إبراهيم الجبين *
يبدو تعبير “لوبي سوري” وكأنه من مفردات قاموس العالم الآخر، المُشتهى والمتمنّى بالنسبة إلى السوريين، وذلك لما ترسّخ في أذهانهم من أن اللوبي الضاغط يمكنه تحقيق المعجزات. وقد جرّبوا ذلك وخبروه جيداً مع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ولوبيات الشركات العملاقة التي تحشد من أجل تمرير ما يصبّ في صالح مشاريعها المستقبلية.
ولكن حين أرادوا السير على خطى الدول التي شكّل بعضها لوبي يعمل لتحقيق مصالحه، واجهوا الكثير من التعثّر، إلى جانب العديد من النجاحات. وليس أدلّ على ذلك من ظهور قوانين “قيصر”، “كبتاغون 1″، و”كبتاغون 2” وغيرها، التي أدانت الأسد وفرضت عقوبات على نظامه وداعميه. ولا تزال جهود المُخلصين في الجالية السورية- الأميركية تعمل لتحقيق المزيد.
قد يلفت هذا الأمر نظر قلّة من العاملين في الشأن السوري العام، أو المنافحين عن القضية السورية وحقوق الشعب السوري، فيفكّرون في دعم اللوبي السوري- الأميركي، الذي يعاني بدوره من غياب ذهنية الشراكة الجادة والشفافة. كما قد يبرز التفكير في خلق لوبيات سورية في عواصم القرار العالمي والدول ذات التأثير البالغ في الملف السوري.
وإذا حدث مثل هذا الأمر، كما رأينا في اللقاء التشاوري الذي دعت إليه هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية في العاصمة الألمانية برلين مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، فيجب أن يكون التفاعل معه مترفعاً عن التشكّك أو الانغماس في الاستقطاب بفعل إرث من الخلافات التي لا تستحق الوقت المهدور عليها. فالهدف في هذه الحالة أسمى وأكثر إلحاحاً.
عندما وجهت هيئة التفاوض الدعوة إلى المجتمع المدني في ألمانيا، لم يكن واضحاً في أذهان من قبلوا تلك الدعوة ما الذي يمكن أن ينتج عن هذا اللقاء. فقد يكون كغيره من الاجتماعات العديدة التي عقدتها مؤسسات المعارضة تحت عنوان التشاور، لينتهي ذلك التشاور إلى سُبات عميق.
ولكن ما يختلف هنا، هو أن هذه الآلية تهدف إلى تشكيل لوبي سوري يضم كفاءات ومنظمات وفاعلين يتركون بصماتهم بقوة على الساحة الألمانية. وهي ليست آلية قابلة للتعطيل كسواها. وهنا تكمن خطورتها وأهميتها في الوقت نفسه.
السوريون في بلاد اللجوء والمنافي لم يختبروا العمل الجماعي (السياسي المدني) وهم في تحلّل من عُقد الداخل السوري (بنسخته القديمة)، مثل عُقد التنافس وأخرى لا تحكمها الأخلاق العلمية. لذلك، ستتشكل ديناميات جديدة، بما يضمن مصالح الأطراف كافة التي ستصبّ في صالح القضية السورية هذه المرة، حتى من دون إرادة أصحاب تلك المشاريع أو المشرفين عليها.
ربما أدرك السوريون أخيراً أن العمل من دون تنسيق متعدد الأوجه محكوم عليه بالفشل. ليس لقلة خبرتهم أو لانعدام أمانتهم، بل لأن قضية بحجم القضية السورية لا يمكن تحريكها قُدُماً إلا عبر شبكة واسعة متعددة الاختصاصات تعمل في عدة أماكن حول العالم في الوقت نفسه، لتأمين نفاذية عالية نحو مراكز صنع القرار وابتكار حلول خلاقة تعجز عنها اليد الواحدة.
حزمة الرؤى والأفكار التي طرحت خلال يومي اللقاء التشاوري في برلين كفيلة وحدها بتحريك “قطع الشطرنج السوري” في الاتجاه الصحيح، فكيف إذا ما تكاملت مع رؤى وتصورات يتم تعزيزها في دول أخرى ذات ثقل وتأثير حقيقي في الملف السوري، بعيداً عن الشعارات والطبول والاستعراضات والمكاسب الشخصية، وبعيداً عن التهويل الإعلامي والاستثمار الذاتي؟
هذه الدعوة ليست نحو “غيرية نضالية سورية”، بل إلى استيعاب جديد لمعنى الشراكات وجدواها بين الأطراف التي تعمل فرادى وستحرص حتماً على تحقيق مصالحها.
من جهة أخرى، لا تقل أهمية عما سبق، فإن تشكيل لوبيات سورية متعددة الأبعاد والجغرافيات يمكن أن يخلق توازناً مطلوباً بين المجتمع المدني ومؤسسات المعارضة، بحيث لا يطغى عمل أحدهما على الآخر. ولن تظهر ثغرات يمكن من خلالها التفرّد بالحركة بلا بوصلة، سواء كانت تلك الحركة معارضة مستقلة أم رسمية.
تحويل (تطوير) دور هيئة التفاوض من حالة العامل العالق في “الستاتيكو” بين جمود التفاهمات الدولية والقضايا الخلافية الداخلية، إلى دور مُحرّك يُفعّل جهود السوريين التشاركية، يبدو مشروعاً جديداً بحد ذاته يستحق الدعم.
مشاريع مثل “التعافي المبكر”، “النسوية”، “الدفاع عن المعتقلين”، “العمل الحقوقي”، “التأثير الثقافي والفكري”، و”الدعم الإنساني متعدد الأوجه”، وغيرها، تمثل مساحات هامة يمكن للوبيات السورية تنشيطها والإقلاع بها كقوى ضاغطة تسعى للحفاظ على القرارات الدولية المتعلقة بسوريا.
في نهاية المطاف، يمثل هذا المسار استراتيجية “هجومية ذكية” تنقل الصراع من المستوى المحلي، الغارق في خلافاته، إلى مستوى دولي مفتوح الآفاق.
* كاتب وإعلامي سوري يقيم في ألمانيا
المصدر: تلفزيون سوريا