الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

اقتربت المسرحيّة من فصلها الأخير

سهيل كيوان *

أتفه تصريح ممكن أن تسمعه من مسؤول عرَبيٍ في هذه الأيام، هو المطالبة بتطبيق حلِّ الدّولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967. فما يجري هو توجيه أوامر لمئات آلاف النازحين بالانتقال من مكان إلى آخر كلّ بضعة أسابيع أو أيام، ثم ملاحقتهم وإبادتهم في مجازر مذهلة في وحشيتها. الردّ على الإبادة بالدعوة إلى حلّ الدولتين! يشبه من يرى بيت جاره مشتعلاً وتلتهمه النيران ومن فيه يصرخون طالبين النّجدة، فيردُّ عليهم بمؤتمر صحافي يعلن فيه أنّه يبذل الجهود كافة لدى صندوق النقد الدولي لمنحه قرضاً لاقتناء سيارة إطفاء وتدريب دفعة من الرجال، كي يتاح لهم إطفاء الحريق ومنع امتداده إلى المنازل الأخرى.

الإسرائيلي المتعطش للانتقام، الذي ينسف مئات المساجد والمؤسسات العامة والمستشفيات، ويعدم الطواقم الطبية، ويمنع طواقم الإنقاذ من أداء عملها ويقصفها، ويلقي أطنانا من المتفجرات على المدنيين، ثم يرقص ويغني قبالة المشهد، بدعم أمريكي، تطالبه الآن بقبول حلّ الدولتين، إسرائيل وإلى جانبها فلسطين وعاصمتها القدس الشّرقية، يا سلام على التأكيد بأنَّ عاصمتها القدس الشّرقية.

إنه محض هراء، بهدف الظهور بمظهر الحريص على السّلام والعدل، في الوقت الذي لا يفعلون فيه شيئاً حقيقياً، ولو في الحد الأدنى لوقف الإبادة، بل بعضهم يقمع من يتظاهرون لأجل غزّة «حفظاً على الأمن القومي» ثم يصرّح التصريح التافه إيّاه. إن نظرة واحدة من الإسرائيلي إلى ردة فعل الأنظمة العربية على الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها شعبٌ شقيق أمام أعين العالم وفي البثّ المباشر، تجعله يزداد غروراً وعدوانية وتعطّشاً للانتقام. يحلم نتنياهو وفريقه الآن في توجيه ضربة قاصمة لإيران، ومن ثم انتظار الرّد الإيراني، الذي سيأتي حتماً مهما كانت ضربة إسرائيل قوية ومتّسعة وشاملة وعميقة فوق الأرض وتحتها. حينئذ تتدخّل أمريكا، رغم نصائحها وتحفّظاتها على نوعية الضّربة وأهدافها. هناك خلافات أمريكية إسرائيلية، ليس على المبدأ، بل على التّفاصيل، ولكن في كل الحالات، فإنّ أمريكا لن تقف متفرّجة على مواجهة إسرائيلية- إيرانية، فهي ستنضم إلى الحرب ضد إيران منذ لحظتها الأولى، بدعوة لائقة من نتنياهو أو من غير دعوة، وذلك بصفتها الأب الحنون، في نهاية الحرب ممكن معاتبة إسرائيل من موقع الأب، وينتهي سوء التفاهم. نتنياهو يريدها حرباً شاملة مع إيران، حتى لو دعت إيران إلى وقف الضربات المتبادلة، سيقول إنّ هذا صار متأخراً، كما يتعامل مع الحالة في قطاع غزة وفي لبنان. لكن هل يمكن لإسرائيل أن تتعامل مع دولة بحجم إيران مساحةً وأعداداً بشرية وتسلّحاً ومصادر طاقة، كما تتعامل مع قطاع غزة والضّاحية في بيروت! هذه هي نقطة الخلاف الأساسية بين نتنياهو والأمريكيين. وزير دفاعه يوآف غالانت يرى الأمور من وجهة نظر عسكرية غير ما يراها نتنياهو، ولهذا أمَره نتنياهو بعدم تلبية دعوة أمريكية للقاء مسؤولي إدارتها العسكرية والسياسية، قبل أن يُجري اتصالا مع بايدن الذي يدّعي أنّه محبط من تصرفات نتنياهو، ولم يرد على محاولة نتنياهو الاتصال به في الأيام الأخيرة، لانشغاله في عاصفة «ميلتون»، التي أدّت إلى نزوح ملايين الأمريكيين.

وزير الحرب غالانت، يريد أن يحترم هذه الإدارة التي لم تقصّر أبداً، فالتنسيق مع أمريكا هو الضمانة لتنفيذ ضربة ناجحة، ولحماية إسرائيل من ردّة الفعل الإيرانية، التي قد تكون أكبر من التوقّعات على مراكز عسكرية واقتصادية، وقد أثبت الإيرانيون أنّهم لا يمثلون مسرحية، كما تزعم أبواق الإعلام التي تتفنن في خدمة أجهزة المخابرات العربية والدولية بمختلف أنواعها ومصادرها. بقدرة الإيرانيين توجيه ضربات خطيرة وقاسية إلى درجة ينوء بحملها الإسرائيليون، الذين يدركون بعد التّجربة الأخيرة، أنّهم لولا الرّعاية الأمريكية، لما كان وضع مدنهم أفضل من وضع الضاحية في بيروت، ويكفي برهانا لهذا، أنّه بعد عام من حرب للقضاء على حماس، ما زالت الصواريخ تسقط في تل أبيب ومحيطها قادمة من قطاع غزّة. إيران نجحت في ضربتها الأخيرة، رغم علم إسرائيل المسبق باثنتي عشرة ساعة واستعدادها، ورغم مساهمة الدّفاعات الأمريكية، ورغم زعم الأردن بـ«عدم السّماح لأيٍّ كان باستباحة مجاله الجوي»، إلا أنّها وصلت أهدافها بالبثّ المباشر الذي لا يمكن إنكاره.

نتنياهو يريد الضّربة على مقاس تصوّره، بأن يرى النيران تصل السّحاب من مخازن الوقود ومحطات الكهرباء والمواقع النووية الإيرانية، وأن يضع أمريكا أمام مسؤوليتها التقليدية في حماية إسرائيل، فإذا تدخلت مباشرة، انتصر هو وعصابته وحقّق ما يحلم به، لأنّ مواجهة كهذه مهما كلّفت، هي في النهاية نصرٌ لإسرائيل، وسوف يمضي للمطالبة بتفكيك قدرات إيران العسكرية النووية والصاروخية، ويحلم أكثر، بأنّ يرى الشّعب الإيراني متوجّها بمئات الآلاف إلى البرلمان الإيراني لإحراقه، وإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، ومن ثم البدء في تنفيذ مخطط الشّرق الأوسط الجديد، من غير تهديد من غزّة أو لبنان أو إيران أو الحوثيين.

بقي للانتخابات الأمريكية أقل شهر، وممكن مدّ حبل انتظار الرّد بضعة أيام أخرى، وهذا يعني دخول أمريكا الحرب إلى جانب إسرائيل بصورة كاملة، أو إسقاط كاميلا هاريس أمام دونالد ترامب، الذي يعتبره نتنياهو مُخلصاً أكثر من جو بايدن، الذي لديه بعض الملاحظات على إبادة المدنيين مثلا، وما زال يصف الفلسطينيين بأنّهم بشرٌ، ولم يعترف حتى هذه اللحظة بأنّهم حيوانات يجب إبادتهم. نتنياهو يراها فرصته لتنصيبه زعيماً بلا منافس على المنطقة، يفصّل ما يشاء ويقرّر ما يشاء، فمن سيجرؤ على تحدّيه، أو رفض مخطّطاته، بعد التخلّص من حماس وحزب الله وإيران! بل من سيجرؤ على محاكمته في الجنائية الدولية! ستكون المنافسة في المنطقة على من يحظى بلفتة كريمة من الزّعيم، ومن سيجرؤ بعدها أن يأتي على سيرة الدولتين، بله و«القدس الشّرقية عاصمة فلسطين»!

دأب إعلاميون كثيرون من العرب في الحديث عن مسرحيات بين إيران وإسرائيل، وأقنعوا ملايين الناس بهذا، وراج موضوع المسرحيات منذ قيل إن الرّبيع العربي مسرحية من إنتاج صهيوني- أمريكي، حتى إن البعض روّج بأنّ تحطيم فرقة غزّة في السّابع من أكتوبر الماضي، لم يكن سوى مسرحية مدبّرة من أيدٍ وَجّهَت حماس لشنّ هذا الهجوم، لتبرير تهجير وإبادة الفلسطينيين.

هل اقتربت المسرحية من فصلها الأخير، هل سيحترق المسرح مع الممثلين والكومبارس والمخرج والمنتج ومصمم المكياج والإكسسوار والملابس والجمهور هذه المرة، استعداداً لتحقيق نبوءة إسرائيل الكبرى!

ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا / ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد.

* كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.