الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مشروع نتنياهو الشرق أوسطي

بشير عبد الفتاح *

لا تكاد تبدأ حلقة جديدة في مسلسل الصراع العربي- الإسرائيلي، الممّتد والمعقد؛ إلا ويهرع القادة الإسرائيليون إلى استدعاء سرديات، استراتيجية ثيولوجية، حول «شرق أوسط جديد».

فمنذ نشأة الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر، انبرى منظروها في اختلاق الذرائع التاريخية والأخلاقية، وافتراء المسوغات التوراتية والحضارية، التي يمكن أن تؤسس لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. وعُقب كل حرب تخوضها إسرائيل ضد محيطها العربي منذ عام 1948 حتى اليوم، لتحويل الحلم إلى حقيقة، عبر فرض أمر واقع على الأرض، من خلال القوة الغاشمة؛ كان المفكرون اليهود والصهاينة يتبارون في نسج السرديات، وبلورة الطروحات التنظيرية بشأن مستقبل المنطقة.

عقب توقيع اتفاقية «أوسلو» بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، أطل، شيمون بيريز، على العالم بمقاربته الفكرية، التي سطرها في مؤلفه المعنون: «الشرق الأوسط الجديد». وقبل انقضاء العام ذاته، أصدر، نتنياهو، النسخة العبرية من كتابه المعنون: «مكان تحت الشمس»، الذي ظهرت طبعته الإنجليزية عام 1995، بعنوان: «مكان بين الأمم». ذلك الذي وصفه الصحفي الإسرائيلي، أنشيل بيبر، عام 2018، بأنه ثاني أهم كتاب عن تاريخ الحركة الصهيونية، بعد كتاب «دولة اليهود» لبنيامين زئيف هرتزل. ففي فصله العاشر والأخير، المعنون: «مسألة القوة اليهودية»، حاول، نتنياهو، التنظير لطروحاته المتعلقة، بمستقبل دور إسرائيل في شرق أوسط جديد. وعلى إثر توقيع اتفاقيات «السلام الإبراهيمي» عام 2020، التي أسفرت عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية إضافية، متضمنة دعوة لتشكيل تحالف عربي – إسرائيلي، لاحتواء إيران؛ راج الحديث مجددًا عن «شرق أوسط جديد أفضل».

مؤخرًا، أشعل نجاح إسرائيل في توجيه ضربة موجعة لإيران ووكلائها، جدلاً حول نظام إقليمي جديد، يشمل قيام لبنان حر على أنقاض الحرب بين إسرائيل وحزب الله. وفي رسالة موجهة إلى الشعب الإيراني، روج، نتنياهو، لفكرة تغيير نظام الملالي، وبشر بشرق أوسط جديد ينعم فيه الشعبان الفارسي واليهودي بعيش آمن. وخلال جلسة لتقويم الوضع الأمني، عقدها بمقر قيادة سلاح الجو، قبيّل أيام قلائل من اغتيال، حسن نصرالله؛ أكد، نتنياهو، أن إسرائيل تعمل بمنهجية لتغيير موازين القوى، والواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط برمته. وفي كلمة متلفزة له عقب عملية الاغتيال، قال: «إن القضاء على نصرالله، يمثل نقطة تحوُّل تاريخية، يمكن أن تغير ميزان القوى في الشرق الأوسط، وتؤسس لواقع إقليمي جديد». وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، عرض نتنياهو، خريطة جديدة للشرق الأوسط، تبرز نيته إعادة تشكيل المنطقة، بما يتماشى مع المخططات الصهيونية. حيث صنفت الإقليم إلى فسطاطين؛ أولهما؛ كساه باللون الأخضر، وسماه «محور النعمة»، ويشمل إسرائيل ودول ما يسمى «محور الاعتدال». وقد ظهر على الخريطة بلون داكن يغطي كل مساحة فلسطين التاريخية، دونما إشارة للضفة الغربية، قطاع غزة وشرقي القدس. أما ثانيهما؛ فظهر أسود اللون، ويرمز لما سماه «محور اللعنة أو النقمة»، ويشمل مجموعة الدول، التي تشمل ما اصطلح على تسميته «محور المقاومة أو الممانعة»، كمثل إيران، العراق، سوريا، ولبنان.

بدوره، قال موشيه فوزييلوف، الذي واكب خطط التحضير لاغتيال، نصرالله، من خلال توليه مناصب رفيعة في جهاز «الشاباك»: «إن اغتيال، نصرالله، يؤسس لفرض شروط جديدة على الساحة الإقليمية، وخلق «محور الخير» الجديد في الشرق الأوسط. والذي يمكن لدول المنطقة أن تزدهر وتنمو في ربوعه، بغير خوف من طموحات إيران النووية».

  • • •

يُفصح تبشير نتنياهو بـ«شرق أوسط جديد»، عن تصميم إسرائيلي على إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، وفقًا لقواعد ومعطيات تتناغم مع المآرب الصهيونية. وبما يشكل بديلًا عن تلك التي رسمتها القوى الاستعمارية الكبرى كمثل، بريطانيا وفرنسا، مطلع القرن العشرين. ويتسق هكذا توجه مع النظريات الإسرائيلية لجهة نشأة الدولة وتوسّعها، والتي تنطوي على بعدين. أولهما؛ وجودي، يتعلّق بما يُسمّى «إسرائيل الكبرى» جغرافيًا. ويستهدف توسيع حدودها، لضمان بقائها. أمّا الآخر؛ فيعبر عن «إسرائيل الكُبرى» افتراضيًا. من خلال امتلاكها ترسانة عسكرية جبارة، وفرض هيمنتها الكاملة، تكنولوجياً واقتصادياً، بما يضمن لها استدامة نفوذها في محيطها.

يعكس إصرار نتنياهو، منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على التبشير بشرق أوسط جديد، يرتكن على ميزان قوى مغاير، معضلات عربية ثلاث:

أولاها؛ نزوع إسرائيل إلى فرض الردع المهيمن، توطئة لاعتلاء قيادة المنطقة، بمباركة أمريكية. وذلك ضمن مخطط لإعادة بناء النظام الإقليمي، يتأسس على تحويل إسرائيل من قوة رادعة، إلى قوة مهيمنة. مستغلة تفوقها العسكري والتكنولوجي، ضغوط شركاء حكومة، نتنياهو، المتطرفين، تنامي التوافق الداخلي حول سياسات نتنياهو العدوانية، علاوة على عجز إدارة بايدن عن لجم غطرسته، مع تحول الرئيس الأمريكي إلى «بطة عرجاء»، على مشارف الانتخابات الرئاسية.

وثانيتها؛ احتدام التنافس الجيوسياسي بين المشروعين الإيراني والإسرائيلي، في غياب مشروع عربي. فبموازاة انتقال المواجهة بين إسرائيل وإيران من الظل إلى العلن؛ ومن الوكالة إلى الأصالة، تتفاعل المخططات الأمريكية- الإسرائيلية، الرامية إلى تحويل الصراع العربي- الإسرائيلي، إلى صراع سني- شيعي أو إيراني- عربي. مع تجسير الفجوات بين إسرائيل والعرب، بذريعة مجابهة التهديد الإيراني «المشترك»؛ عبر إعادة تسويق فكرة «الناتو العربي- الإسرائيلي، المدعوم أمريكيًا»، في مواجهة «المحور الإيراني- الشيعي».

أما ثالثتها؛ فتتجلى في تكريس بقاء المنطقة، طيلة قرون متواصلة خلت، ضمن إسار احتكار القوى الدولية العظمى، بمساعدة وكلائها من فواعل الجوار الإقليمي أو الكيانات المصطنعة والدخيلة؛ من دون أطرافها الأصليين، عملية هندستها جيوسياسيًا، وصياغة أنماط تفاعلاتها الاستراتيجية. بداية من صلاتها البينية، وصولًا إلى اتجاهات علاقاتها بمحيطها الإقليمي وفضائها الدولي.

  • • •

تصطدم مساعي نتنياهو، لفرض شرق أوسط «إسرائيلي» بتحديين محوريين:

أولهما، توجس واشنطن من تلاعب إسرائيل بتوازن القوى في الإقليم. وذلك برغم حرصها على دعم مساعي إسرائيل لتعزيز نفوذها في المنطقة، ما دام بقي في خدمة الاستراتيجية الأمريكية. حيث تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية كونية تقوم على استبقاء توازنات القوى في 15 إقليمًا حول العالم، من بينها الشرق الأوسط. ولما كانت إيران دولة مركزية، تحرص واشنطن على الحيلولة دون انهيارها، أو سقوط نظامها، على وقع أطماع ومخططات نتنياهو، الأحادية قصيرة النظر، والتي لا تتماشى مع استراتيجية واشنطن حيال المنطقة.

أما التحدي الثاني، فيكمن في حدود القوة الإسرائيلية. ففي مقابلة مع «سي إن إن»، علق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، على تصريحات، نفتالي بينيت، بشأن لحظة إسرائيل التاريخية الحالية لتغيير الشرق الأوسط، بالقول: «إن إسرائيل، رغم قوتها، لا تستطيع إعادة هندسة المنطقة بمفردها، فهي بحاجة إلى تحالفات بقيادة واشنطن، كتلك التي اقترحها، بايدن، قبل عامٍ مضى. علاوة على دعم من الاتحاد الأوروبي ودول ذات تفكير مماثل في أمريكا الشمالية، والشرق الأقصى، يربطها بإسرائيل علاقات ثقة وتعاون».

إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، زعم شارون، الذي كان وقتذاك، وزيرًا للدفاع، أنه سيغير وجه المنطقة، ويؤسس لنظام شرق أوسطى جديد. يضم لبنانًا حرًا بحكومة مارونية موالية للغرب، ووطنًا بديلًا للفلسطينيين بالأردن، بعد القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وضمان الأمن للإسرائيليين. لكن جيش الاحتلال فشل في احتلال بيروت، رغم قسوة حصارها. وبينما فجعهُ اغتيال بشير الجميل، بقيت منظمة التحرير، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. ثم تورطت إسرائيل في جولات عسكرية متتالية ضد حزب الله، اضطرتها للانسحاب من لبنان؛ بعدما بدلت توازنات القوى في المنطقة، على نحو سمح لإيران بتعظيم نفوذها الإقليمي، مستعينة ببرامجها التسليحية الطموحة، وأذرعها الولائية المُسلحة.

* كاتب أكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.