جمال الشوفي *
الرعب الذي يجتاح سكان مدينة بيروت، وما عاشته قبلها غزة منذ عام مضى، يعيد تكرار مجريات المدن السورية لأعوام طويلة، وإن اختلفت اليد التي ترتكب الجريمة في كل منها. الرعب الجاثم على صدور ناسها المغلوب على أمرهم تحمله آلة القتل والدمار وبالنتيجة التهجير وتغيير مستقبل قاطنيها. وكأن ملايين السوريين الذين هجروا من منازلهم وحواضرهم لم تكن كافية، لتتحدث الأرقام عن نزوح سكان الجنوب اللبناني وقبلهم سكان غزة! فلقد باتت مدن الشرق جميعها منكشفة على زمن من الرعب والدمار وربما تغيير مستقبلها السياسي قريباً!
فرغم تبدل أدوار اللاعبين وأنواع مشاريعهم وأهدافهم في المنطقة، فقد دُمرت ثماني مدن سورية على مرأى من العالم، وتم تهجير معظم سكانها على يد جيش نظامها وبدعم مطلق مما سمي زيفاً “محور المقاومة” متمثلاً بإيران وميليشياتها ومنهم حزب الله، وفوق الجميع روسيا الباحثة عن مجدها العالمي الجديد من البوابة السورية. وبالأمس القريب، وقبل عام من اليوم، دمرت مدينة غزة تحت الضربات الإسرائيلية، واليوم تتابع إلى بيروت، في حين أن المحور المزعوم الإيراني والسوري يقف سكاناً بلا حراك. وليس هذا فقط، بل أعلن ويعلن أن لا علاقة له بما جرى مع حماس ويجري مع حزب الله، وهي الأذرع التي طالما ادعى هذا المحور أنها أداته العضوية الفاعلة بدمار وإزالة إسرائيل.
اليوم ينكشف الشرق برمته على زمن من المتحولات التي قد تطول مستقبله وشكل تموضعه السياسي، لكنها يقيناً تظهر مدى الرعب والخوف الساكن في مدنه وحواضره مادام أسير سلطات القوة والعسكر. وسلطاته المحلية هذه هي الراعي الرسمي لتنفيذ المشاريع الإقليمية والدولية لإنهاء وتقويض مشروع دولته الوطنية، وكأن الكواكبي حاضر معنا حين قال قبل قرن من اليوم “الطغاة يجلبون الغزاة”.
الرعب بديل عن الدولة الوطنية:
مشروع الدولة الوطنية بما تتضمنه من مضامين عصرية حيث المواطنة والتغيير السياسي والديمقراطي والسلام والاستقرار واستعادة الشعب لقراره وسيادته، كان ومازال عنوان ثورات الربيع العربي، والذي لم يتم إنجاز أسسه السياسية والمعرفية بعد. وهو الموضوعة السياسية المعطلة في حل الدولتين في فلسطين، والفراغ السياسي في لبنان. وما هذا الرعب الذي تعيشه مدن الشرق إلا ضريبة سعيها لتحقيق دولتها الوطنية وبنائها ذاتياً بعيداً عن صراعات المحاور الإقليمية والدولية. فكانت المقاومة والممانعة لا تعني سوى منع قيام الدولة الوطنية في الشرق.
تباين وتغيير الأدوار على مساحة مدن الشرق واستهداف بناء مشاريعها الوطنية بموجات من الدمار والقتل والتهجير بدأ من دمشق التي كانت مركزه ومحوره الأساسي. فرغم أنه بدأ من بغداد عام 2003 على يد التحالف الدولي، لكنه كاد يقف عندها، لكن الثورة السورية عام 2011 أعادت العالم إلى شكل جديد في العلاقات والتحالفات الدولية، تذكّر بما كانت عليه مجريات وأحداث ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية. فقد بدا للعيان تكشف مسار التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، وما تلاه من تدخل عسكري روسي مباشر في سوريا، ما جعل نظام العولمة العالمي وعلى رأسه أميركا يعود للمنطقة بطريقة عسكرية جديدة، وذلك بعد أن أعلن أوباما انسحاب بلاده العسكري من العراق أواخر 2011، وعزوف بلاده عن تنفيذ القانون الدولي في فضيحة السلاح الكيماوي السوري أواخر 2013 على خلاف ما جرى بالعراق عام 2003! ويُذكر أن العام 2014 بدا صاخباً ومفصلياً في تبدل المعادلات الدولية واشتداد تنافسها البيني على دمشق في سوريا. فقد اتضحت مؤشرات عودة الصراع الجيوبولوتيكي لمركز الحدث العالمي، متمثلاً بالقوة الروسية الآخذة بالتزايد والتمدد، مترافقاً مع دور إيراني واضح تمدد داخل سوريا بالتعاون مع حزب الله وإعلانه مراراً سيطرته على قرار عواصم المنطقة في الشرق الأوسط. الأمر الذي أنبأ بعودة القوة العسكرية التقليدية للعب الدور الرئيسي في العلاقات العالمية، حسب وزارة الخارجية والبنتاغون الأميركي حينها. والسؤال الذي يطرح نفسه: ألم يكن من الأفضل لدول العالم وقف مد هذا التغول الجيوبولتيكي فيما لو توقفت تلك المعادلات على بوابة دمشق وأُحدث فيها التغيير السياسي بإزالة السبب الذي استقدم كل مسببات العنف هذه؟ ويبدو أنه سؤال الأماني الذي لا تتقبله لغة المصالح الدولية وأدوارها وطريقة إدارتها.
الشرق المنكوب لليوم لا بنكبة 1948 وفقط، بل بكل صنوف النكبة في الفكر والمعرفة والسياسة، الشرق المنتكس لليوم لا بنكسة 1967 وحسب، بل بسلسلة من الهزائم المجتمعية المتتالية وإصابته بالتشتت الوجداني والشعوري وتمزقه البنيوي وتغيير بناه السكانية ديمغرافياً. فلقد فضح دمار المدن السورية بداية على يد ما سمي محور الممانعة والمقاومة ورمي إسرائيل بالبحر، مدى الدور الوظيفي لنظم وسلطات العسكر الأيديولوجي سياسياً ودينياً والمتمثل بنظامي دمشق المتلظي بالبعث عقائدياً ونظام طهران المختبئ تحت عمامة التشييع، دورهم التخريبي الفاضح في هدم مشروع الدول الوطنية في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين. هي سلطات الرعب القائمة على:
-). استثمار الشعور الجمعي للشعوب بحجة المقاومة وتحرير الجولان والقدس.
-). تكريس الاقتصاد الوطني لبناء ترسانة عسكرية تستخدمها لقمع وترهيب شعبها.
-). استباحة مؤسسات الدولة وتحويلها لمؤسسات أمنية تخدم توجهاتها المفرطة بالتغول على المجتمع.
-). لم يكن قمع الحريات والتنكيل بأي فكر أو عمل سياسي معارض لها عملاً كافياً، بل توجيه تهم العمالة للخارج وخاصة الإمبريالية والصهيونية لحامليها، في حين هي ذات السلطات تقوم بدورها الخدمي بالاستفادة الاستعمالية من الأدوار العالمية في إدارة شؤون المنطقة والمساهمة الفاعلة في تفتيت مقومات مشاريعها الوطنية.
انكشاف الرعب:
يقول فرانكو موريتي في ديالكتيك الخوف: “هي إنذار بنهاية ثقافة القرن التاسع عشر الثقافية، فلم تكن ولادة أدب الرعب إلا من رعب مجتمع منقسم، ومن الرغبة في مداواته على وجه التحديد، وهذا هو السبب في أن كل من “دراكولا” و”فرانكنشتين” لا يظهران معاً، إلا في حالات استثنائية ونادرة، وإلا لبلغ التهديد والرعب حداً رهيباً”. فإذا كانت عودة روسيا البوتينية لموقع الصراع العالمي المباشر، في ظل هيمنة عالمية أحادية القطب وظهورها المجاور لنظام العولمة الاحتكاري في زمن الثورة السورية وما تلاه في أوكرانيا، أعاد تكثيف زمن الرعب العالمي، فإن انكشاف الشرق ومدنه المدمرة واحدة تلو الأخرى، يستدعي الحذر من إنذاراتها فائقة الخطر من حيث تمددها وتوسعها لحرب إقليمية واسعة تأتي على ما تبقى من مدن المنطقة.
وما أشبه اليوم بالأمس، فذات المشاريع الساعية للهيمنة المطلقة والمبنية على أساس الأيديولوجيات الشمولية والتي أدت لحربين عالميتين كارثيتين، يشابهها ذات المحتوى الشمولي واحتمال تصادم المشاريع الكبرى إقليمياً ودولياً. وهذه الأيديولوجيات الدموية سواء كانت إيرانية أو إسرائيلية أو معولمة روسياً وأميركياً باتت إنذاراتها واضحة تهدد بحرب عالمية ثالثة إن لم تكن بدأت بالفعل. ما ينذر بتكريس ثقافة الرعب من جديد، وما على الشعوب سوى مقاومتها الفعلية بثقافة الحرية والسلام ونبذ الحروب وألا تكون جزءاً منها حتى وإن دارت رحاها مجدداً على أرضها والإصرار على تغيير سلطاتها القمعية العسكرية أس بلواها. فالغزاة راحلون في حين تبقى الأرض لساكنيها، وهنا المعادلة المختلفة.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: تلفزيون سوريا