محمد الأمين عساف *
منذ بدء المذبحة التي يقودها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة، تحرّكت المجتمعات العربية بصور مختلفة، إلّا أنّ تحرّكها لم يكن متناسباً مع حجم الحدث، ولا يقترب من ذلك قياساً إلى أحداث أخرى تحرّكت فيها المجتمعات بصورة أكثر كثافةً وزخماً. وهو ما ولّد أسئلةً عديدةً عن نجاح التهشيم، ومدى الضعف الذي وصلت إليه القواعد الشعبية بعد أكثر من عقد على “الربيع العربي”. وإلى أيّ حدٍّ تأثّرت ثقة الشعوب بنفسها، وبقدرتها في أن تكون علامةً فارقةً في الصراعات. تُتداول هذه الأسئلة بكثافة في الفضاء العام وداخل التنظيمات السياسية، خصوصاً التي كان لها دور في “الربيع العربي”، لكنّها أيضاً كانت تُتَداول وتحضر وتؤثّر في داخل أروقة السلطة التي تحاول التعامل مع تأثيرات المزاج العام في قراراتها، وفي المدى الذي يمكن أن تذهب إليه في مواقفها السياسية من حرب الإبادة.
ويزداد الفضول بشأن الطريقة التي أجابت فيها الأنظمة عن هذه الأسئلة؛ خصوصاً عند متابعة سلوكها السياسي، وضعفها غير المسبوق في تفاعلها مع المجازر العلنية في القطاع. ضعفٌ تمثّل بسقف تصريحاتٍ مرتبطٍ بالقيم الليبرالية (إلى حدّ ما) عن صيانة الحياة، وحماية الإنسان، وضرورة توفير غذائه وعلاجه، والنحيب على تعليم أطفاله، وصور أمهاتهم الشهيدات، وفي غياب خطاب ذي أبعاد مرتبطة بالأمن القومي، أو بالانتماء وبالمسؤولية تجاه روابط الدم والثقافة والدين، وبالبعد الجذري في الدفاع عن الحقّ العربي والفلسطيني، أو الدفاع عن نضالية مكوّناته المختلفة، أو التلويح بالإجراءات التصعيدية التي يمكن أن تُطرَح على الطاولات، في ما يتعلّق بخطوط التجارة واتفاقيات السلام والتمثيل الدبلوماسي والتعاون الأمني.
يظهر هذا الأداء بوضوح أنّه أقلّ جسارةً وغضباً (إن جاز التعبير) ممّا اصطلح عليه وعرف من أنظمة المنطقة نسبة إلى حجم المذبحة. ويشير هذا إلى أنّه، وفي وقت قد ينبع هذا الأداء السياسي من طبيعة الأنظمة وتصوّراتها السياسية والقيمية، أو علاقاتها بالاحتلال، أو تحالف بعضها مع حلفائه وتطبيعها معه، أو دخولها معادلةً سياسيةً دوليةً وإقليميةً مركَّبةً… إلّا أنّه يُظهر أيضاً تأثّراً واضحاً بتقديرات الدول عن مجتمعاتها وتوقّعها لتفاعلها مع هذا الأداء.
يتأثر الأداء الرسمي العربي اليوم بحالة من سوء التقدير الشديد لما يجري داخل المجتمعات. وهذا ينبع من أن مخيّلته هي من تشكيل الرصد والمتابعة الكثيفة، المرتبطة بقوة بحالةٍ من الاعتداد والشعور الكبير بالاقتدار، في مقابل تبخيس قيمة المجتمعات وقدرتها. وهي حالة طبيعية، بل بنيوية في الدول الأوتوقراطية، عسكرية كانت أو مدنية. ولكن، يبدو أنّ نتائج “الربيع العربي” (حتّى الآن) ساهمت في تكريس هذه الصورة، وهذا الاعتداد لدى نخب السلطة في المنطقة، إذ نمت صورة المجتمعات القادرة على الانفعال، والقادرة على التعبئة والتحشيد، المالكة طاقة كامنة مدمّرة، والقابلة للتوجيه في الوقت نفسه، والتطويع، والاختراق. صورة من الضعف تدفع الأنظمة باتجاه سياسات إقليمية ومحلّية يمكن القول إنّها غير مبالية بالتفضيلات والأولويات الشعبية، وهو أمر معهود كما قلنا سابقاً من أنظمة مُحتكِرة للسلطة، لكن من الواضح أنّ هذه الحالة آخذة بالتفاقم، وأنّ الاعتبارات القليلة التي كانت الأنظمة تتحرّاها في بعض المسائل للمحافظة على الحدّ الأدنى من التوفيق بين سياساتها والمزاج العام، أصبحت أقلَّ بكثير ممّا كانت عليه سابقاً.
إلى حدّ بعيد، وعلى صعيد بنيوي، يبدو أنّ تقديرات الأنظمة صحيحة. بمعنى أنّ الشعوب فعلياً قد تبدو هشّةً وضعيفةً للغاية في هذا الوقت في أيّ مواجهة علنية ومنظّمة مع بنى السلطة، وخصوصاً في منطقةٍ كان محظوراً فيها ولزمنٍ طويل بناء عمل منظّم بصورة علنية وحرّة. ما أضعف بالفعل قدرة الناس على تأطير أنفسهم بالقوة التي تتيح لهم أن يمارسوا مدافعةً صريحةً ومنظّمةً مع الحكومات وممثّليها.
على صعيد جزئي، يبدو هذا غير دقيق، ويبدو أنّ الأدقَّ أنّ للمجتمعات معادلة أكثر تركيباً في بنائها تصوّراتها، وفي تعبيرها عنها. لا نقول إنّها بالضرورة أكثر حكمةً ودهاءً، ولا هي أيضاً بالضرورة تقود إلى النتائج المرجوّة لدى “الأمّة”. ولهذا وصفها عنوان المقال بشعوب معقّدة، بدلاً من عالمة في مواجهة جهل السلطات. لكنّها على الأقلّ أكثر تعقيداً ممّا تراه النظم السياسية التي ما زالت تفشل في تقدير ذلك، ولمس ما يَعتمل في داخل مجتمعاتها على مستوياتٍ غير مرئية، وفهم ما تريده بدقّة، أو ما يمكن أن يؤول إليه مجموع التفاعلات البسيطة، من الأفراد والمجموعات غير المسيَّسة. ولربّما أنّ الأنظمة، بالصفة التي أوردناها من حالة الاعتداد بالذات وتبخيس المجتمعات، لا تكترث نعم، لكنّها (وهو الأكثر أهمّية) تجهل.
وهذه ملاحظة إدراكها فارق في إدارة التدافع مع بنى السلطة لتحقيق الاستقرار والتنمية وصيانة الحرّية. من صفات هذه النظم أنّها، “غافلة” أو جاهلة، قوية. نعم؛ لكنّها غير عالمة، ترتكز على عنفيّتها أكثر ممّا ترتكز على فهمها ودرايتها العميقة بالأحوال؛ على العكس ممّا يسطّر عنها من أساطير الحنكة والفهم والقدرة على الاستشراف. وما قد يصنّفه بعضهم “دراية ومعرفة” لامتلاكها حجماً كبيراً من المعلومات، يصبّ فعلياً في قدراتها الرصدية، وقدراتها في الرقابة وفرض الهيمنة، ولا يمثّل هذا سوى خزّان معلومات يساهم في تعزيز القدرة على الكبت وحشر المجتمعات، ومواجهة إفرازاته المنظّمة، أو ما يتعلّق بإدارة صراعات النُخَب الداخلية، وضمان استقرار معادلات توزيع القوة.
حتّى تلك الأنظمة التي تتجاوز الأبعاد الأمنية والسلطوية في تشغيل المعلومات، من الواضح أنّ ما تقتصر عليه قدراتها توجيه المجتمع بسياقات عامّة مؤقَّتة وغير جذرية، على صعيد التصوّرات، أو التمثّلات السياسية والاجتماعية اللحظية، ونادراً بنى العلاقات. وعندما تحصل تغييراتٌ في بنى هذه المجتمعات نتيجة السياسات الحكومية، فإنّ هذه التغيّرات في الغالب لم تكن نتيجةَ مشروعٍ واعٍ قصدي للتغيير، بقدر ما هي آثار جانبية للسياسات التي كانت تُعالج مسائل سلطوية آنية. أو إنّها نتيجة سياسات تحويل جذري في بنية المجتمع، لكنّها ليست من إنتاج هذه الأنظمة وتخطيطها، ولا نتيجة درايتها وعلمها بما ترغبه أو حتّى بما لا ترغبه في مجتمعاتها، بقدر ما أنّها استيراد سياساتي السياسة العالمية ومؤسّساتها الحقوقية والاقتصادية أو الأمنية، ومحاولات التكيّف غير المدروس مع الاقتصاد النيوليبرالي وتوازنات القوى الجديدة.
قليلة الأنظمة التي تتمكّن من تحويل هذا الحجم الهائل من المعلومات، والقدرة على الرصد، إلى قدرة على الفهم الجدّي والتأثير في المجتمع أو التفاعل معه. وهي التي سنجدها باستمرار تقود تلك الانفراجات السياسية على مستوى البنية السياسية والتمثيل الديمقراطي.
ولكن حتّى تلك الأنظمة التي تعتبر أكثر تقدّماً على مستوى وعيها بالمكوّنات السياسية والاجتماعية داخلها، إلى أيّ حدّ تسمح لهذه الانفراجات بأنّ تؤثر في عقليّتها السياسية وطريقة تفكيرها؟ وببنيتها العميقة؟ وإلى أي مدىً تسمح للمكونات السياسية التي قد تحملها هذه الانفراجات إلى مكانٍ قريبٍ من السلطة بالمشاركة الجادّة فيها؟ وإلى أيّ حدّ تصل تلك الأنظمة إلى قدر من الوعي الذي يخبرها بأنّ الحلول المؤقَّتة لا يمكنها أن تعالج الإشكالات الجذرية في المجتمع، ولا مواقفه العميقة من الإدارة، وأنّه لا بدّ من دراية عميقة تقدّم حلولاً عميقةً لحالة الفصام بين المجتمع والنخبة الحاكمة.
النتيجة التي نصل إليها هنا أنّ النخب العربية الحاكمة ليست فعلياً بذلك العمق المعرفي والإدراكي الذي توصَف به غالباً، وخصوصاً من خصومها الذين فشلوا مراراً في منافستها، وتقديم مشاريع بديلة. ومثّل تعظيم قدرة الأنظمة، في أحيانٍ كثيرة، مخرجاً مناسباً لهؤلاء أمام قواعدهم السياسية. تمنع هذه الصفة، “الجهل” بكل ما يحمله من معنى، الأنظمة السياسية من الإدراك العميق لما يجري في الأوساط الاجتماعية ومعاني الانفعال أو انعدامه. ويدفعها هذا إلى التصرّف بناءً على المعنى السطحي لهذا السكون. وهنا لا نقول ما يقوله بعضهم المتفائل من حكمة المجتمعات ودهائها في ضعف حراكها، ولكنّنا ننفي عنه انعدام المعنى، وانعدام النتائج على المدى البعيد، وقدرته على اختزان التفاعلات على مستويات غير مرئية.
وبالنسبة للمجتمعات العربية، من الواضح أنّها تفشل اليوم في تقديم استجابة تكافئ حجم الإبادة، أو أن تلعب دوراً قادراً على تغيير دور قياداتها الرسمية في مسألة الحرب واضطرارها أن تكون أكثر تصعيداً وتأثيراً في مسار الحرب. وذلك بسبب ما عانته من تكسير للأذرع والواجهات التي يمكن أن تتحرّك من خلالها أولاً، وثانياً بسبب تكريس الدول جهودها كلّها لئلا تعيش انفجاراً في الشارع مرّةً أخرى، وأخيراً بسبب التركة النفسية من الخوف والشعور بعدم الاقتدار التي تركتها تجربة “الربيع العربي”. مع ذلك، وهو ما يغيب عن كثيرين، هذه المجتمعات، وإنْ تعاني على مستوى تحرّكها الجمعي والمنظّم من حالة قصور قاسية، هناك ما يعتمل فيها بتسارع عالٍ على المستوى الأقلّ جمعية وتنظيماً، ولا يُلاحظ من الأنظمة السياسية، على مستويات جزئية، حركية ومعنوية، ستكون كفيلةً مع الوقت إمّا لتفجير حالة من الفوضى، أو إخضاع النظم السياسية وإجبارها على خيارات سياسية لا تمثّل الأفضل بالنسبة إليها.
وليس المراد هنا إعادة المقولة المُكرَّرة عن احتشاد الغضب وكبته في داخل المجتمعات، ما سيؤدّي إلى انفجاره (وإن كان هذا صحيحاً ولربما يلخص معظم ما نريد قوله هنا)، إلّا أنّ القضية أكثر تركيباً ممّا تبدو عليه عند تلخيصها بهذا الشكل، ما ينزع عن المجتمع تعقيده ويختزله في صورة فيزيائية كلّية تتمثّل بالضغط والانفجار.
ما يُراد الحديث عنه هنا يتمثّل بثلاث قضايا أساسية: البناء التدريجي لأدوات المجتمعات، وسلب الشرعية من النُخَب والسلطة، والعداء المبطّن في الممارسات العامّة.
أولاً؛ العجز وانفتاح الأفق أمام تجديد الفاعلية الاجتماعية يقودان شعور الجماهير بعجزها عن التحرّك إلى تحوّل لافت، وهو سعيها إلى إيجاد بدائل للتعبير والحركة، فنلاحظ حراكاً شعبياً عربياً واعياً بأنّ أهالي قطاع غزّة يسدّدون كلفةً إنسانيةً مهولةً، تعنونها الإبادة، ويفقدون أرواحهم وينزحون من أرضهم، مستنزفين على الصعيديْن المادي والمعنوي. وهو حال تتابعه عيون الناس في مختلف الأرجاء العربية، مستشعرين عجزاً تاماً عن غوث الشقيق الذي تجمعهم به هُويَّة الثقافة والمصير. وإزاء العجز تنامى شعور عكسي بين المكونات الاجتماعية المختلفة بأنّ عليها أن تقوم بشيءٍ ما، تبدع فيه حلولها بعيداً عن قبضة القهر والملاحقة.
يجدر بنا أن نتأمل قليلاً في معنى العجز، فهو ضمنياً يحفّز الحاجة إلى الفعل، بالرغم من عدم القدرة على إتمامه. وسرعان ما يحاول المرء مغالبة هذا الشعور العاجز بالبحث في القدرات الكامنة، في الموارد غير التقليدية، في الحركة والتعبير المبتكرين، والبحث عمّا يحتاجه الواقع العملي ويستدعيه. لا تقدر الجماهير على نفي عجزها عن إيقاف الحرب، وطرد المحتلّ، ونفض الإذلال ووصمة “المتخاذل”. يجد البحث عند مستويات أدنى لإيجاد بدائل وحلول، تترجم نفسها في إغاثة ومناصرة. تُلهمنا حركة الشعوب العربية على صعيد تقديم التبرّعات بشكل أساس حول قدراتها الكامنة، وسعي المجموعات الاجتماعية إلى توفير المساعدات المالية والعينية بالرغم من المصاعب كلّها. وحتّى حشد طاقة الشعوب العربية خلف حملات المقاطعة، كانت مبيّنة لقدرة اقتصادية حررت بعضاً من القوى الاقتصادية المحلّية، وعزَّزت من تحدّي هيمنة العلامات الاستهلاكية الدولية، التي لا تضع وزناً لقوّة المستهلك العربي. تغيّر الحال مع عديد من العلامات المؤثّرة، وصدى هذه المقاطعة كان جلياً في مراكز تلك الشركات. وأضف لهذا تصاعد الحملات الإلكترونية التي أضافت زخماً تعبيرياً غير مسبوق على الصعيد العربي منذ انتفاضات 2011. ولافت في هذا المنحى أيضاً العملُ الجمعي في قضية الوعي، وظهور أشكال من الفاعليات مثل قاعات النقاش الصوتية والصالونات الحوارية والبودكاست، فضلاً عن مجموعات تداول الأخبار والتحليلات التي تتكاثف على تطبيقات الرسائل؛ قد تبدو تلك الفاعلية ضئيلةً مقارنةً بحجم الحدث، ولا تستطيع أن تزيل وصمة “عار” تستشرعها الجموع في ظلّ تواصل الإبادة، لكنّها على كلّ حال الممكن، ليس هذا وحسب، بل الممكن القابل للتطوير والتضخيم.
تترك مثل هذه الفاعلية أثرها الممتدّ على المجتمع وبناه التحتية المنوط بها العمل الاجتماعي. ثمّة تجديد وتوسعة وابتداع لشبكات اتصالية مجتمعية لا تهيمن عليها الدولة، كذلك يبزغ جيل جديد من النُخَب الشابّة، يحمل وعياً باللحظة وقسوتها، يُشكّل وجدانها ورؤاها، ولدينا تجارب عملية ناشطية، قوامها التأسيس لمنظّمات ومجموعات عمل وتنسيق مصغّرة تتوسّع وتتداخل بهدوء، ذلك بعدما صُنّفت على مدار تراجع ثورات “الربيع العربي” وحركة الشعوب. هذا الأثر من الصعب على المتابع تجاهله وتوقّع أثره على المدى الأبعد. فأولئك الذين نظّموا أنفسهم للخروج في المظاهرات من خلال مجموعات، أو الذين شكّلوا لجاناً إلكترونية، أو الذين جلسوا وتحاوروا في القضية ومآلاتها أو كتبوا، إنّما يعيدون تأهيل مجتمعاتهم لتكون قادرةً على القيام بفعل جمعي مرّةً أخرى بعد اختمار هذه الحالات. ولا تغفل العين المدقّقة عن تسارع على هذا المسار، فيما تظلّ قدرات السلطة القمعية في الضغط السلطوي غافلةً عن تلك الحراكات، أو لنقل غير قادرة على ملاحقتها وحصارها، في ظلّ غموض يكتنفها وإبداع يربك السلطة في فهمها وتشكيل قدرات قمعية لاحتوائها.
ثانياً؛ سلب الشرعية من النخب والسلطة. مع إمعان الاحتلال في الإبادة، يصبح فعل التحرّك أكثر إلحاحاً، وفي حال غيابه، يبدأ الناس بإسقاط هُويَّات وسلب شرعيات بالجملة. وهنا لا بدّ أن نلاحظ أنّ الناس مع استفحال الواقع واستطالة المدّة، بدأوا يمارسون نوعاً من الاغتيال، حتّى لذواتهم المعنوية والهُويَّاتية، باعتبار أنّهم فشلوا في الامتحان الذي قدّمته غزّة لهم. فنجد من يسائل الانتماءات بـ”هل نحن عرب؟”، “لا نستحق أن نكون مسلمين”، “عار علينا”. وهنا لا بدّ أن نشير إلى أنّ هذه العملية التي تبدأ من الذات، وعلى الرغم من الأضرار التي قد تتولد عند استفحالها فتؤدي إلى تعطيل التحرّكات كلّها، حتّى المستويات الدنيا، إلّا أنّها تتوسّع تدريجياً لتنال من المجتمع ككل، ثمّ من النُخَب والمؤسّسات والدولة.
على مستوى الحوارات البسيطة والمحلّية في المنازل والأسواق، ثمّ في وسائل التواصل الاجتماعي، لا تتوقّف المجتمعات عن جعل المواقف التي تتخذها الدول من الإبادة معياراً أساسياً في تقييمها ومنحها الشرعية. وإن كان الناشطون والمجتمعات لا يستطيعون أن يعبّروا عن نقدهم للأنظمة السياسية وتحميلها المسؤولية بصوت مرتفع ومنظم؛ فإنّ هذا عملياً يحدث على مستويات دنيا. ويشكّل عدم اعتبار الدول والحكومات لهذه الحالة وتجاهلها نوعاً من الفشل في فهم معانيه. ليست هذه الحالة من توسّع النقد، والمساءلة المستمرّة، التي تتوسّع للتعبير عن الغضب بالشتم والخيانة، مُجرَّد تفريغ لحالة حنق عابرة، بل هي عمليّاً حالة من التجريد التدريجي من الشرعية ورفع “الأهلية الثورية” للمجتمع، وجعله أكثر قابلية للصدام مع الدولة ونخبها. وتجاهل هذا يعزّزه ويزيد من حدّته. عند استفحال هذه الحالة، وتحوّلها لتمثل المزاج العام، ومع لحظة من تراجع نفوذ الدولة أو وقوعها في ظرف يعوقها عن فرض السيطرة على القواعد الاجتماعية أو انشغالها عنها، تتحوّل هذه التعابير كافّةً رصيداً كافياً للتحرّك فعلياً ضدّ الأنظمة السياسية من المجتمع.
ثالثاً؛ العداء المبطّن في الممارسة العامة. مع تراكم الشعور بالعجز، ومع بدء المجتمع بسحب بساط الشرعية عن النُخَب والمؤسّسات نتيجة عدم قدرتها على القيام بمسؤوليتها “القومية” أو “الدينية” أو حتّى “الإنسانية”، ومع ما يحتشد من الغضب في أوساط المجتمعات تجاه الإبادة، تتعامل المجتمعات مع الأنظمة السياسية وكأنّها شريك غير مباشر في الإبادة. وبالتالي، تبدأ بتوجيه حالة من العنف تجاه ما يخصّها، أو ما يتعلّق بالنظام العام، والمكان العام. ويبدأ هذا من حالات تجاوز للنظام العام، باعتباره ممثّلاً للدولة، وشعور المواطنين بعد استحقاق فارض النظام بأن يحصّل الانضباط من الناس، وأن يحصل على الطاعة. ناهيك عن توسّع العداء في الخطاب العام الذي ذكرناه سابقاً في ما يخصّ سحب الشرعية. وتدريجياً تبدأ الدول بدفع فواتيرَ عاليةٍ لهذه الفوضى المكتومة، والخفية، التي يصعب رصدها نشاطاً جمعياً، لكنّها تكلّف الدولة في محصّلتها فواتير على أصعدة معنوية ومادية.
أخيراً، يبدو أن حالة الانفصال الكبير بين ما هو رسمي وما هو شعبي في المنطقة العربية كأنها تعيد نفسها مرّةً أخرى. وعلى الرغم ممّا يُذكر كثيراً من أنّ إعادة إنتاج حالة غضب قد تؤول حالةً ثورية باتت جزءاً من الماضي نتيجة تعلّم الأنظمة من “الربيع العربي”، وفرضها نفسها في الواقع الحي والافتراضي، فإنّ القائلين بهذا يغفلون جدّياً أنّ المجتمعات أيضاً تعلّمت من “الربيع العربي” وبكلفة عالية جدّاً، بل إنّها طوّرت حِسّاً سياسياً لربما لم يصل إلى ما يستدعيه الواقع لمغالبة الأنظمة، لكنّه على الأقلّ كفيل بأن لا تكبّدها الأنظمة خساراتٍ فادحةً عند التدافع معها.
وأيضاً، لا بدّ من إدراك أنّ هذه المجتمعات أعقد من أن تقاس قدرتها بحالات الغضب والهدوء. بل هي حالة مركَّبة للغاية، تتطوّر فيها تدريجياً بوعي أو بغير وعي بنى تحتية للتكيف مع الواقع الذي يفرض عليها، ومقاومته في حال كان يهدّد مكتسباتها المعنوية أو المادّية. وهو ما يبدو أنّ الأنظمة لا تتمكّن من رصده دائماً، وتغفل عنه وتبخس منه، نتيجة حالة من الجهل لا على صعيد المعلومات، بل على صعيد القدرة على تشغيلها والاستفادة منها، وتحويلها معرفةً جِدّية تقود إلى سياسات تصبّ في مصلحة الدولة والمجتمع. وهذا يعني أنّ ما تقوم به الأنظمة السياسية اليوم من فعل سياسي لا يواكب المرجو منها، غالباً ما سيرتدّ، سواء بصورة هادئة أو صاخبة، عليها خلال الفترات المقبلة.
* باحث أردني في علم الاجتماع السياسي وكاتب في العلاقات الدولية
المصدر: العربي الجديد