بسام يوسف *
التزم “بشار أسد” الصمت منذ أن بدأت إسرائيل هجومها على غزة قبل أكثر من عام، واكتفى إعلامه بترديد بعض الشعارات التي يحفل بها القاموس التاريخي لمسيرة “الصمود والتصدي” بين الفينة والأخرى. وبغض النظر عن أسباب صمته، التي لا تبدأ من عجزه عن الفعل على الأرض، ولا تنتهي بعجزه عن اتخاذ أي قرار بهذا المستوى، كان من الواضح أن صمته لم يكن ناتجاً عن حكمة أو دراية، ولم يكن بدافع مصلحة وطنية، بل كان التزاماً بما طُلِب منه، وأملاً في أن يكون صمته هذا ثمناً لإعادة تعويمه.
تعرف إيران جيداً سبب صمت بشار أسد، وتعرف أنه يحاول بيع ورقة تحالفه معها، وتدرك أكثر من ذلك الخدمات التي تعهّد أن يقدمها والتي ليست في صالحها، وقد قدم بعضها بالفعل. لكنها، ولأنها قادرة على الفعل داخل سوريا، فقد بدأت تتصرف بما تمليه عليها مصالحها، غير آبهة به وبسوريا، وبكل الصيغ الشرعية للدولة السورية.
لم تُدَمِّر الآلة العسكرية الإسرائيلية كل مقومات الحياة في غزة بهدف الانتصار على حماس فقط، ولم تواصل تدميرها الشامل لجنوبي لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت لمجرد القضاء على القدرة العسكرية لحزب الله. فهناك ما هو أبعد من هذا بكثير، وهو ما خُطِّط له قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بمدة طويلة. وما مماطلة “نتنياهو” في توقيع اتفاق مع حماس منذ أشهر، ورفضه موافقة حزب الله على العودة إلى بنود الاتفاق 1701، إلا محاولة للوصول إلى هدف إعادة رسم خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط.
ما يتم تناقله أحياناً، وما يجري على الأرض، يختلف تماماً عما يُتَداول عبر وسائل الإعلام حول أهداف محددة، والدجل الأميركي والأوروبي الرسمي ليس أكثر من تواطؤ مفضوح لتسهيل إعادة ترتيب هذه المنطقة. الخلافات التي تظهر بين هذه الأطراف ليست حول قتل المدنيين أو حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، بل تتعلق أساساً بتباين المصالح في هذا الترتيب.
لا توجد وثائق أو معلومات مؤكدة حول صيغة الترتيبات الجديدة، لكن ربما تتيح لنا قراءة ما يجري على الأرض، وردود الفعل عليه، أن نتلمس بعض ملامحها، وأهمها:
1). التفرد الاستراتيجي الإسرائيلي، والذي توفرت شروطه الأهم بعد 7 أكتوبر 2023، وقيام إسرائيل بتدمير غزة وتهشيم حماس، إن لم يكن تحطيم إمكانية نهوضها مرة أخرى، وبعد الانهيار الأمني الكبير لحزب الله وتضعضع بنيته التنظيمية والعسكرية. ولن يكتمل هذا التفرد إلا بإنهاء مشروع إيران النووي. تدرك إسرائيل أنها غير قادرة على هذه الخطوة بالغة الأهمية، التي تحدد مصير الشرق الأوسط، إلا بدعم أميركي ومشاركة أطراف أخرى داخل المنطقة. لكن السؤال المهم هو: هل ستقبل دول عظمى مثل روسيا والصين أن تتفرد إسرائيل بالمنطقة، ما يعني تفرد أميركا بها؟
2).تحجيم دور الحركات الراديكالية المسلحة، وخصوصاً تلك التي ترتكز على أيديولوجيا دينية، وفي مقدمتها تلك التابعة لإيران. يشمل هذا، بالإضافة إلى حماس وحزب الله، التنظيمات الراديكالية التابعة لإيران في العراق واليمن.
3).تغيير التركيبة الديمغرافية بما يتناسب مع الصياغة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وبما يعزز من التفرد الإسرائيلي في المنطقة وهيمنتها، خاصة وأن أطرافاً إقليمية بارزة ترى أن الشراكة مع إسرائيل خيار استراتيجي لها.
بالتأكيد، سوف تكون سوريا جزءاً أساسياً من هذه الترتيبات القادمة، لكنها للأسف ستكون ضمن الجهات التي سيتم تقاسمها. فسوريا المهشّمة والمدمرة على كل الصعد لا يمكنها فرض أي شرط من شروطها حتى لو تعلق بكيانها وسيادتها، وهي الآن تتأرجح بين مصالح الأطراف النافذة فيها، لأنها رهينة عجزها، ورهينة انتظار ما سيقرره الآخرون لها. والأمرُّ من كل هذا أنها رهينة حكم نظام يضع مصلحة أفراده فوق أي اعتبار آخر، بما فيها المصالح الاستراتيجية لسوريا.
على الأرض، تجري- وجرت سابقاً- تحركات كثيرة تثير التساؤل حول التغييرات الديمغرافية التي تشهدها المنطقة، وخصوصاً في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها. هذه التغيرات ستؤدي، في حال عدم عودة المهجرين إلى مناطق سكنهم الأصلية، وفي حال تم توطين اللاجئين في مناطق شتاتهم الحالية، واستمرار عمليات التهجير المتعمدة والتي تجري الآن بالقوة الغاشمة، إلى تغيير الحدود الجغرافية لدول المنطقة. بعبارة أخرى، ربما يُعاد رسم جغرافيا المنطقة على أسس جديدة يغلب عليها الطابع الديني أو الإثني، وهو ما تحاول إسرائيل تعميمه على كامل المنطقة.
إن موافقة أو استسلام النظام السوري لكل ما يُرتكب بحق سوريا من تغيير ديمغرافي ممنهج، سواء عبر التهجير الذي قام به أو عبر استقدام لاجئين من مناطق أخرى إليها، أو ما تقوم به إسرائيل في منطقة الجولان السوري، أو ما يرتكبه قادمون من لبنان ينتمون لجهة طائفية محددة بحق السوريين، هو طعنة بحق الدولة السورية والشعب السوري. وهذا ما يفرض على السوريين التنبه له، والتبصر في نتائجه ومخاطره، والعمل على منعه بكل الطرق الممكنة. لكن لا بد أولاً من تحميل النظام السوري ومؤسسات الدولة السورية المختصة مسؤوليتها الكاملة عما يجري بحق كل مرتكزات الدولة السورية.
تسبب حكم عائلة الأسد لسوريا لما يزيد عن نصف قرن بخرابها، ودفع السوريون ثمناً باهظاً لتحكم النظام الأسدي بسوريا كلها، أي بكل مفاصل الدولة والمجتمع. ورغم أن كثيرا من السوريين نبهوا سابقاً إلى خطورة هذا التحكم، وخطورة تغييب الدستور ومؤسسات الدولة الأهم كالقضاء والجيش، وتغييب الحياة السياسية، إلا أن الإمعان في تجاهل هذه الأخطار أوصل سوريا إلى حافة انهيار شامل قد يفضي إلى تقسيمها.
لم يتبق كثير من الوقت أمام السوريين لمحاولة إنقاذ سوريا، ولعل الخطوة الأهم اليوم هي فك الارتباط بين النظامين الإيراني والسوري، وظهور قيادة سورية تعمل على حماية المصالح الاستراتيجية للدولة السورية والشعب السوري. وإلا فإن سوريا ذاهبة إلى حرب لفك هذا الارتباط بالقوة.
* كاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا