إياد الجعفري *
إن قصَر أحدنا قراءاته للأخبار، في إحدى الأيام، على تلك المُتعلقة بالصراع الإيراني- الإسرائيلي المُحتدم، دبلوماسياً واستخبارياً، وسيبرانياً، وفي بعض الأحيان، عسكرياً وإن بصورة غير مباشرة، سيخرج على الأغلب بإيحاء أولي مفاده أن الحرب بين الطرفين باتت قاب قوسين أو أدنى. لكن تاريخ العقود الثلاثة الأخيرة، وبصورة خاصة منذ عام 2005، وحتى اليوم، تغلب عليه، في معظم تلك السنوات، ذات السمات التي ميّزت العلاقة الغريبة بين الطرفين، والتي تثير الجدل دوماً لدى كثير من المراقبين، وسط تشكيك بجدية كل من إيران وإسرائيل في التورط بصدام مباشر بينهما.
يكفي مثلاً أن نراجع الأخبار المتعلقة بهذا الشأن يومي الجمعة والسبت 26 و27 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 (الجاري)، لنجد عناوين من قبيل، “إسرائيل تصعد رسائل التهديد بالخيار العسكري ضد إيران.. قيادي يهدد بالدمار… والجيش يوسع (بنك أهدافه)”، “الحرب السيبرانية بين إسرائيل وإيران تقترب (خطوة) من المواجهة العسكرية”، و”إسرائيل تهدد بهجوم على مواقع إيران النووية”، و”تحذير استخباري إسرائيلي: إيران قريبة من السلاح النووي”.. إلى آخره من العناوين التي توحي بأن الصراع شبه الساخن بين تل أبيب وطهران، يكاد يتحول إلى حرب مباشرة، في أية لحظة.
لكن تاريخاً يمتد لأكثر من 30 عاماً، سادت فيه تلك الأجواء على صعيد الخطاب المتبادل بين إيران وإسرائيل، دون أن يتحول المشهد إلى حرب مباشرة، يجعل المراقبين يتريثون في اعتبار الوضع الراهن مؤشراً لحرب مرتقبة، بل ربما على العكس، فكلما صعّد الطرفان من لهجتهما تجاه الآخر، كان ذلك مرتبطاً باستحقاق تفاوضي، كما هو حاصلٌ اليوم، إذ من المرتقب استئناف مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، يوم الاثنين 29 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 (الجاري).
هذه الازدواجية الغريبة، المستديمة على ما يبدو، لعلاقة تقوم على التهديد المتبادل، لكنها لا ترقى إلى مرحلة المواجهة المباشرة على مدار أكثر من ثلاثة عقود، تستحق بحق توصيفها بأنها لغز غامض، كما وصّفها الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني، تريتا بارزي، الخبير في السياسة الخارجية الأميركية، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز.
بارزي هذا، كان له مجهود استثنائي في محاولة سبر أغوار هذه العلاقة (الإيرانية- الإسرائيلية)، في محاولة لتقديم قراءة من خارج صندوق المتعارف عليه من القراءات السائدة في أوساط المحللين والمراقبين، الذين يفسرونها بوصفها نتيجة صرفة للخصومة الأيديولوجية (الدينية) عميقة الجذور بين الجانبين.
ففي كتابه الذي يعود إلى عام 2006، وعنوَنه باسم “التحالف الغادر أو الخائن“، أو حسب الترجمة العربية “حلف المصالح المشتركة- التعاملات السرّية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة”، يعتقد “بارزي” أن العداوة المستحكمة بين إيران وإسرائيل، اليوم، هي أكثر ارتباطاً بالتغيرات في موازين القوى بالشرق الأوسط، وبالمنافسة الاستراتيجية بين الطرفين، منها، بالبعد الأيديولوجية- الديني الذي اعتمدته “الدولة الإيرانية” بعد الثورة الإسلامية عام 1979.
ورغم أن الكتاب صدر قبل عقدٍ ونصف من اليوم، إلا أن خلاصاته المثيرة للاهتمام، مفيدة جداً لفهم الكثير من التناقضات غير المفهومة في منطقتنا، من قبيل مثلاً، تلك الشراكة الغرائبية بين طهران وتل أبيب في الرغبة ببقاء نظام الأسد مستمراً في السلطة بدمشق، رغم أنه يُسهم بإتاحة المجال لإيران في دعم ذراعها اللبناني- حزب الله، الذي يشكّل واحداً من أبرز التهديدات للأمن القومي الإسرائيلي، وفق الخطاب المُصدّر للرأي العام، في تل أبيب.
وقد يكون أبرز ما يميّز الجهد الذي بذله “بارزي” في مؤلفه، هو استناده للحديث المباشر مع مسؤولين إيرانيين وإسرائيليين وأميركيين، كانوا خلال عقود، مشاركين في صنع السياسة الخارجية لبلادهم، أو على مقربة كبيرة منها. وكان من أبرز من تحدث إليهم بارزي، محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق، ومهندس الاتفاق النووي مع القوى الكبرى عام 2015. والذي كان عام 2006 سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة بنيويورك.
وينوه بارزي في كتابه، إلى أن المقابلات التي أجراها مع المسؤولين الإيرانيين على وجه الخصوص كشفت بواطن الأمور التي نادراً ما كانت تُناقش علناً في إيران.
كما تحدث بارزي إلى وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، شلومو بن عامي، والرئيس السابق للموساد، إفرايم هالفي، ومدير المخابرات العسكرية السابق، عموس جلعاد.
وكان من أبرز من تحدث إليهم، أميركياً، مستشار الأمن القومي السابق، زبينغو بريجينسكي، ووزير الخارجية السابق، كولن باول، وكذلك أحد أبرز رجالات الخارجية الأميركية، دينيس روس.
ويستعرض “بارزي”، في مؤلفه طبيعة العلاقة الغريبة بين إسرائيل وإيران، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، منذ عام 1948، وحتى عام 2006، تاريخ إنجاز الكتاب.
ويخلص “بارزي” إلى خلاصة مفادها أن طهران وتل أبيب بحاجة لتصوير صراعهما الاستراتيجي الجوهري بأنه صراع أيديولوجي (ديني). فالهاجس الرئيس لدى صناع القرار بطهران، على صعيد السياسة الخارجية الإيرانية، كان وما يزال، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي (عهد الشاه)، وحتى اليوم (مروراً بعهد الخميني وخامنئي- “الثورة الإسلامية”)، هو الهيمنة على المنطقة، وأن تكون إيران ذات أهمية استراتيجية لدى واشنطن، بصورة تجعل طهران لاعباً إقليمياً رئيسياً في الشرق الأوسط. ومنذ عهد الشاه، كانت طهران تدرك أن غايتها تلك لا يمكن أن تتحقق دون مراعاة البعد الأيديولوجي. لذلك لم يعترف الشاه رسمياً بإسرائيل، رغم الضغوط الأميركية- الإسرائيلية عليه طوال أكثر من عقدين من العلاقات شبه الرسمية، ومن زيارات رُؤساء وزراء إسرائيل إلى طهران، ديفيد بن غوريون، وغولدا مائير. فالشاه الأخير لإيران، محمد رضاه بهلوي، لم يكن يريد أن يخسر الشارع. ذاك الشارع ذاته، الذي استخدمته الثورة الإسلامية الخمينية لاحقاً، للتعبئة والتجييش في خدمة مشروعها للهيمنة في المنطقة.
ويشير “بارزي”، إلى أن علاقة متينة، سرّية، ربطت شاه إيران الأخير، بإسرائيل، كانت تستند إلى معادلة “عدو عدوي صديقي”. فالعداوة المشتركة للعرب، والخطر السوفييتي (في زمن الحرب الباردة)، كان القاسم المشترك بينهما. ويقول إنه لمن دواعي السخرية أنه عندما دعا القادة الإيرانيون إلى تدمير إسرائيل في ثمانينيات القرن الماضي (بعد الثورة الإسلامية)، كانت إسرائيل واللوبي المؤيد لها في واشنطن يحاولان التأثير في صانع القرار الأميركي كي لا يلتفت للخطاب الإيراني، حيث استمرت المصلحة الاستراتيجية المشتركة، التي جمعت الطرفين، وجعلتهما يواصلان تعاونهما السرّي، وغير المباشر، في بعض الأحيان.
ويوضح “بارزي” أن تلك العلاقة (الإيرانية- الإسرائيلية) تعرضت لزلزال جيواستراتيجى، عام 1991، حينما انهار الاتحاد السوفييتي، ودُمّر الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية. حينها، تبادل الطرفان الشكوك، وبات كل طرف يرى في الآخر ندّاً استراتيجياً في المنطقة، بعد زوال “العدو المشترك”. وتغيّر موقف الساسة الإسرائيليين الذين أخذوا يضغطون على نظرائهم الأميركيين كي لا يتواصلوا مع إيران مطلقاً، بذرائع من قبيل عدمية خطاب نظام الملالي الإيراني، الأمر الذي أثار استغراب رجال السياسة الأميركيين، الذين تعجبوا من تبدل الموقف الإسرائيلي.
يزخر كتاب “بارزي” بالمواقف والأحداث المثيرة للاهتمام، والصادمة، حينما نقرأها من زاوية التكثيف التاريخي الذي استخدمه المؤلف، بحيث وضع تلك الأحداث في مواجهة بعضها، ليُرينا حجم التناقضات بين الخطاب الرسمي للإيرانيين والإسرائيليين، وبين السياسة الفعلية التي تُمارس وراء الكواليس. لذا يصعب الإحاطة بتلك التفاصيل المهمة، في مقال واحد. لكن قد تكون أبرز خلاصة تهمنا، كمراقبين في المنطقة، تلك التي قال فيها “بارزي”، إنه ما من مرة كانت فيها الأهداف الأيديولوجية والاستراتيجية لإيران على المحك، إلا وسيطرت المقتضيات الاستراتيجية لدى طهران. فالأيديولوجية، مجرد أداة للتعبئة وتجييش الرأي العام في خدمة المشروع الإيراني للهيمنة في المنطقة.
خلاصات كتاب “بارزي” ما تزال صالحة، في معظمها، للإسقاط في يومنا هذا. بل وقد تكون أصبحت أكثر وضوحاً بعدما باتت الشراكة الإيرانية- الإسرائيلية، في إبقاء نظام الأسد على قيد الحياة، مثالاً صارخاً على التناقض بين الخطاب والفعل بين الطرفين. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال، أن الإيرانيين والإسرائيليين، يدّعون الخصومة فقط، بغاية إقناع الرأي العام العربي بذلك، كما يقول بعض كتّاب الرأي في منطقتنا، لكنه يعني، دون أدنى شك، أن الصراع بين هاتين القوتين في منطقتنا، هو صراع على الهيمنة، وليس صراعاً على الوجود، كما يحاولان تصويره.
* كاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا