أيمن الشوفي *
تجرُّ إسرائيل آلتها العسكرية اللاهثة من غزّة إلى جنوب لبنان، وربّما لاحقاً ستجرُّها إلى سورية، فهذا كيانٌ يصعب تهدئته وهو يجابه منطقةً عربية بأكملها، يريد إعادة صياغتها وهيكلةَ نفوذه فيها، ويصاحبه في يقينه العسكري والسياسي ذاك تراجعُ قوّة الدولة وعناصر تكوينها في كل من لبنان وسورية إلى الحضيض، ويأسُ شعبيّ هذين البلدين من استنطاق حياةٍ بخصائص مختلفة تحترم قيمة وجودهم، بسبب أنّهم رهائنُ حالةٍ سياسيةٍ قاتمةٍ فيها استفحال نظامٍ ديكتاتوري مريض كما حالُ سورية، أو فيها ازديادُ عيوب نظام المحاصصة الطائفية كما هو حالُ لبنان، والتي تعاظم فيها دور حزب الله، ليصير مُعطِّلاً للحياة السياسية في ذاك البلد الصغير، وذراعاً في الخارج تضرب السوريين، لتُعينَ بشّار الأسد على البقاء، وفي هذا كلّه تستثمر إسرائيل بطشها العسكري، لتجعله مقبولاً أكثر في الفضاء الاجتماعي العام، فبات كثيرون يتغاضون عن فكرة العدوان الإسرائيلي في مقابل ارتفاع أسهم فكرة الخلاص من تبعات تلك الحالة السياسية المُتردِّية حقّاً، وهذا ما يُتداول فعلياً، وعلى نحوٍ واسعٍ، داخل أروقة بورصة العطالة والعجز العربيين.
ومنذ 7 أكتوبر (2023)، حين بدأ “طوفان الأقصى”، وبشّار أسد قرّر أن يدخل السرداب، وهو غير السرداب الذي دخله المهدي المنتظر بحسب السرديّة الشيعية الفصيحة، لكنّه استعار من الثاني سيمياء الدلالة على الاختفاء، والاختباء، والتخفّي، والابتعاد عن الشأن العام، بانتظار أن يأذن الظرف الموضوعي بالخروج والمكاشفة، وخلال مكوثه في سردابه ذاك أكثر من عام، عبرت اغتيالاتٌ كثيرةٌ الهواءَ فوق رأسه، ولأنّه تدثّر جيداً بالصمت، وجدَ من غير اللائق أن يساند لغويّاً مأساة “محور المقاومة والممانعة” بفقدان قادتها من الصفوف الأولى، وكأنه تطلّقَ من التبعيّة لهذا المحور، وتزوّج الانكفاءَ إلى عتمة السرداب، وأنجب من زواجه الجديد نسلاً واضحَ التكوين من الانتهازية السياسية، والبراغماتيّة كثيفة الدلالة، فلم يشارك في تأبين إبراهيم رئيسي إثر مصرعه بتحطّم مروحيّةٍ رئاسيةٍ كانت تقلّه مع آخرين في 19 مايو/ أيّار الماضي، واكتفى بإرسال برقيّة تعزية إلى أسرة حسن نصرالله إثر اغتياله، الجمعة 27 من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، بغارة إسرائيلية استهدفته في الضاحية الجنوبية لبيروت.
وكلّما ارتفع منسوب الاغتيال، والتصفيّة الممنهجة لقيادات حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، وحركة حماس، ازداد يقين الأسد بصوابية “سردابه” وآداب البقاء فيه، وهذا الذي جعله يحترسُ من تلاوة مزيدٍ من الكلام الذي يحفظه عن تحقير إسرائيل، أو عن هيامِه الشديد بالمدّ الشيعيّ “الثوريّ” المكتظّ بإيحاءات زوال دولة الكيان، وعودة “صاحب الزمان” من سردابه المُضْجِر، فيصير الأسد داخل سردابه المجازيّ، ومع مرور أوثانِ الوقت أمام عينيه أشدَّ طوعاً لإسرائيل، وأكثر مُدارَاةً لمزاجها التوسّعيّ المريض، علّهُ أيضاً، يلتقط طوقَ نجاةٍ يتيح له العومَ فوق دماء السوريين التي أشرف على سفكها، واكتشاف زمرتها، أو العومَ فوق خرائب مدنه المدمّرة، وجوع من بَقَيَ داخل مناطق سيطرته المنهكة بحكم العصابة وزعيمها أثناء إفلاسه السياسي، الذي على تلّ أبيب مداواته كلّما ضاقت السُبل به، أو مداواة أعراضه الجانبيّة الملتوية، كلّما شارف دوره الوظيفيّ على الانتهاء.
ولنتذكر أنّه، حين قصفت إسرائيل منطقة المصنع، وهي البوابة الحدوديّة التي تربط دمشق مع لبنان، فجر يوم الجمعة الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ثمّ ما نقلته القناة 12 الإسرائيلية عن تصفية هاشم صفيّ الدين، وأبرز المرشّحين لخلافة حسن نصرالله، في اليوم نفسه، إنّما كانت توجّه بذلك رسائلَ متعدّدةً إلى الجميع، بمن فيهم “أسد السرداب”، أبرزها أنّ زمن حزب الله قد انتهى، وأنّها عازمةٌ هذه المرّة على إنهاء وجود الحزب الشيعيّ الأكثر راديكاليّةً وتطرّفاً في المنطقة، وهذا ما فهمه بشّار الأسد جيّداً داخل مباهج سردابه، وهو الصامت عن المقاومة اللفظيّة منذ قرابة العام، وربّما فهم أيضاً من وراء قصف إسرائيل للطريق الدولية التي تربط عاصمة بلاده مع لبنان، أنّ الأوان قد حان لإعلان القطيعة المادّية اللوجستيّة التي تربط دمشق “قلب العروبة النابض” مع الضاحية الجنوبية لبيروت “قلب إيران النابض” في لبنان، وهي القادرة أيضاً على تصفية أسد الممانعة، وإتلاف آماله بالبقاء حاكماً متى شاءت ذلك، وربّما حاولت مرّةً أخرى تذكير بشّار الأسد المتنكّر بالصمت بأنّها قادرةٌ على فعل ذلك حين استهدفت يوم 30 سبتمبر/ أيلول الماضي “فيلا” لماهر الأسد قرب منطقة يعفور بريف دمشق، وهو أبرز شخصيات النظام السوري الموالية لإيران.
كما يأخذنا مجازُ السرداب وحِيَلهِ، وهو يحيط بضمور ظهور رأس النظام السوري (إلّا في مواضعَ ومناسباتٍ محدودة جدّاً) إلى حُسنِ استثمار الأسد سردابَ غيبته الغامض، إذ يحاول أن يُوْدِعَ فيه كلّ ما تبقّى من رأس ماله السياسي (يمثّل بشّار الأسد حالةً سياسيةً متعدّدةَ الاستخدامات)، وقد يتيح هذا الإنفاقُ السخيّ للأسد شراء استنتاجات مضمونة قد تُفسّر له مصيره العالق داخل زحمة دلالاتِ إعادة كتابة المنطقة بلغةٍ وسردٍ جديدَين، خارج نصّ “سايكس بيكو” حين قسّم المنطقة عام 1916 وألحقها بالنفوذَين الفرنسيّ والبريطانيّ، وهذا نصٌّ راوغنا كثيراً حتّى وصلت خطوطه إلى ما وصلت إليه اليوم، مُنشئةً العراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين.
نشر، في فبراير/ شباط 1982 عوديد ينون، الذي عمل مستشاراً لآرييل شارون، ثمّ صار مسؤولاً بارزاً في وزارة الخارجية الإسرائيلية، خطّةً حملت عنوان “استراتيجيّة لإسرائيل في الثمانينيّات”، في مجلة كيفونيم العبريّة، وسرعان ما صارت تلك الدراسة تُعرف بـ”خطّة ينون”، قدّمت رؤيةً مبكّرة لشرق أوسطٍ جديد، بحدود سياسية جديدة أساسها الخصوصيّة الديموغرافيّة، وهناك من يعتقد أنّ تلك الخطة نجتْ من التجاهل والنسيان حين تبنّاها معهد الاستراتيجيات الصهيونيّة التابع للإدارة الأميركيّة. فيها تمثّلٌ واضح لشغف اليهود بالميثولوجيا التوراتيّة، التي تظنّ أنّ حدود إسرائيل النهائية تقع بين نهرَي الفرات والنيل، والواضح أنّ دولة الكيان ارتدت زيّها العسكري بما يليق باحتضان خطّة ينون منذ أن غزت غزّة قبل عامٍ من الآن، في الوقت الذي يواصل فيه بشّار الأسد عناق سردابه، وامتحان الزمن من هناك، متناسياً شعارات المرحلة، مرحلةِ الصمود والتصدّي التي كان يطعمها لشعبه كلّ يوم، متسائلاً أيضاً، إلى متى سيبقيه عوديد ينون في السرداب؟!
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد