الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أهيَ نكبةٌ ثانية تُحاك للسودان؟

جمال محمد إبراهيم *

                                                  (1)

يقال إنّ النار تستشري من أصغر الشرر… تواترت أنباء لا يعرف أحدٌ لها مصدراً تفشّت بسرعة كبيرة كما النار في الهشيم، بأنّ ثمّة صفقة يقول حائكوها إنّ إيقاف تدمير الجيش الإسرائيلي قطاع غزّة رهين بإخراج حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من القطاع، وأن يرحلوا بعيداً، ليس عن حدود إسرائيل فقط، بل أبعد من المعابر إلى الضفّة الغربية أو مصر، إلى منفى يأويهم في السودان.

حتّى إن كانت تلك أضغاث أحلام طافت برأس نتنياهو وأعوانه الأشرار في دولته اللقيطة، فإنّ المنطق السوي لا يسند طرحاً مثل هذا الطرح الفطير، الذي يتجاوز الجغرافيا السياسية، ويعبر إلى تخوم الجغرافيا الخيالية. غير أنّ في زمان الموجودات الافتراضية، والقدرات الشيطانية للذكاء الاصطناعي، فلنا أن نتوقّع جواز ما لا يجوز، واصطناع ما استبعد العقل البشري اصطناعه.

                                                (2)

سعى شارون، في الثمانينيّات، إلى أن يقنع رئيس السودان وقتذاك بأن يقبل ترحيل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى ملاذ آمن لهم في أرض إسرائيل، وللشيطان الإسرائيلي مآرب أخرى في مطلبه ذاك. للأسف! قَبِل الرئيس الرّاحل جعفر نميري تلك الصفقة، ونقل الآلاف من يهود الفلاشا إلى إسرائيل، في بيئة اجتماعية وسياسية لا قِبَل لهم بها، وقد أسفرت تلك الصفقة عن أوضاع مأساوية ليهود إثيوبيين سمر كثيرين، وآثر كثيرون منهم الهروب من واقع ملتبس تعسَّر عليهم الاندماج فيه، ولقوا من التمييز العنصري ما أشعرهم بالندم على الخروج من إثيوبيا ومساقط رؤوسهم فيها.

تلك مغامرة غير محسوبة العواقب، تعمّد مخطّطوها زرع مجموعة بشرية من أفريقيا في فضاء من فضاءات الشرق الأوسط، الذي تمور أطرافه بحروب وأزمات تجذّرت عميقاً في التاريخ، ورأينا تداعياتها تتعقّد في كلّ يوم وفي كلّ ليلة. فأي أبلهٍ يفكّر في تنفيذ تجربة عكسية، تنقل مجموعات من عرب فلسطين من الشرق الأوسط، إلى أصقاع أفريقيا؟

                                             (3)

تنطوي مثل هذه الأطروحات الخيالية على استسهال تداعيات وقائع الحرب الدائرة في السودان قبل أكثر من عام ونصف العام، وهي حرب تورّطتْ فيها أطراف سودانية تحارب بعضها بعضاً، كما استدعتْ تعقيداتها غرباء من وراء حدود السودان وصحاريه، كما جذبت طامعين آخرين، أبعد مسافة وأشدّ طمعاً وتطرّفاً. من تعقيدات تلك الحرب أنَّ تلك الأطراف السودانية المتحاربة بجيشها ومليشياتها، راهنت على إسنادٍ خارجي يأتيها من مثل أولئك الطامعين، ممّن لا يهمّهم استقرار بلاد السودانيين، بل بقي أول نظرهم مصوّباً نحو تحقيق أجنداتهم، وكأنّهم يستدعون روح الاستعمار الكولونيالي القديم وأساليبه. لقد استهدف الطامعون بلاداً كان الظنّ أنّ ما فوق أرضها وأنهارها، يمكّنها لتكون سلّة لغذاء الشرق الأوسط والقارّة الأفريقية، أو مِن ثراء مواردها تحت الأرض من ذهب ونفط ويورانيوم، ما قد يمكّنها من تمويل طفرتها الإنمائية، فترتقي إلى مصاف الأمم القيادية في القارّة.

                                             (4)

لكنَّ حرب السودان لم تعرف نهاية، وعجز مقاتلوها المُرهقون عن إيقاف دمار بلادهم، كما أعجز التصعيد كلَّ الوسطاء عن إحداث أي اختراق يوقف تلك الحرب. ومن السخريات، فإنّ بعض أطرافها من يريدها حربَ داحِس والغبراء قبل الإسلام، لتمتدّ، إنْ شاء مشعلوها، مائة عام، فإنّهم لن يوقفوها حتّى يتحقّق النصر. فأي نصرٍ يلوح وكلُّ الأطراف تلعق هزيمتها النكراء؟

من يمسك بإدارة الدولة، ويتحدّث باسمها وسيادتها، يتوق ليحصل على شرعية من المجتمع الدولي، تبيح له حكم السودان، والتحدَّث باسمه، وإبرام الاتفاقيات التي تعينه على السيطرة وإدارة مؤسّسات البلاد. أمّا الجنرال الذي يطمع في أن يتحقّق له ذلك، فأغرق نفسه وجيشه في مقاتلة مليشيات شارك في صنعها بيديه، هي الآن مسنودة بدعمٍ من وراء الحدود. أمّا إن يأس الجنرال من الحصول على ما أراد، فإنّه في لحظة الاستئناس تلك قد يُقدِم على مغامرة القبول بمثل تلك الصفقة المشبوهة، التي شاعت بعض تفاصيلها في أصقاع إعلامية بعيدة، فيما ظلّ المعنيون بأمرها على صمت وتجاهل مريب، وكأنّ الطرح المختلق لا يعنيهم في شيء.

                                         (5)

ولعلَّ مستصغر الشرر الذي أشرتُ إليه أول مقالي، قد يتحوّل ناراً حقيقية، إلّا إذا أفصح المعنيون أنّهم غير معنيين، أو يصرّح أحد شياطين إسرائيل بأنّ الأمر ليس من عندهم. لكن أن نسمع صوتاً من المقاومة الفلسطينية نفياً لذلك الطرح الخيالي، الذي يستهدف محو تفاصيل المظلمة الفلسطينية التاريخية بترحيل إرث نضالها ليدفن في مقبرة بعيدة من تراب السودان، فذلك ما يستوجب يقظة مطلوبة، وتنبّهاً حذراً من جماع السودانيين، كبارهم وغمارهم، من مثقّفيهم ونُخَبِهم السياسية، للتصدّي لقتل مثل هذه الشائعات في مهدها. وإن أشرنا هنا إلى أنّها محض شائعة، فإنّ من الحالمين (سودانيين وسواهم) من لا يزال يراها غير ذلك.

لعلّ الحرب التي تكاد أن تُفرّغ السودان من سكّانه، ستفتح شهية الحالمين، فيعملون لصناعة نكبة ثانية في بلاد السودان، تُماثل نكبة 1948.

* كاتب سوداني

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.