صقر أبو فخر *
اقترح الرئيس جمال عبد الناصر، في 23 ديسمبر/ كانون الأول 1963، وفي الاحتفال الذي أُقيم في بور سعيد في الذكرى السابعة ليوم النصر (1956)، أن يعقدَ الملوك والأمراء والرؤساء العرب مؤتمراً عاجلاً لمواجهة قرار إسرائيل تحويل مياه نهر الأردن. ثم عُقد المؤتمر في 13 يناير/ كانون الثاني 1964، وأقرَّ “إنشاء كيان فلسطيني يعبّر عن إرادة شعب فلسطين لتمكينه من تحرير وطنه وتقرير مصيره” (راجع مقرّرات المؤتمر وبيانه الختامي)، وكُلِّف أحمد الشقيري الشروع في الاتصال بأبناء فلسطين والعودة بنتائج تلك الاتصالات إلى المؤتمر الثاني للقمّة العربية، بحسب ما اتُّفق عليه بالإجماع.
غير أن الشقيري، متسلحاً بتوصية المؤتمر أعلاه، تجاوز تكليفه، وتخطى الصلاحيات التي منحه إياها المؤتمر، ودعا إلى عقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس بتأييد من الرئيس عبد الناصر، وبادر إلى تأليف لجنة لهذه الغاية قوامها روحي الخطيب وأنور نسيبة وقدري طوقان وفلاح الماضي وسعيد علاء الدين ويوسف عبده وزليخة الشهابي وعبد الرحمن السكسك. وكانت مهمّة هذه اللجنة تنسيق عمليات الترشّح لعضوية المؤتمر، وإعداد القوائم، ثمّ اختيار الأعضاء، وتولّى عِزَّت طنّوس إدارة المكتب التحضيري للمؤتمر (اللجنة التحضيرية).
وفي غضون ذلك، تألّفت لجان في لبنان وسورية والأردن ومصر وقطاع غزّة لمناقشة مشروع الكيان الفلسطيني العتيد، بما في ذلك الميثاق القومي الفلسطيني، الذي تحوّل اسمه إلى الميثاق الوطني الفلسطيني في سنة 1968، بذريعة الدقّة في المضمون؛ فالميثاق خاص بالشعب الفلسطيني لا بالأمّة العربية كلّها. وفي 28 مايو/ أيّار 1964، افتتح الملك حسين أعمال المؤتمر الفلسطيني الأول (صار اسمه لاحقاً المجلس الوطني الفلسطيني)، الذي انتخب فور بدء الجلسات أحمد الشقيري رئيساً له، وكلّاً من حكمت المصري وحيدر عبد الشافي ونقولا الدر نوّاباً للرئيس، وأصدر الميثاق القومي والنظام الأساسي لمنظّمة التحرير الفلسطينية التي أعلن الشقيري تأسيسها في ختام المؤتمر.
وقد استند صعود الحركة الوطنية الفلسطينية الجديدة إلى وجود نُخَبٍ تمكّنت من تأسيس منظّمات شعبية حديثة على أنقاض المؤسّسات القديمة، أمثال الهيئة العربية العليا وحكومة عموم فلسطين والأحزاب التي اندثرت مع النكبة مثل حزب الدفاع والحزب العربي الفلسطيني وحزب الإصلاح وغيرها.
ومع قيام منظّمة التحرير الفلسطينية، سارعت تلك المنظّمات والاتحادات إلى اعتبار نفسها قاعدةً من قواعد المنظّمة، وأعلنت التزامها الميثاق القومي بحذافيره. وكان في طليعة تلك القواعد الاتحاد العام لطلاب فلسطين الذي أُسّس في 1959، والاتحاد العام لعمّال فلسطين الذي أُسّس في 1963، ثمّ نسج على المنوال نفسه، فيما بعد، الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية والاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين.
وعلى هذا النحو، باتت تلك الاتحادات والمنظّمات والهيئات ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى، ولم يكن للمسألة النقابية غير حضور خافت جدّاً. فالاتحاد العام لطلاب فلسطين، على سبيل المثال، كان يناضل دائماً في سبيل طرد اتحاد طلاب إسرائيل من الهيئات الطالبية الدولية كاتحاد الطلاب العالمي (IUS). وكانت معظم الاتحادات تسعى إلى إسماع صوت قضية فلسطين في المحافل الدولية، ولم تشدّد، إلّا في حالات قليلة، على المسائل النقابية.
وبهذا المعنى، لم يكن لاتحاد المرأة مثلاً مواقف ثورية من قضايا المرأة وتحرّرها الذاتي، بل جرى التشديد على أحوال المرأة تحت الاحتلال. ولم يناضل اتحاد الأطباء الفلسطينيين أو اتحاد المحامين (ومعهم اتحاد العمال بالطبع) في سبيل انتزاع الحقوق الطبيعية للأطباء الفلسطينيين (ومعهم العمّال أيضاً)، بل كان لسان حال قادته يتحدّث دائماً عن أحوال الصحّة تحت الاحتلال، وعن انتهاك حقوق المواطنين في الأراضي المحتلّة. ولأنّ منظّمة التحرير الفلسطينية، لا سيّما بعد تعطيل اتفاق أوسلو، تراجعت عملياً عن مكانتها الأصلية باعتبارها المؤسّسة الدستورية الجامعة والوطن الرمزي للفلسطينيين في شتاتهم، فإنّ الاتحادات “النقابية” والمنظّمات الشعبية تراجعت بدورها وتصدّعت وتناثر بعضها أحياناً، وصارت قليلة الفاعلية، وبلا تمثيل جِدّي لقطاعاتها، واستولدت الفصائل التي شاخت منذ زمن طويل هيئات عجيبة وكسيحة مثلها.
لن يكون مجدياً، في خضمّ التفتيش المحموم اليوم عن وسائل لإعادة تأسيس منظّمة التحرير الفلسطينية، بذل الجهد في إعادة تفعيل الاتحادات والنقابات والمنظّمات الشعبية. فما دام الإطار الوطني، أي منظّمة التحرير، باهتاً، وما لم تُعَد الوحدة إلى المنظّمة، فإنّ من المحال إعادة بناء أيّ هيئة شعبية أو نقابية. والمدخل إلى ذلك هو الاتفاق الوطني الشامل، أو حتّى شبه الشامل، على برنامج سياسي مشترك. ومن دون إعادة بناء منظّمة التحرير على أساس البرنامج السياسي الواحد، سيكون الكلام عن قدرة المنظّمات الشعبية والاتحادات النقابية على التأثير في القرار السياسي الفلسطيني بلا جدوى.
المعروف أن منظّمة التحرير لم تتعرّض لأيّ تصدّع جوهري إلّا مرَّتين. الأولى بعد المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر في القاهرة في 1974، حين تبنّى المجلس برنامج النقاط العشر. وكان من عقابيل ذلك ظهور “جبهة الرفض” (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة التحرير العربية وجبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير الفلسطينية)، والثانية بعد توقيع اتفاق أوسلو في سنة 1993. وفي المرَّتين، لم تتمكّن المعارضات الفلسطينية من تطوير أيّ صيغة جديدة للعمل الفلسطيني.
وبانتقال مؤسّسات منظّمة التحرير إلى الضفّة الغربية وقطاع غزّة بعد اتفاق أوسلو، بدأ حضور المنظّمة ينحسر، ويتقدّم حضور السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسّساتها الوليدة. ولعلّ هذا من طبيعة الأشياء في هذا الميدان. وكل ما يمكن رصده في تلك المرحلة المضطربة هو عقد الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني في 22 إبريل/ نيسان 1996 في غزّة، التي اتخذت قراراً بتعديل فقرات من الميثاق الوطني وإلغاء فقرات أخرى. لكنّ أصحاب القرار والشأن وجدوا أنّ المسألة صعبةً جداً، فأقروا، بدلاً من ذلك، وضع دستور لفلسطين الجديدة (كان الأمل يراود كثيرين بأنّ الفلسطينيين سائرون نحو الدولة المستقلّة). وبالفعل، أنهت لجنة من رجال القانون الدستوري في فبراير/ شباط 2003 صوغَ مشروعٍ للدستور الفلسطيني، لكن إقرار ذلك الدستور ما كان في الإمكان تشريعه لأنّ ذلك يقتضي إجراء استفتاء عام، وهو ما كان مستحيلاً في خضمّ الانتفاضة الثانية. وهكذا صار الفلسطينيون بلا ميثاق ولا دستور.
(المواد المطلوب إلغاؤها أو تعديلها من الميثاق الوطني الفلسطيني: (2): “فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ”. (9): “الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً…” (20): “يُعتبَر باطلاً كلٌّ من تصريح بلفور وصك الانتداب وما ترتب عليهما، وإن دعوى الترابط التاريخية أو الروحية بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع حقائق التاريخ…”. (21): “الشعب العربي الفلسطيني، مُعبّراً عن ذاته بالثورة الفلسطينية المسلّحة، يرفض كلّ الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً…”. (22): “الصهيونية حركة سياسية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالإمبريالية العالمية ومعادية لجميع حركات التحرّر والتقدّم في العالم، وهي حركة عنصرية تعصبية في تكوينها، عدوانية توسّعية استيطانية في أهدافها، وفاشية ونازية في وسائلها، وإن إسرائيل هي أداة الحركة الصهيونية وقاعدة بشرية جغرافية للإمبريالية العالمية…”. (23): “دواعي الأمن والسلم ومقتضيات الحقّ والعدل تتطلّب من الدول جميعها (…) أن تعتبر الصهيونية حركةً غير مشروعة وتحرّم وجودها ونشاطها”).
وفي معمعان السعي إلى إعادة بناء منظّمة التحرير بأيدي نُخَبٍ فلسطينية مجرّبة، ومحاولة إحداث دينامية فاعلة في هذا الشأن، وكي يصبّ جهد هذه النُخَب في مجرى السياسة الوطنية من باب صُنع القرار والمشاركة في صنعه، هناك مجموعة من الخطوات العملية التي من دونها لن تستقيم، بحسب ما يرى كاتب هذه السطور، عملية إعادة البناء على الإطلاق. وهذه الخطوات قابلة للتعديل والتطوير و”التطيير”، ويمكن ايجازها كالآتي:
أولاً، الأساس في إعادة بناء المنظّمة هو المجلس الوطني الفلسطيني. لذلك لا بدّ من التوافق مع قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية الحالية وبقية القوى الفاعلة على تأليف لجنة جديدة لتقرير عضوية المجلس، ما دامت إمكانية إجراء الانتخابات مستحيلة أو غير ممكنة.
ثانياً، تقرّر لجنة العضوية المؤلَّفة من جميع القوى الفلسطينية الفاعلة مَنْ هم أعضاء المجلس الوطني المُقبل، بعد حذف أسماء المتوفّين وإضافة الأسماء الجديدة، وإلغاء عضوية بعض الأسماء (إذا كان النظام الداخلي يسمح بذلك).
ثالثاً، يعقد المجلس الوطني الفلسطيني بتشكيلته الجديدة (مع انضمام حركتي حماس والجهاد وغيرهما إلى عضوية المجلس) مؤتمره المعتاد بعد الاتفاق على مكان الانعقاد وموعده الملائمَين.
رابعاً، ينتخب المجلس الوطني رئيس المؤتمر على أن يكون الرئيس من خارج الفصائل.
خامساً، ينتخب المجلس الوطني لجنة تنفيذية جديدة تعكس التحوّلات السياسية الجارية في فلسطين.
سادساً، يضع المجلس برنامجاً سياسياً جديداً للتحرّر الوطني الفلسطيني يكون استكمالاً للميثاق الوطني الفلسطيني.
سابعاً، ينتخب المؤتمر في ختام أعماله رئيساً للمجلس من خارج الفصائل الفلسطينية.
ثامناً، ينتخب المؤتمر مديراً للصندوق القومي الفلسطيني من فئة التكنوقراط.
تاسعاً، ينتخب المؤتمر لجنةً تنفيذيةً جديدةً يُتفَق على عدد أعضائها وعلى توزيعهم على الفصائل والاتحادات والهيئات والمستقلّين في اثناء انعقاد المؤتمر.
عاشراً، تعيد اللجنة التنفيذية الجديدة تكوين المجلس المركزي ومؤسّسات منظّمة التحرير الفلسطينية الأخرى، كالدائرة السياسية ودائرة التنظيم الشعبي والدائرة العسكرية ودائرة شؤون اللاجئين ودائرة الوطن المحتلّ.
حادي عشر، يُعاد تكوين السلطة الوطنية الفلسطينية – دولة فلسطين، وإقرار مهامها ووظائفها لتتلاءم مع البرنامج السياسي الجديد، وتحديد مرجعيتها السياسية بصورة لا لبس فيها.
ثاني عشر، تُرسم التخوم بصورة واضحة تماماً بين وظائف السلطة الوطنية وصلاحيات دوائر منظّمة التحرير الفلسطينية خصوصاً الدائرة السياسية (السفارات مثلاً هل تتبع السلطة الوطنية أم منظمة التحرير؟).
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: العربي الجديد