راية “تحرير” المدن السورية؟ من المفهوم حتى لأولئك الذين لا يفقهون بالسياسة أن التحالفات وفتح الخطوط الخلفية، وخصوصاً في حركات التحرر والمقاومة، أمر ضروري، ولا يُلام عليه أحد، لكن أن تمجّد من قتل الأطفال في حلب، وحاصر المدنيين في القصير والزبداني ومضايا، فهذا يتحول من كونه بناء تحالف إلى تبعية وتمجيد قتَلة في غير موضعه.
ليست طائفية!
أما القسم الأكثر سوءًا، هم أولئك الذين يظنون أن لبّ المعركة، التي بدأها حزب الله أصلاً ضد الشعب السوري، هو البعد الطائفي فيها، دون وعي ولا إدراك بالشق السياسي والإنساني من القضية والذي هو أصل القضية ومحورها الرئيس، فلم تكن مشكلة السوريين مع حزب الله كونه من طائفة مختلفة، ورغم تطييف الثورة في مرحلة ما، إلا أن التطييف لم يكن فعلاً جوهرياً في الثورة، وإنما رد فعل على ممارسات النظام أولاً وحزب الله وميليشيات طائفية أخرى ثانياً. وقد انتشرت تعليقات بين هؤلاء من قبيل “كفوا طائفيتكم” أو “كفاكم إثارة للنعرات”، فيظن القارئ وكأن جل السوريين يسبّون على طائفة الحزب باعتباره شيعياً، وليس على قادة وعناصر الحزب باعتبارهم ضمن كيان عسكري وقف إلى جانب نظام الأسد ضد شعب طالب بحريته. هؤلاء أيضاً محصورون في الغرفة ذاتها وعيونهم مربعة، إلا أنها بحدود مختلقة مختلفة.
السوريون كمتضامنين:
ربما لم يكن هناك على مر الثورات التي شهدها العالم العربي خلال الخمس عشرة سنة الفائتة، شعب تضامن ووقف وناصر وتظاهر من أجل ثورات وحِراكات وانتفاضات أخرى خارج حدود جغرافيته المحدودة المتبقية، بقدر ما فعل السوريون.
فحين انتفض كل من السودان والجزائر ولبنان عام 2019، خرج السوريون المتجمعون في شمالي سوريا بمظاهرات تحيي الحراك في هذه الدول، وتدعم مطالبهم المشروعة بالتغيير، وانتشرت جداريات على بقايا جدران وأسقف الأبنية المهدمة جراء القصف، لكل انتفاضة وحراك، مثل عبارة “كلن يعني كلن” التي انتشرت في حراك بيروت، والصورة الأيقونية للمرأة السودانية التي تهتف بالمتظاهرين، دون أن ننسى أيضا أن واحدا من رموز الثورة السورية والذي رفع على الأكتاف منذ بدايات الثورة، وقضى على طريقها، قد غنى لهذه الدول ولحراكها في المظاهرات والجلسات الثورية.
أما مع بدء الحرب على غزة، فكانت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، هي المناطق الوحيدة في سوريا التي شهدت حراكاً مناصراً، ويُندد بالحرب الإسرائيلية، فخرجت مئات المظاهرات، ورسمت عشرات الجداريات.
هناك اتساع في العالم يجب أن يكون مدرَكا، فلا يوجد قضايا أخرى أهم، ولا دماء أزكى من غيرها، ولا أمة واحدة يمكن أن تجتمع، وفيها من يتصالح مع قتلة جزء منها، دون أن يتحملوا عواقب أن يكفر هذا الجزء بالكل.
يمكن للسوري أن يفرح لمقتل قادة وعناصر في حزب قتلوا أخوته، وشردوا أهله، واحتلوا بيته، وصادروا أرضه، دون أن يفقد تعاطفه مع الفلسطيني الذي تقتله آلة القتل ذاتها التي قتلت عدوه، ودون أن يهلل لعدو تربّى منذ أن كان صغيراً على عدائه ورفض وجوده، هذه أمور بدهية.
ويمكن للحزانى كثيراً، والفاتحين مآتم لمقتل هؤلاء، أن يمدوا رؤوسهم خارج النافذة ليطلوا على عالم أوسع، وأن يحاولوا، ولو للحظة، أن يتفهموا قدسية هذا الدم، وهذه القضية عند أبنائها.
* كاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا