حسن النيفي *
لقد أسهمت ثورات الربيع العربي- في جانب منها- في شيوع ضربٍ من الوعي الجمعي الجديد المتجاوز للوعي الذي كرّسته السلطات الحاكمة منذ ما بعد مرحلة الاستقلال، ولا غرابة في ذلك، إذ إن ثورات الربيع العربي على اختلاف سيروراتها ومآلاتها، تشترك في أنها قاربت همًّا مشتركًا لدى معظم شعوب المنطقة يمكن وصفه بأنه همٌّ إنساني عام ذو صلة بحرية الإنسان وحقوقه الأساسية، بما في ذلك حقه في العيش الكريم والرفاهية والمستقبل الباعث على الاطمئنان.
وذلك على خلاف الهمّ المُفتَعل الذي حاولت ترسيخه الأنظمة الحاكمة، التي حرصت أشد الحرص على أن توهم المواطن دائمًا بوجود خطر خارجي كبير يهدد وجوده ومستقبله، من خلال خطاباتها الرسمية الهادفة إلى تبرير سلوك السلطة وشرعنة استمرارها.
كما سعت إلى إيهام الجميع بأن التصدّي لهذا الخطر (الوهم) لن يكون إلا عبر التماهي مع السلطات ذاتها من جهة، وعبر تجاهل المرء لذاته كإنسان جدير بالكرامة والاحترام من جهة أخرى.
وربما أفضى ذلك كله إلى حالة من الإجماع على رفض الاستبداد بكل أشكاله وإعادة السلطة إلى الشعب وتكريس مبدأ المواطنة وسيادة القانون.
وربما هذا ما جعل مجمل انتفاضات الشعوب العربية منذ أواخر العام 2010 تندرج في إطار مرحلة تحوّل تاريخي لا يطول مستقبل الشعوب فحسب، بل يطول مصير الأنظمة الحاكمة أيضًا.
الثورة السورية عقدة المنشار:
لقد كشفت الثورة السورية (آذار 2011) عن أزمة حادة تعيشها النخب العربية على امتداد الوطن العربي، وتتجلّى تلك الأزمة في التناقض بين الخطاب الذي لا تفتأ تلك النخب بتصديره، سواء فيما يُنشَر من كتب أو مجلات أو صحافة، أو فيما يصدع الأسماع في وسائل الإعلام والندوات والحوارات، حول حق الشعوب في تقرير مصيرها والديمقراطية وحقوق المواطنين في الحريات بجميع أشكالها وفقًا لما تنص عليه اللوائح العالمية لحقوق الإنسان.
وغالبًا ما تزامن هذا الخطاب النخبوي مع الإلحاح الشديد على ضرورة ترسيخ مبدأ تداول السلطة سلميًا ورفض الاستبداد وكفّ سطوة رجل الأمن عن حياة المواطنين والاحتكام إلى القانون.
ولعل هذا الخطاب السالف لم يكن ليصدر عن تيار بعينه، بل اتخذ سمة العموم، وخاصة لدى التيارات اليسارية بشقيها الشيوعي والقومي، إذ من الواضح أنه منذ تسعينيات القرن الماضي، جنح كثير من مثقفي اليسار نحو تطعيم خطابهم بنزعة ليبرالية ربما بدت جاذبة في بعض الأحيان، من جهة أنها تُنذر بتحوّل فكري لدى أصحابها، ولكن ربما بدت في أحيان أخرى زخرفًا كلاميًا لا صلة له بما استقر في الذوات من الأفكار.
لقد وصل هذا الاضطراب والتناقض في خطاب النخب إلى ذروته تزامنًا مع شروع نظام دمشق في قمع انتفاضة السوريين، وقد تحوّل هذا القمع شيئًا فشيئًا إلى حرب إبادة لم يتردد فيها نظام الأسد عن ارتكاب أشنع الجرائم بحق مواطنيه، ولم يدّخر من وسائل القتل أقذرها بما في ذلك أسلحة الإبادة الشاملة والتهجير القسري، إلّا أن فظاعة سلوك نظام الأسد وجدت فلولًا عديدة من النخب الفكرية والسياسية تنحاز لها وتسعى لتبريرها، وبخاصة تلك التي ما تزال تتأطر بشعارات قومية تدّعي الدفاع عن الهوية العربية، التي يبدو لكثير من هؤلاء أن بشار الأسد هو حائط الصد الأخير للدفاع عن ثوابتها، أو من مناهضي (الإمبريالية) الذين يرون أيضًا في نظام الأسد الكيان الذي يمثل ملاذًا للاشتراكية المغدورة عالميًا.
وبناءً على هذا التصوّر، كان بشار الأسد- بنظر هؤلاء- بطلًا قوميًا واشتراكيًا بخروجه منتصرًا على المؤامرة التي خططت لها دوائر عالمية عظمى وأوكلت تنفيذها للشعب السوري.
العفن الأيديولوجي القاتل:
لقد أفضت تداعيات عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى حرب دموية يشنها الكيان الصهيوني على غزة، وبحكم التحالفات القائمة بين أطراف الصراع، تحوّلت هذه الحرب إلى مواجهة شاملة بين إسرائيل وما يسمى (محور الممانعة) بقيادة إيران التي انهار أبرز أذرعها- حزب الله اللبناني- انهيارًا عسكريًا سريعًا أمام الاختراقات الإسرائيلية لبنيته التنظيمية من الهرم وحتى القاع.
الأمر الذي ألحق حالة من الدمار تسببت بسقوط آلاف الضحايا من المدنيين اللبنانيين الذين دفعوا الثمن مرتين، الأولى بتسلّط حزب الله عليهم وتحكّمه بمصائرهم وأرزاقهم والتنمّر عليهم تحت شعارات المقاومة طيلة عقود مضت، والثانية بخذلانهم من خلال انهياره السريع وعدم القدرة على الدفاع عنهم أمام العدو الإسرائيلي الغاشم.
وكان من المفترض أن يكون نظام الأسد أحد أطراف المواجهة مع إسرائيل، ليس لكون الأسد ذراعًا إيرانيًا فحسب، بل لأنه جعل من البلاد السورية امتدادًا حيويًا للنفوذ الإيراني ومعقلًا للميليشيات الطائفية التي استقوى بها على شعبه، فنكّلت بالسوريين وأمعنت فيهم قتلاً وتشريدًا طوال سنوات خلت. بل إن ما ارتكبته تلك الميليشيات من مجازر بحق السوريين يجعل منها قرينة فعلية لإجرام الكيان الصهيوني، بل ربما تجاوزته في كثير من الأحيان، وذلك سعيًا للحفاظ على سلطة الأسد والحيلولة دون أن يحوز السوريون على حقوقهم في الحرية والكرامة واستعادتهم للدولة السورية من سطوة حكم العائلة.
ولكن ما هو غريب وباعث على الذهول أن يتحوّل هؤلاء القتلة والمجرمين إلى أبطال ومناضلين في أعين ضحاياهم، وأن يطلب “ما يسمى النخب” من السوريين، سواء في مخيمات اللجوء أو في الداخل السوري، أن يطووا جراحهم وينسوا دماء أبنائهم ويتضامنوا مع فلول القتل والإجرام الطائفي باعتبارها قوى مناهضة للصهيونية.
ربما كان أولى بتلك النخب التي تملأ الفضاء صخبًا وعويلاً أن تتساءل عن سبب استجداء النظام السوري للصهاينة قبل اتهام السوريين بالصهينة والعمالة، ولكن يبدو أن دفاعهم عن نظام الإبادة الأسدي والميليشيات الطائفية ليس انحيازًا لموقف سياسي منبثق عن قناعات، سواء كانت مصلحية شخصية أو سياسية عامة، بقدر ما هو دفاع عن رواكم من الفكر المؤدلج الصدئ الذي بات جزءًا عضويًا من ذواتهم، وبالتالي أصبح حائلًا بينهم وبين التفاعل مع الخير والحق وكل ما هو إنساني وجميل.
* شاعر وكاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا