عبد الجبار عكيدي *
تنشغل وسائل الإعلام ومحللوها العسكريون والاستراتيجيون بما تقوم به إسرائيل من أعمال عسكرية في جنوب لبنان، وتباينت الآراء بشان الاجتياح البري من عدمه، وحجم العملية المحتمل وعمقها المتوقّع وقدرة حزب الله على التصدّي لها، وهنا لا بد من التوضيح باختصار لما يحصل عسكرياً.
ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان عمليات خاصة ينفذها سلاح الهندسة بحماية قوات المهام الخاصة (الكوماندوس)، وهذا لا يعتبر، في العلم العسكري، بدء المعركة البرّية، وإنما هو من صلب مهام التأمين الهندسي باكتشاف الأنفاق والتحصينات والتجهيزات الهندسية الموجودة على طول الجبهة، بهدف تدميرها وإزالتها، وتعتبر هذه الأعمال أساسية قبل تنفيذ أي هجوم برّي.
وبحسب عقيدة القتال الغربية عامة، والإسرائيلية خاصة، لا يمكن أن يبدأ أي هجوم برّي قبل إنجاز هذه المهام، والتمهيد الناري الكثيف من سلاح الطيران والمدفعية والصواريخ، بمشاركة البوارج البحرية واتباع سياسة الأرض المحروقة، وتمشيط السطح كما حصل في غزة قبل التحرك البري. إلا أن الوضع على جبهة حزب الله في جنوب لبنان وتضاريسها المعقدة بجبالها ووديانها، بالإضافة إلى التدابير الهندسية التي جهزها الحزب في نحو ثلاثة عقود، وما يمتلكه من مقاتلين مدربين وترسانة أسلحة وصواريخ تفوق ما تمتلكها حركة حماس بكثير، فضلاً عن خطوط الإمداد المتصلة عبر الأراضي السورية والعراقية حتى إيران، يجعلها مختلفة عن جبهة غزّة، وهذا ما يدركه صانع القرار الإسرائيلي والمفكر العسكري.
انطلاقاً من معرفة القادة العسكريين الإسرائيليين لهذه الحقائق، وحجم الخسائر البشرية والمادية التي يمكن أن تتكبدها قواتهم، عكفت حكومة نتنياهو من بعد عملية طوفان الأقصى، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر (2023)، على استخدام أنواع مختلفة من العمليات الأمنية والاستهدافات العسكرية لكوادر وقيادات مهمّة في حزب الله اللبناني وقادة إيرانيين، في حرب غير تقليدية استخدمت فيها التكنولوجيا العسكرية والأمنية المتطورة لتصفية الخصوم، إنها حرب من نوع جديد لم يشهدها العصر الحديث.
أظهرت هذه العمليات بشكلها المختلف تحديداً حين طاولت القنصلية الإيرانية في دمشق، في إبريل/ نيسان الماضي، ضربة جوية إسرائيلية قتلت قادة إيرانيين عديدين، من دون أن يتلقى الكيان الصهيوني رداً بمستوى تلك الضربات، ما جعله يتجرّأ على تنفيذ مزيد منها، أبرزها اغتيال الرجل الثاني في الحزب، فؤاد شكر، في أغسطس/ آب الماضي. تبعها بعد أيام اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في قلب طهران، في رسالة جلية وواضحة، بالإضافة إلى أنها مهينة، مضمونها أن الكيان الصهيوني قادر على الوصول إلى خصومه في أي مكان.
لم تتوقف إسرائيل عند هذا الحد من العمليات ضد الحزب والوجود الإيراني في المنطقة، بل طاولت ضرباتها القواعد العسكرية ومستودعات الأسلحة والذخيرة في كل من لبنان وسورية والعراق، بما في ذلك معامل التصنيع العسكري، والتي كان جديدها أخيراً الاختراق الأمني الكبير الذي حققته قوة أمنية إسرائيلية تمكّنت من الوصول إلى العمق السوري وتفجير معامل تصنيع الصواريخ الإيرانية في مدينة مصياف (وسط البلاد!) مع قتل ضباط وعناصر من الحرس الثوري الإيراني والجيش السوري.
مرّت الأيام القليلة الماضية عصيبة وقاسية على حزب الله، إذ تتالت الأحداث متسارعة جداً، استخدمت تل أبيب فيها تكتيكات عسكرية جديدة وأساليب قتال خارج المنظومة العسكرية المعهودة من قبل. فبعد مرور يومين على الضربة الموجعة التي استهدفت شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب (بيجر) والتي أخرجت أكثر من أربعة آلاف من كوادر الحزب عن الخدمة، وجهت إسرائيل ضربة قوية أخرى لا تقل إيلاماً عن سابقتها، تمثلت باستهداف القيادة المصغرة لفرقة الرضوان، التي تعتبر القوة الأساسية ورأس حربة الحزب، قُتل فيها قائدها إبراهيم عقيل ونائبه، حيث بدا جلياً أن إسرائيل تستغل حالة الإرباك والفوضى التي أصابت قيادة الحزب بعد أن حطمت تلك الضربات منظومة القيادة والسيطرة وجعلتها في حالة شلل شبه تام، معتمدة على استراتيجية متتابعة ومستمرة بقصف الأماكن نفسها في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، واستخدام القنابل الخارقة للتحصينات وتفجير الأنفاق التي يستخدمها الحزب، كما تمكنت من تدمير المئات من الراجمات ومنصات إطلاق الصواريخ. والضربة الأقوى والأقسى، والتي إن لم تكن قد قصمت ظهر حزب الله، فعلى الأقل لن يشفى منها في وقت قصير، وتمثلت باستهداف أمينه العام حسن نصرالله، مع مجموعة من أهم قيادات الحزب، بينهم نائب قائد الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفروشان.
خطورة ما حصل أنها كشفت عن وجود عيوب كثيرة في المنظومة الأمنية الذاتية للحزب، وإضعاف كل سرديته الدعائية على أنه محصّن من أي اختراق، وما حصل بعد مرور أسبوع على مقتل نصرالله، باستهداف الكيان الصهيوني اجتماعاً ضم مجلس شورى الحزب المخصص لتسمية رئيس المكتب التنفيذي هاشم صفي الدين لخلافة نصرالله، وما تبعه من ضربات متلاحقة ودقيقة، يؤكد أن هناك غياباً لفكرة الأمن الوقائي ووجود خلل مركّب، فما تعرّض له قادة الحزب خلال الشهور الأخيرة، هي مؤشّرات بديهية على وجود خرق أمني كبير في منظومة اتصالاته.
سيكون لما حصل تداعيات كبيرة وتأثير على المعركة، لأن هذه العمليات وضعت حزب الله أمام خيار وحيد، وهو الرد، وهذا ما سيعطي لنتنياهو مبرّرات أكبر لشن عملية أوسع على لبنان، فهذه الضربات التي تلقاها الحزب خلقت مشكلة كبيرة معنوية ونفسية في البيئة الحاضنة للحزب وبين أفراده وكوادره، وشكلت حالة خلل بنيوي سيظهر تأثيره على فعالياته الميدانية غالباً، ووضعته في ظروف وحالة من الإرباك تجعله نظرياً غير مهيأ للحرب في ظل التفوق الإسرائيلي الكبير.
ما يقوم به الكيان الصهيوني هو أقرب إلى حرب حقيقية شاملة وليس مجرد عمليات نوعية عسكرية فقط، ما يعني أن القرار في تل أبيب هو الإجهاز على حزب الله، الذي كما يبدو لم يأخذ القرار بعد باستخدام ما يملك من صواريخ متطورة ودقيقة في هذه الحرب لأن حساباته معقدة ومخاوفه كبيرة، خاصة أنه قد اتضح له أنه بمواجهة عدو، يمتلك أدوات كبيرة غير معلنة، ويحظى بدعم أميركي غربي كبير، كما أن الحزب يخشى من مفاجآت أكبر تضيف معاناة أخرى إلى بيئته الحاضنة، وبيئة أخرى في لبنان ليست معه تماماً بسبب المشكلات السياسية السابقة، ولن تذهب معه في قرار الحرب، بالإضافة إلى الحسابات الإيرانية التي تخشى وتتحاشى أي مواجهة مع إسرائيل أو دفع الحزب إلى الانخراط في هذه الحرب.
على أية حال، تحمل الحرب الإسرائيلية التي تستهدف حزب الله حالياً في طياتها أسئلة كثيرة، كما أنها يمكن أن تكون مفتوحة النتائج والاحتمالات، فهل ستكتفي إسرائيل بإعطاب الآلة العسكرية لحزب الله، أي هل ستكتفي بإنهاء القدرة العسكرية والميدانية للحزب فحسب، أم ستهدف إلى استئصاله تنظيمياً وسياسياً أيضاً؟
* كاتب وخبير عسكري سوري
المصدر: العربي الجديد