عاطف معتمد *
ما زلنا لا نعرف عن بلادنا سوى القليل، وكما قال بعض الجغرافيين الاستعماريين في مطلع القرن العشرين- ونقل عنهم “جمال حمدان” بعد نصف قرن- فإن المصريين هم أجهل الناس بجغرافية بلادهم.
وتتبدى معالم تقصيرنا في معرفة جغرافية بلادنا في ترديد عبارات محفوظة من «الصور النمطية» أو الصور المقولبة التي نستدعيها عندما نذكر اسم بلدة أو قرية أو رقعة صحراوية.
انظر مثلًاً إلى الإسكندرية، وحاول أن تستدعي الصورة النمطية التي تعرفها عنها والتي لا تخرج غالبًا عن أربعة مسميات:
أولًا؛ إسكندرية الشاطئ السياحي الذي أصبح سلسلة من الحواجز الخرسانية التي قامت عليها مقاهٍ بمسميات غربية وأسعار مرتفعة. ويأتي ذلك في الوقت التي تنكمش لدرجة الاختفاء وظيفة الإسكندرية السياحية كمصيف أو منتجع، لصالح التزحزح غربًا إلى قرى الساحل الشمالي الغربي الأكثر كلفة والمغلق على أصحابه حصري دون مشاركة من عموم المصريين.
ثانيًا؛ الإسكندرية الكوزمبوليتانية أو «المعولمة»، وهي تسمية مبالغ فيها لكنها تستدعي الحنين إلى الماضي الملكي والاستعماري، وهذه لا يكاد يعرفها أحد اليوم. فقد كانت الإسكندرية وطنًا للخبراء والمستشارين والمغامرين والشطار من كل دول العالم، وكانت أيضًا ملاذ اللاجئين والمهاجرين من حوض البحر المتوسط (يونان وإيطاليين) كما عرفت بأنها مكان محبوب لليهود، استغلالًا لشخصية المدينة التجارية المنفتحة منذ قرون، وكانت في فترة من الفترات أيضًا ملجأ للمهاجرين الروس بعد الثورة الشيوعية. وهذه الإسكندرية تجدها في بقاع محدودة للغاية أشهرها في حي المنشية ومحطة الرمل وشارع النبي دانيال وكوم الدكة. وما تزال بعض الأسماء الأجنبية لا يعرفها حتى سكانها. فحي المنشية لا علاقة له بالاسم العربي «المنشية» الذي يزعمون أنه مستمد من الكلمة العربية «منشأة» بل هو منسوب لاسم المعماري الإيطالي الذي استقدمته الجالية الإيطالية في نهاية القرن 19 لتشييد هذه العمائر المتناسقة المتجانسة غير بعيد عن البحر، والتي أقام في وسطها الخديو إسماعيل تمثالًا هو الأول والوحيد من نوعه في زمانه لمحمد على باشا ممتطيًا جواده في صورة الغازي أو الفاتح الكبير.
ثالثًا؛ الإسكندرية شرق، وهي المنطقة التي كانت منعزلة لا عمران فيها، واتخذتها الأسرة الملكية في مطلع القرن العشرين مكانًا قصيًا أقامت فيه «المنتزه» للأسرة المالكة، وحوله في المناطق الزراعية حصل الأمراء على إقطاعاتهم، ومن أشهرها أراضي الأمير عمر طوسون.
رابعًا؛ إسكندرية الظهير الخلفي، وطن المهاجرين من البحيرة والصعيد والقاهرة والدلتا، وهؤلاء شغلوا المناطق الخلفية أو «ظهير الإسكندرية» وأقاموا عمائر سكنية لا تختلف عن الأحياء التي جاءوا منها: متلاصقة ومتطاولة ومكدسة. لا تحمل من رائحة البحر شيئًا بقدر ما تحمل رائحة الدلتا والصعيد.
خامسًا؛ الإسكندرية غرب، وهي أكثر «السكندريات» المجهولة لنا. تضم «الإسكندرية غرب» خليطًا مربكًا ومزدحمًا لأنشطة اقتصادية متنوعة وربما متنافرة: الحجر الصحي القديم، أعمال الميناء الهامشية الخلفية، ورش الصناعة البحرية، إعادة تدوير الخردة، واردات رخيصة من أخشاب وحديد تنتظر إعادة التدوير في السوق المحلية، مستنقعات بحيرة مريوط.
اللون الغالب هنا ليس الأزرق اللازوردي ولا الأخضر اليانع بل الرمادي والأسود من عوادم الصناعة والأبنية الآيلة للسقوط وغبار الطرقات غير المعبدة والمهملة. الضوضاء هنا أيضًا أعلى من نظيرتها في بقية السكندريات الأخرى.
وكما هو متوقع نشأت هنا أحياء سكنية لعمال الصناعة والحرفيين وغيرهم من الوافدين للعمل في «ظهر المدينة الغربي» وخدمات الميناء.
ولعل أهم ما يميز الإسكندرية غرب هو وقوعها على أطراف الصحراء الغربية القريبة من سكن قبائل أولاد علي، ومن ثم نجد مؤثرًا ديموغرافيًا واضحًا في أسماء الأماكن، مثل الحي الذي نشأ على مستنقعات بحيرة مريوط ويعرف باسم «نجع العرب».
تضم كتب الرحلات القديمة ما يدل على أن هذه المنطقة كانت مسكنًا لجماعة انقرضت اليوم من النسيج المصري، وهم «الغجر» الذين كانوا يقيمون خيامهم هنا على هامش المدينة.
ورغم أن في هذا النسيج العمراني أحياء محتفظة بشخصيتها وقدر من النظافة والنظام مثل «القباري» فإن أحياء أخرى بالغة السوء والتردي ولا تختلف عن المناطق المتدهورة في القاهرة، كما في تل العقارب في القاهرة مثلًا.
ومن أهم معالم الإسكندرية غرب ميناء الدخيلة، وهو ميناء مساعد تكميلي لميناء الإسكندرية متخصص في استقبال حاويات صادرات النوع الثقيل. والاسم التاريخي لهذه المنطقة «قلعة المرابط». وكانت في الأصل جزيرة ثم التحمت صناعيًا بخط الساحل في ميناء الدخيلة وكلمة «مرابط»، كما هو معلوم تتعلق بالحماية والحراسة من المسميات العربية القديمة. وتضم منطقة الدخيلة بعض قلاع حراسة تعود إلى فترات تاريخية متعاقبة، وأشهرها من عهد سلاطين المماليك قبل أكثر من خمسة قرون، وكانت لبعض هذه القلاع أهمية استراتيجية حتى عهد الحملة الفرنسية التي دخل الإسكندرية من جهة الغرب.
كانت قلاع الإسكندرية والدخيلة تستخدم كمراصد ومراقبة للعدوان الذي كانت تشنه على مصر القوى الاستعمارية، وآخرها قوات الاحتلال البريطاني التي أطاحت بقوات عرابي في عام 1882. وكان ساحل المتوسط على دلتا النيل والإسكندرية مرصع بنقاط الحراسة من طوابي وقلاع لمواجهة العدوان منذ الحملات الصليبية. وقد تعرضت طابية الدخيلة مؤخرًا لخطر الإزالة والهدم جراء عمليات تطوير ميناء الدخيلة وربطه بالإسكندرية غرب.
وفي السنوات الأخيرة أقامت الدولة مجموعة من العمارات الجديدة ذات لون واحد ونسيج واحد وأطلقت عليها مسمى «بشائر الخير»، وبالطبع يحظى المشروع بترحيب مستحق من المؤيدين لجهود النهوض بحياة كريمة، ولا يخلو بالطبع من انتقادات من يفسرون الأمر ضمن نظرية تسليع الأراضي وانتزاعها لإقامة مشروعات استثمارية عليها.
عبر السنوات الثلاث الماضية قمت بجولات ميدانية متفرقة سيرًا على الأقدام في المناطق التي ذكرتها عن الإسكندرية غرب، ومن بينها التنمية العمرانية الجديدة في «بشائر الخير»، والتي أقيمت محل الأبنية القديمة المتدهورة وفي موقع جغرافي بالغ الكثافة المعلوماتية يقف غير بعيد عن المنطقة الأثرية المعروفة باسم «كتاكومب»، ومستودع السكك الحديدية التاريخية، وبحيرة مريوط، والطريق الدولي المتجه إلى الكيلو 21 ومن خلفه الساحل الشمالي.
في خرائط مطلع القرن العشرين كانت المنطقة تعرف على الخرائط باسم «المكس» أي نهاية المعمور الاقتصادي، حيث يتم جمع الضرائب (المكوس) من هنا للوافدين من الغرب إلى الإسكندرية.
الإسكندرية غرب منطقة مميزة وغنية بالمعلومات والتاريخ والجغرافيا، برغم أنها أقل شهرة من السكندريات الأربع الشائعة في الصورة النمطية عن «عروس المتوسط».
«عروس المتوسط» مسمى محل جدال، فقد ارتكنا إليه حد التقديس، كما ارتكنا إلى «عبقرية مصر»، وأصابنا من جراء هذا قدر مؤسف من الخمول والكسل، ونحن أحق بالنشاط والعمل والهمة من أي وقت مضى.
البعض اليوم لا يرى في الإسكندرية عروسًا بل امرأة مجهدة غير قادرة على التحمل، وقد مات عنها عائلها ورحل عنها أحباؤها وتعاني الفوضى والزحام من كل حدب وصوب، لا سيما في موسم الصيف الذي كانت تبدو فيه حقًا قبل عقود قريبة «عروس البحر المتوسط».
* كاتب وباحث أكاديمي مصري
المصدر: الشروق