أحمد الشمام *
تشغل القبيلة مساحة واسعة في الجغرافية السورية وحيزاً ضئيلاً أو نمطياً في الدراسات المختصة سابقاً، وقد بدا أثرها- القبيلة- واضحاً في مرحلة الثورة، حيث اشتغل النظام في استغلالها عبر سني حكمه.
مثلت القبيلة مجالاً لاشتغال شتى القوى التي حاولت الاستثمار فيها؛ من النظام إلى الجيش الحر، إلى التنظيمات الإسلامية، ثم قوات حزب العمال الكردية، وتظهر الآن في مناطق ريف حلب وإدلب بوادر إعادة توليدها أو تعويمها، وقد تناولها كثيرون في الخطاب الثقافي العربي بشيء من الجلد والتجريم، ولكن حديثاً في المجال السوري تم إنجاز بحوث حديثة من قبل باحثين مختصين ركزت على البيئات القبلية السورية وبناها وأدوارها، توجت بالوصول إلى نتائج مهمة بكون القبيلة موضوعا للسياسة أكثر من كونها فاعلاً سياسياً حقيقياً، وخلافاً لما استقر غالباً في أذهان كثيرين من صورة تقليدية سابقة وسياقات تاريخية قديمة ظهر انحسارها إلى مستويات أدنى وأكثر تشعبا، تبعاً للنظرية الانقسامية في علم الاجتماع التي تفضي إلى تفرع البنى الاجتماعية الكبيرة إلى نويات أصغر منها، فانحسرت إلى العشيرة والفخذ والحمولة والعائلة، لم تعد متماسكة ولا موحدة الموقف قبالة معظم المشكلات العارضة، وما عادت تتقدم وتتراجع ككتلة واحدة متسقة وفقا للصورة القديمة القارة في الأذهان في حروب القبائل، كما أن تفاعلها مع أي حدث ما عاد يبلور موقفا واحداً، بل تعدداً وافتراقاً ينبي عن إمكان ارتقائها عن بنيتها المصمتة، شرط وجود طروح سياسية لا تستغل عصبتها أو تنشط في إعادة توليدها.
حيث إن النظر إليها كميدان استثمار سياسي لحزب أو قوة تبتغي تحشيداً مدنياً أو عسكرياً، يجعلها عرضة لإعادة استيلاد ذهنياتها عبر إلباسها عباءة أكبر منها، ونقلها إلى تفعيل مخيال قديم اختزنته ذاكرتها للاضطلاع بدور أكبر- خارج مجالها وثقافتها- وهو دور الدولة، والذي يمكن أن تقوم به كجماعة أهلية في مرحلة الفوضى لا في مرحلة الدولة والقانون، ويتم سحبه ليكون جزءاً من فاعلية سياسية لبنية سياسية متخيلة ما دون دولتية في نسق أعلى من إمكاناتها وذهنياتها، خارج ما وقر في مخيالها الجمعي من قيم الأصالة والنخوة والشرف والكرم، وقد شكل رصيداً لتوازن وتقاضٍ اجتماعي، ساعد في حل معضلات كثيرة عجزت بيروقراطية القانون عن إنجازه عبر مضابطها وأعرافها، وكانت رائزاً لأصالتها وتاريخها القبلي في مجالها الاجتماعي ومحيطها.
إن إعادة التوظيف في المجتمع القبلي تعني حكما تظهير ما وقر في بنياتها العميقة كذهنية المتعلقة ببدائية العصبة ونفعيتها، كالغنيمة والاستحواذ والنكاية والعصبية، ولعل نتيجة جديرة بالإشارة أنه لا يمكن البناء عليها ككتلة متسقة واحدة في أي مشروع سياسي، خلافاً لأبناء القبائل ونخبها الجديدة التي تنحو المدنية في نشاطها الاقتصادي والثقافي وتحمل ثقافة مدنية لا تعتمد العصبية والنزعة القبلية رصيداً لها، ولعبت في الثورة دوراً مفاصِلاً مع علاقاتها القرابية بين خندقي ثورة وموالاة وتجاوزت رابط التعاضد والدم في كثير من الأحيان.
من الطبيعي لأي مشروع سياسي أن يستهدف كل أشكال الوجود الاجتماعي تطويراً أو ترميماً، لكن المشكلة المفصلية كانت في التعامل مع تلك البنية، بغرض الاستخدام والتوظيف من قبل النظام السياسي وأنساق المعارضة والأحزاب، وكم احتفى حزب من اليسار الماركسي وآخر من التوجه الليبرالي باجتذاب شخصية قبلية من هنا أو هناك، ومثار التساؤل هو هل العلة في نمط القبيلة الحالي أم سبل الاشتغال عليها وبها، حيث لم يتم الاستثمار فيها والتعامل معها خارج إطارها الأداتي باعتبارها تستبطن قدراً من العصبة التي لا تنفع في تأييد دون قناعة ولا رفض دون فهم، ومن ثم نجد عطباً في أشكال التفاعل معها التي لم ترتقِ لمستوى البرامج والتي كانت سلطوية غالباً أو حزبية استئثارية.
ومن جانب آخر ذاتي يجب التوجه نحو الأفراد لتحريك البيئة المولدة ضمن القبيلة، ولعل المثير في نتائج التفاعل تلك أنه وعندما تفشل تلك السلطة أو الأحزاب في كسب القبيلة تبدأ سيرة الجلد وإعادة التنظير للقبيلة ككيان ناشز اجتماعيا يجب نقضه أو تقويضه، ما يستدعي استفزازاً وتوليداً جديداً لأدواتها الحشدية، وهو ما يكشف انتهازية العقل السياسي واشتغاله في اللعب على أطر التحشيد أكثر من اشتغاله الثقافي على فك عرى العصبة والارتقاء بهذه البنى نحو مفاهيم المجتمع المدني ونقل القبيلة من بنية اجتماعية وجماعة أهلية إلى كتلة سياسية.
وعليه فإن عملية الجلد للقبيلة وعصبتها وحشودها ليست بالضرورة ناجمة عن عجزها عن التطور والتجاوز لدورها القديم، بقدر ما هي ناجمة بنسبة معينة إلى طرق وأدوات التعامل معها، والتي دفعت إلى إعادة توليدها والاستثمار فيها. ما يوصلنا لنتائج لا بد من الوقوف عندها؛ أولها لا يمكن التفكير في موت القبيلة بل تفتيت القبلية والذهنية المفوَّتة لتجاوز عطالتها، والذي لا يتم إلا عبر رعاية التحول ضمن القبيلة الناحي باتجاه التمدن، إذ لم يكسر نمط التفكير القبلي والعصبوي في مرحلة الثورة سوى عاملان الديني والثقافي، سواء كان الأخير محمولاً على حامل اقتصادي أو نمط معيشي، أو ثقافة حقيقية بناءة كما في مفهومها التداولي، مما يغير في بنية العلاقات ويخل بالنسقية التقليدية للقبيلة ويعتقها من أطر التحشيد وشبكات الثقة التقليدية.
إن عالَماً متّسقاً مفطوراً على جملة عادات وتقاليد ونسق علاقاتي محدد، تحت عناوين واسعة وفضفاضة لا تعير انتباهاً لخصوصية كل فرد كما في مجتمع الريف والقبيلة، يختلف عن مجتمع المدينة الذي يتضمن تنوعاً وثراء وتعدداً. ويكون التوافق أو الاختلاف بين جماعات المدينة الحاملة لأفكار فنية، ثقافية، أو سياسية مبنياً على مبادئها وغاياتها وأدواتها ومنهجها، وحتى تفاصيلها، بل غالباً ما كان ذلك عامل تعدد جماعات المدينة وتوجهاتها وتمايزها عن الريف، وانعكس ذلك في كثرة جماعات المدينة وقلة منتسبي كل منها، وقلة عدد جماعات الريف وكثرة منتسبي كل منها، لانحصار مشتركات الريف والقبيلة في تنوع أقل ينسدل تحت عناوين عامة في الفكر القبلي والريفي عموماً، لذا يعتبر استثمار العلاقات الاجتماعية البسيطة في الريف أكثر بساطة وسهولة وقابلية للاتساع، لارتباط الفرد في القبيلة بعلاقات قربى وصداقات- على الرغم من ضحالة مستويات فهومها وثقافاتها- أسهل من تقييم ابن المدينة المنهمك بالعمل والمتشابك مع محيطه بجملة علاقات قد يكون أفقها الثقافي وضوابطها أكثر اتساعاً، لكنها تتضمن عدداً أقل من المعارف أو الأصدقاء الثقات المتفقين مقابل اهتمامات سياسية متنوعة وكثيرة.
وعليه، فإن أي منبر أو أية قوة محلية مناطقية، أو وطنية، أو دولية تسعى لجمع عدد من المؤيدين لمشروع ثقافي أو سياسي أو حركي، سرياً كان أم علنياً، ستتجه نحو القبيلة لضمان قاعدة لها، ولوجود معرفة مُسبقة لدى الأفراد عموماً بمحيطهم، من خلال ما يتداوله أبناء الريف والقبيلة عن سلوك من حولهم من مخبرين، نفعيين، وطالبي وجاهة، نزيهين أو متسلقين، وهو ما يفتقره ابن المدينة المنّحصر بالصداقات القليلة الدقيقة في تفاصيلها، وتداولات الجيران، والشارع، ومقر العمل، ليس أكثر، ما يُحيل إلى ضرورة الاشتغال على مجتمع الريف والقبيلة باعتباره بيئة خصبة وبكراً للاشتغال عليها، وإن أي تجاوز أو إهمال لها يعني ذهابها جزئياً أو كلياً باتجاه استثمار آخر مضاد، شرط الاستثمار هنا أن يكون بهدف الارتقاء بجزء مهم من مجتمعاتنا خارج أطر الاستخدام الأداتي.
ما يحيل إلى ضرورة تفعيل دور المثقف وفتح أبواب المنابر للشباب من أبناء القبائل لإثبات وجودهم وتأطير دورهم باتجاه مبرمج يهدف إلى المدنية والعمل الوطني، من أجل العمل في بيئاتهم، مع ضرورة التزام المثقفين من أبناء هذه البيئات بعدم التعالي عليها وهجرها أو اعتزالها بحثاً عن بيئات مريحة من أوساط ثقافية سورية مدينية، وأن يلتزموا بتنوير بيئاتهم وتثوير أبنائها وفق برامج بعيدة عن الارتجال والتأطير الأيديولوجي والتصوير النمطي.
* شاعر وكاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا