ماجد كيالي *
أكثر شيء انكسر مع “حزب الله” هو الأوهام التي أشاعها.. طوال عقدين، بنى “حزب الله” أسطورته على إدراكات خاطئة ومنفصمة عن الواقع وموازين القوى والمعطيات المحيطة، مفادها أن إسرائيل “أوهن من بيت العنكبوت”، وأنها في طور الانهيار وأن قوى المقاومة يمكن أن تهزمها وأن تزلزل الأرض تحتها، في غضون ساعات أو أيام. بيد أن إسرائيل، كما شهدنا، هي التي زلزلت الأرض تحت “حزب الله”، وهزّت أساطيره، بغضون أيام، خاصة في الحدث الكبير المفاجئ وغير المسبوق، بتفجير شبكات اتصاله (17 أيلول/ سبتمبر) واغتيال أمينه العام (27 أيلول/ سبتمبر)، وتصفية معظم قادته العسكريين في تلك الفترة.
في الواقع، لم تتجبّر إسرائيل في تاريخها بقدر تجبّرها في العام الماضي، ما تمثل في حرب الإبادة الجماعية التي شنّتها ضد فلسطينيي غزة واستهدافها للبنان وسوريا واليمن، ومظاهر النفوذ الإيراني في المنطقة، والذي بيّن لامبالاتها بما يسمى “قواعد اشتباك” أو بأسراها في غزة. كما ولا بطول أمد المعركة، وخسائرها البشرية والمادية، وكل ذلك لتحقيق أهدافها في ترويع وإخضاع الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وتعزيز مكانتها كدولة رادعة ومقررة في هندسة الشرق الأوسط، وإنهاء ما تعتبره أخطارا تهدد وجودها.
أيضا فإن أسطورة “وحدة الساحات”، لقوى “المقاومة والممانعة”، انكشفت عن وهم كبير، لاهتزاز صدقيتها، ووهن قدراتها. فإيران، نأت بنفسها عمليا، عن حرب إسرائيل في غزة، وفي لبنان، إضافة إلى ترددها، وتدني ردود فعلها على استهداف إسرائيل لها (في أبريل/نيسان الماضي وفي أكتوبر/تشرين الأول قبل أيام)، وإعلامها الولايات المتحدة بذلك بشكل مسبق. وهذا ينطبق على النظام السوري، الذي وضع نفسه سلفا خارج أية استحقاقات تتعلق بوحدة الساحات.
هكذا، بقيت مهمة إضفاء صدقية على فرضية “وحدة الساحات”، لإسناد الطرف الفلسطيني على عاتق الأطراف اللادولتية. لكن لا “أنصار الله” الحوثيون في اليمن، ولا فصائل “الحشد الشعبي” في العراق، استطاعت التأثير في معادلات الصراع ضد إسرائيل، بسبب البعد الجغرافي وتدني القدرات، باستثناء نوع من المشاغلة، التي تبدو كرسائل من النظام الإيراني، لتعزيز مكانته في المنطقة. وقد يجدر التذكير هنا بأن فصائل “الحشد الشعبي” تلك أقحمت زورا وبهتانا في محور “المقاومة والممانعة”، فهي لم تطلق رصاصة على إسرائيل منذ نشوئها، وهي أيضا كانت قد شنّت حملة على فلسطينيي العراق، اللاجئين فيه منذ النكبة (1948)، أدت إلى إخراجهم منه، وتشريدهم مرة ثانية، بعد عام 2003، وهذه الفصائل اشتغلت، مثل “حزب الله” في لبنان، بقمع انتفاضة 2019، دفاعاً عن نظام الطائفية والفساد والنهب في العراق كما في لبنان؛ ثم إن تلك الفصائل جزء من الفوضى العارمة في العراق، التي تقوض الدولة ووحدة المجتمع فيه.
على ذلك، يبقى “حزب الله”، بمثابة الطرف الوحيد، الذي يمتلك القدرة على التأثير في الصراع ضد إسرائيل، لكنه آثر إلزام نفسه بـ”قواعد اشتباك”، وفقا لاعتقاده، وبدا حذراً من التورط في دفع الأمور نحو حرب بمستوى أعلى، طوال 11 شهراً من حرب الإبادة الإسرائيلية الوحشية التي دمرت غزة، وشردت مليونين من سكانها.
هذا الوضع، أثر على صورة “الحزب”، وقوّض صدقية ادعاءاته، في عدة مجالات، أهمها:
أولاً؛ تناقض ذلك مع مفهومه عن “وحدة الساحات”، ومع الأسطورة التي روجها عن إمكان هزيمة إسرائيل، التي هي أوهن من خيوط العنكبوت!
ثانياً؛ انكشاف تبعية قراره لـ”المرشد الأعلى” في طهران، أكثر من أي وقت مضى، وكرصيد للأمن القومي لإيران فقط، أي لا لفلسطين ولا للبنان.
ثالثاً؛ لأنه فوّت فرصة سانحة له لتوجيه ضربة موجعة لإسرائيل في الأيام الأولى لـ”طوفان الأقصى”، طبعا وفقا لتصوراته عن قدراته وعن إسرائيل، علماً أن مثل ذلك الخيار (من وجهة نظري)، كان سيضع مصير لبنان والمنطقة في مخاطر يصعب تصورها.
يستنتج من ذلك أن “حزب الله” وقع ضحية إدراكاته القاصرة لواقعه ولإسرائيل وللعالم. فهو، وفقا لادعاءاته، مطالب بمناصرة “حماس” في غزة لكنه يسعى إلى تجنّب الاستدراج إلى حرب لا يريدها، ولا تريدها إيران. بيد أن مشكلته هنا أن إسرائيل هي التي كانت تتحين تلك الفرصة، للمبادرة لاستدراجه واستهدافه وإضعافه، وهو ما فعلته بانتهاجها القصف والتدمير والاغتيالات في لبنان وسوريا، دون التزام بقواعد اشتباك، طوال 11 شهراً، ثم توجت ذلك بتوجيه ضربات قاصمة له، منذ 17 سبتمبر/أيلول، بتفجير وسائل الاتصال، واغتيال قيادة “كتيبة الرضوان”، ثم أمينه العام شخصيا، بعد أيام من تهديده إسرائيل وتحديه لها.
في المحصلة، ربما كان أكثر شيء انكسر مع “حزب الله” هو الأوهام التي أشاعها، والتي كشفت قصور معرفته بإسرائيل، أي بطبيعتها ومكانتها في العالم ومصادر قوتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، مقابل المبالغة في قدراته الذاتية، وما يسمى وحدة الساحات، وهو ما بينته التجربة، بثمن باهظ جدا، ما يذكر بأوهام سابقة نجم عنها النكبة الثانية 1967، التي أودت بمكانة وصورة الأنظمة “القومية التقدمية”، ثم اجتياح إسرائيل للبنان 1982 التي أودت بالحركة الوطنية الفلسطينية وإخراجها منه، والنكبة الثالثة، بعد “طوفان الأقصى” (أواخر 2023)، التي ما زلنا نعيش فصولها، والتي نجم عنها حرب إبادة جماعية ضد فلسطينيي غزة، والفكرة أنه بحجم الأوهام الكبيرة أتى حجم الانكسار الكبير.
تبعا لكل ما حصل لنلاحظ أن إسرائيل كانت تملك الإمكانيات لفعل ما فعلته بـ”حزب الله”، مؤخرا، قبل ذلك بكثير، وربما إن تفسير عدم قيامها بذلك يكمن في أن الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا، طوال العقدين الماضيين، تستثمران في سياسات إيران، بإظهارها كفزاعة تهدد الأمن والاستقرار في دول الخليج العربي، ولتجيير تغوّلها في بلدان المشرق العربي، بتقويضها بنى الدولة لصالح الميليشيات الطائفية المسلحة، وتصديعها الوحدة المجتمعية فيها، بإثارتها النزعات والنزاعات الطائفية، بحيث استفادت إسرائيل من ذلك. والظاهر الآن أن حالة الاستثمار تلك، أو أن المهمة، انتهت، وبات يفترض أميركياً وإسرائيلياً تقليم أظافر إيران، أو قصم ظهرها، قبل أن تتعاظم قوتها، على خلفية ما تعرضت له إسرائيل في السابع من أكتوبر (“طوفان الأقصى”) في غزة، ثم تهديد “حزب الله” للإسرائيليين في البلدات والمدن الإسرائيلية في الشمال، وتهديد “أنصار الله” الحوثيين في اليمن لإسرائيل ولخطوط الملاحة الدولية.
ولعل أكثر شيء افتقده “حزب الله”، هو إدراك طبيعة إسرائيل، والاستخفاف بقواها الخاصة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وطبيعة مجتمعها الذي يتحد إزاء الخطر الوجودي، وشكل إدارتها لمواردها البشرية، وفوق ذلك قوتها المستمدة من كونها وضعا دوليا، وليست مجرد دولة في الشرق الأوسط. والمشكلة أن كل ذلك قابلته مبالغة كبيرة وقاتلة، بالقدرات الذاتية، المبنية على روح قدرية وعاطفية ورغبوية، الأمر الذي مكّن إسرائيل من توجيه ضربات قاسية ومؤثرة له في ظرف أيام.
قد يجدر لفت الانتباه هنا، إلى مسألتين، أولاهما، أننا لا نتحدث هنا عن حزب “مقاومة”، أو عن المقاومة المشروعة، بكل الوسائل، ضد الاحتلال والظلم والهيمنة، وإنما عن “حزب الله” بوجوهه الأخرى الأهم، والأكثر تمثلا بأنشطته ووجوده، كحزب طائفي مسلح، يشتغل كذراع إقليمية لإيران، وكـ”حزب” تكرس، خاصة خلال العقدين الماضيين، للهيمنة على لبنان (وضمن ذلك قمع انتفاضة 2019)، واستخدام فائض قوته في البطش بالسوريين، وإسهامه في تشريد ملايين منهم، وهذا ليس تفصيلا يمكن المرور عنه، أو تبريره، أو تبييضه، ولا بأي شيء، لا بمقاومة ولا بفلسطين، سيما إذا كان ذلك للاستخدام كمطية أو كقناع للتغطية فقط.
أيضا، يجدر لفت الانتباه إلى حقيقة مفادها أن إسرائيل وإيران تتصارعان على النفوذ في الشرق الأوسط، كل بما يخدم مكانته ومصالحه، وليس لأي شيء آخر، وأن إسرائيل تفعل ما تفعله في لبنان لأجل مصالحها، بما فيها حربها الوحشية المتنقلة من غزة إلى لبنان وبالعكس، أي إنه لا أحد من الطرفين يبرر الآخر، أو يغطي عليه، في محاولته تخريب بلدان المشرق العربي والهيمنة عليها.
طبعاً، تمني هزيمة إسرائيل، بطبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية في المنطقة منذ قيامها، أمر بديهي، بيّدَ أن التمني، أو تخيل ذلك، لوحده، لا يكفي لأن الأمر يحتاج إلى عدة مفهومية أخرى، وإلى استراتيجيات وإمكانيات مناسبة، وأيضا يحتاج إلى ظروف عربية ودولية أخرى مواتية، لأنه من دون ذلك، ووفقا للطرق والتصورات والتخيلات الرغبوية السائدة، فإن الأمر لا يشكل سوى فرصة، تسهل لإسرائيل تعزيز مكانتها، وهيمنتها، وهو ما نشهد عليه بتوحّشها في فلسطين، ولبنان، وقيامها ذاتها بفتح عدة جبهات في وقت واحد.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: المجلة