الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الجيش في الانتخابات الأمريكية

بشير عبدالفتاح *

في تجاوب صارم مع مخاوف مؤسسي النموذج الديمقراطي الأمريكي، من تدخل الجيش في الحياة السياسية، أوصد الدستور شتى المسالك، التي تُمكَن العسكريين غير المنتخبين من اقتناص سدة السلطة، أو التسلل إلى أروقة الحكم. فعبر نصوص بالغة الدقة والوضوح، حدد مسؤوليات الرئيس المنتخب، وجعل منصب وزير الدفاع مدنيًا، كما جرد رئيس الأركان من أي سلطات سياسية، وخوّل الرئيس إقالته بأيسر الإجراءات. وبينما نأى الدستور بالجيش عن تفاصيل عملية الانتقال السياسي، أناط بالقانون والقضاء، مهمة تسوية أي خلاف بشأن نتائج الانتخابات.

أباح الدستور للعسكريين ولوج المجال السياسي من أبوابه الشرعية. فبينما كفل لهم حق التصويت في الانتخابات، خولهم القسم 903(أ) من قانون تفويض الدفاع الوطني، المنافسة على المقاعد النيابية والمناصب التنفيذية، بعد سبع سنوات من التقاعد. ومن ثم غدا “جورج واشنطن”، قائد حرب التحرير ضد القوات البريطانية، أول رئيس للبلاد. فيما سعى الجنرال، ليونارد وود، إلى الفوز بترشيح الحزب الجمهوري لرئاسيات عام 1920، ومثَل الجنرال وينفيلد سكوت، الحزب اليميني في ذات الماراثون. وعقب بلائه الحسن إبان الحرب العالمية الثانية، حظى الجنرال دوايت إيزنهاور، بترشيح الحزب الجمهوري لخوض السباق الرئاسي، حتى أضحى الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة. وبعدما شارك في الحرب الكورية، انتخب جيمي كارتر، لاحقًا، حاكمًا لولاية جورجيا، قبل أن يصبح الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة، عام 1977. أما جورج بوش الأب، فقد انتخب نائبًا بمجلس النواب عن ولاية تكساس، بعد مشاركته في الحرب العالمية الثانية، وقبل أن يمسي الرئيس الثالث والأربعين للبلاد سنة 1981.

منذ تأسيسه عام 1775، ظل الجيش ملتزمًا بمهامه الدستورية، متجنبًا التجاذبات السياسية. وفي هذا، يقول المتحدث باسم «البنتاجون»، جوناثان هوفمان: «لدينا دستور، أقسم عليه أفراد الجيش، لا يسمح له بأن يكون حكمًا في النزاعات السياسية أو الانتخابية. أما كوري شاك، مدير برنامج السياسة الخارجية والدفاعية بمعهد أمريكان إنتربرايز، فيقول: «الجيش هو المؤسسة الأكثر ثقة لدى الأمريكيين. فعندما يرتبك الناس وقت الأزمات، يثقون أنه سيفعل الشيء الصحيح، القانوني، والدستوري. حتى وإن اضطر، أحيانًا، إلى تبني إجراءات وتدابير، ربما تبدو استثنائية بالنسبة للديمقراطية الأمريكية.

لم يتورع ترامب، عن تسييس الجيش، من خلال الإشارة إلى القيادات العسكرية بوصف جنرالاتي، واستدعاء القوات المسلحة لأداء مهام داخلية مثيرة للجدل، مثل احتواء الاحتجاجات والاضطرابات المدنية المترتبة عن مقتل المواطن الأسود، جورج فلويد، على يد شرطي، فى أيار/ مايو 2020. الأمر، الذى اعتبره خبراء ومسؤولون عسكريون سابقون، انتهاكًا للتوازن الحساس والراسخ في العلاقات المدنية- العسكرية. وعلى إثرها، تعرض الجنرال مايكل ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، لانتقادات، جراء ظهوره رفقة، ترامب، في جولة ميدانية بساحة «لافاييت». وعلى الفور، استفاق ميلي، واعترف بالخطأ، الذي ارتآه كثيرون، إيذانًا بانخراط الجيش في السياسة.

بعد أيام على حادثة اقتحام أنصار ترامب، مبنى الكابيتول في السادس من كانون الثاني/ يناير2021، لتعطيل تصديق الكونجرس على نتائج انتخابات 2020، أصدرت هيئة الأركان المشتركة بيانًا، وقع عليه رئيس الأركان وقادة الأفرع الرئيسة للقوات المسلحة؛ يؤكد فوز بايدن، بالرئاسة بعد إقرار المجمع الانتخابي، وتصديق الكونجرس. ويشدد على طاعة الجيش الأوامر القانونية للرئيس المنتخب، الذي بات القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورغم أن الجيش لم يشارك قط في تسوية الخلافات الانتخابية، عاون الحرس الوطنى، وكالات إنفاذ القانون لتأمين حفل تنصيب، بايدن.

وفي الإطار ذاته، أصدر عشرة وزراء دفاع سابقون، ينتمون إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بيانًا حذروا فيه من أي تدخل للجيش في العملية السياسية. مؤكدين التزامه الرسمي بقسمه حيال نصرة الدستور، والدفاع عنه ضد جميع الأعداء، في الداخل والخارج، وليس لشخص بذاته أو حزب بعينه. وتوسلاً منه لتجنب ملابسات انتخابات 2020، وما تبعها من اضطرابات استدرجت الجيش إلى غياهب السياسة، أكد الجنرال ميلي، لأعضاء الكونجرس، مؤخرًا، تمسكه بمبدأ الجيش الأمريكي غير السياسي. مستبعدًا أي دور للقوات المسلحة خلال الانتخابات المنتظرة أو تسوية النزاعات المتعلقة بنتائجها.

سلطت صحيفة بوليتيكو الأمريكية، الضوء على التأثير الممتد لعلاقة المرشحين الرئاسيين بالمؤسسة العسكرية، في الفعاليات الانتخابية. ففي عام 1992، اتهم، جورج بوش الأب، خصمه، بيل كلينتون، بالتهرب من الخدمة العسكرية. وسنة 1988، انتقد، مايكل دوكاكيس، حاكم ماساشوستس الأسبق، بوش، بجريرة قضية إيران كونترا، وترتيب جلسة تصوير داخل دبابة لاستثمار مشاركته في الحرب العالمية الثانية، لتعزيز موقفه الانتخابي التنافسي. وإبان الحملة الرئاسية لعام 2004، تم التشكيك في أداء المرشح، جورج بوش الابن، الخدمة العسكرية؛ كما شكك كريس لاسيفيتا، الذي يعمل مستشارًا لحملة ترامب، الحالية، في سجل، جون كيري، العسكري. ورغم أن المرشحين للرئاسيات المرتقبة لم يخدما في الجيش، شكل هذا الأمر أحد أسلحة معركتهما الانتخابية. فقد سعت حملة ترامب، إلى تقويض السجل الخدمي لمرشح، هاريس، لمنصب نائب الرئيس تيم والز، الذي قضى 24 عامًا في الحرس الوطنى، قبل أن يتقاعد ويترشح للكونجرس. فيما اعتبره مرشح، ترامب، لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، نموذجًا لـ«الشجاعة المسروقة».

تزلفاً منه للعسكريين ومريديهم، عبر استخدام المحاربين القدامى أداة سياسية خلال الماراثون الرئاسي الحالي. قام، ترامب، نهاية آب/ أغسطس الماضي، بزيارة إلى مقبرة أرلينجتون الوطنية، رفقة عائلات بعض الجنود الـ13، الذين قضوا إثر تفجير هز كابول، قبيل ساعات من مغادرة القوات الأمريكية أفغانستان، عام 2021. ففي ظاهره، لاح الأمر مشاركة بحفل التأبين، وإحياءً للذكرى الثالثة للمأساة. أما باطنه فطوى مسعى لإبراز ثغرة بسجل منافسته الديمقراطية، بوصفها نائبة للرئيس، الذي وقعت الحادثة في عهده. وقد بثت حملة، ترامب، فيديو لبايدن، قبل تنحيه عن تمثيل الديمقراطيين بالانتخابات المزمعة، وهو يتفحص ساعته أثناء حفل تأبين أولئك الجنود، وكأنه يستثقل المهمة. الأمر، الذي دفع بعض أسر الضحايا المشاركين بالمؤتمر العام الأخير للحزب الجمهوري، إلى انتقاده، ومطالبته بالارتقاء إلى مستوى المناسبات والفعاليات الوطنية.

ارتدت، سلبًا، زيارة ترامب، للمقبرة، الأكثر أهمية لضحايا الحروب الأمريكيين .فلقد انتقد الجيش مرافقيه، إثر دفعهم موظفة بالمقبرة، حينما طالبتهم الامتثال للقوانين الفيدرالية، لوائح الجيش وسياسات وزارة الدفاع، التي تحظر الأنشطة السياسية بالمقبرة. وفي محاولة لقلب الطاولة عليه، اعتبر المتحدث باسم حملة، هاريس، الحادثة مُحزنة للغاية، إذ أظهرت عدم احترام، ترامب، الجيش وتضحيات جنوده. مؤكدًا تعهد المرشحة الديمقراطية، الوفاء بالتزام مقدس لرعاية وتكريم الجيش، دونما استخفاف بخدمات جنوده وتضحياتهم .كذلك، اعتبر الديمقراطيون الحادثة، دليلًا جديدًا على ارتباك علاقة، ترامب، بالجيش. فلم يتوان عن وصف محاربيه القدامى بـ«الحمقى والخاسرين»؛ كما زعم أن السيناتور جون ماكين، ليس بطل حرب، لأنه وقع في الأسر. وعقب الزيارة، كالت جماعات المحاربين القدامى، انتقادات لاذعة لترامب، جراء قوله: «إن أعلى وسام مدني في البلاد أفضل بكثير من أعلى وسام عسكري. لأن أفراد الخدمة، الذين يتلقون الأخير، إما في حالة سيئة للغاية، أو ضمن قوائم الموتى».

مع اقتراب موعد الاقتراع الرئاسي، تتوالى المؤشرات على حضور الجيش في المشهد الانتخابي الأمريكي. فنظريًا، اقترح خبراء أن يغدو تأكيد الولاء للجيش واحترامه، شرطًا لخوض السباق الرئاسي. وبينما أشار النائب الديمقراطي جيك أوكينكلوس، إلى ما يراه غريزة سياسية تحض على احترام الجيش، باعتباره أساسًا أخلاقيًا ملزمًا. طالب البروفيسير بيترفيفر، المساعد السابق لمجلس الأمن القومي، بضرورة اجتياز الرؤساء اختبار القائد الأعلى، وتلبية حد أدنى من الشروط، التي تمكنهم من الثقة في ذلك المنصب، كما في الترسانة النووية، مع احترام أدوار المجندين من الرجال والنساء. أما عمليًا فيبدو أن محاولة اغتيال ترامب، في تموز/ يوليو الماضي، قد فرضت معطيات جديدة. حيث أعلن «البنتاجون» تلبية الجيش مطلب الوزارة المسؤولة عن جهاز الخدمة السرية، المنوط به حماية الشخصيات السياسية البارزة. ومن ثم سيشارك في توفير حماية إضافية للمرشحين الرئاسيين، أثناء الحملات الدعائية، وإبان التصويت في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وربما حفل تنصيب الرئيس السابع والأربعين، مطلع العام المقبل.

* كاتب أكاديمي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.