الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ماذا وراء تشبث نتنياهو بمحور صلاح الدين (فيلادلفيا)؟

يحيى عبدالله *

أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أكثر من مرة، أنه متمسك بسيطرة إسرائيل على محور صلاح الدين (فيلادلفيا )، الفاصل بين حدود مصر وقطاع غزة، الذي احتلته القوات الإسرائيلية في أيار/ مايو 2024م، بعد اجتياحها مدينة رفح الفلسطينية. في خطابه، الذي ألقاه في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2024م، وهو الخطاب الأطول له منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، برر نتنياهو إصراره على تواجد قوات إسرائيلية بالمحور بقوله: «منذ اللحظة التي تركناه فيها (أي المحور، عام 2005م بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة) لم يبق لدينا أي حاجز يمنع إدخال السلاح، والوسائل القتالية، ومعدات إنتاج السلاح ومعدات حفر الأنفاق (إلى غزة) بشكل مكثف». بمعنى، أن الهدف من نوايا إبقاء تواجد عسكري إسرائيلي على طول المحور، بحسب نتنياهو، هو منع عمليات التهريب المزعومة للسلاح إلى غزة.

لكن هذه الحجة المتهافتة التي تخفي وراءها نوايا أكبر، دحضها رئيس الشاباك- جهاز الأمن العام- السابق، ناداف أرجمان، الذي قال، في حديث للقناة الثانية عشرة، الإسرائيلية: «لا توجد أي علاقة بين الأسلحة الموجودة في قطاع غزة ومحور فيلادلفيا»، وبرّأ حتى مصر من التهم التي يرددها بعض المسؤولين الإسرائيليين، وبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، قائلاً: «طبقاً للمعلومات المتوفرة لدينا، فإن القليل جداً من وسائل القتال دخلت قطاع غزة عبر أنفاق، لكن معظمها جرى إنتاجه في القطاع بجهود ذاتية من مواد ذات استخدام مزدوج، مثل الأسمدة المطلوبة للزراعة، دخلت عبر معبر كيرم شالوم» (معبر يخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة).

أقسام محور صلاح الدين

ونشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، تقريراً، في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، قالت فيه إن مسؤولين عسكريين واستخباريين إسرائيليين جزموا بأن جزءًا كبيراً من ترسانة الأسلحة، التي بحوزة «حماس»، مصدره «المواد المتفجرة، التي جُمعت من قنابل وصواريخ إسرائيلية، لم تنفجر، ألقيت على القطاع»، خلال الحروب المتواصلة التي شنتها إسرائيل عليه وظلت به. ورداً على أكاذيب نتنياهو، نشرت صحيفة “معاريف”، الإسرائيلية، تقريراً جاء فيه: “محور فيلادلفيا ليس هو المحور الوحيد لتهريب الأسلحة إلى “حماس”. فالأنفاق التي بنتها بنيت من الخرسانة التي حصلت عليها من إسرائيل، وورش خراطة وصنع الأسلحة جرى شراؤها من داخل إسرائيل من مصانع أغلقت أو جُددت».

من ناحية ثانية، لا يمانع المستوى العسكري، وعلى رأسه وزير الدفاع، يوآف جالانت، ورئيس الأركان، هرتسي هليفي، من الانسحاب من المحور، في سبيل إتمام صفقة تبادل الأسرى.

  • • •

إذاً، ما الأسباب التي تجعل نتنياهو يصر على عدم الانسحاب منه، وإفشال كل صفقة لوقف الحرب، واستعادة الأسرى الإسرائيليين؟ ثمة أربعة أسباب، في رأيي، يأتي على رأسها تخوف نتنياهو من أن ينفرط عقد ائتلافه الحكومي، على ضوء الإنذارات التي وجهها له كل من وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب «الصهيونية الدينية»، المتطرف، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، زعيم حزب «قوة يهودية»، العنصري، وغيرهما من وزراء هذين الحزبين، ومنهم الوزيرة، أوريت ستروك، وزيرة الاستيطان والمهام القومية، التي صرحت في 16 تموز/ يوليو 2024م، بأنه «إذا أدرج نتنياهو محور فيلادلفيا ضمن صفقة (المخطوفين) فلن تكون له حكومة. نتنياهو يعرف ذلك جيداً».

سيفضل نتنياهو بالطبع الحفاظ على ائتلافه الحكومي. سينصاع إلى إنذارات المتطرفين في حكومته، وسيتشبث بالمحور، وليذهب الأسرى وأهلهم إلى الجحيم. ليس أمامه، في حقيقة الأمر خيارٌ آخر. فقد أصبح رهينة لزمرة المتطرفين في ائتلافه الحكومي.

  • • •

أما السبب الثاني، فيتعلق باتخاذ نتنياهو قراراً استراتيجياً بتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على فكرة الدولة الفلسطينية، التي يرى أنها تهدد إسرائيل كدولة يهودية. ومن ثم فهو يتخذ من مسألة الجدل حول المحور، بحسب عومر صنعاني، مستشار شؤون الأمن السياسي والقومي السابق، «ستارة من الدخان لصرف الأنظار عن الصورة الكبيرة، المتعلقة بـ«اليوم التالي للحرب»، إذ يرى أن نتنياهو «ينوى احتلال قطاع غزة بالكامل، كما قال، لـ 42 سنة قادمة على الأقل، والسيطرة المباشرة على أكثر من مليوني فلسطيني، وضم مناطق من قطاع غزة والضفة الغربية (إلى إسرائيل) والاستيطان بهما.

هذه هي الحقيقة خلف إصراره على قضايا تكتيكية صغيرة مثل ممر نتساريم (الممر الفاصل بين شمال وجنوب قطاع غزة) ومحور فيلادلفيا، وخلف عدم استعداده تقديم بديل لـ «حماس»، ورفض كل مبادرة لتسوية إقليمية مستقرة». ويؤكد صنعانى ما ذهبنا إليه فى مقالات سابقة حول التوجهات الحقيقية لنتنياهو، ومن أنه «معنى بحرب أزلية فى غزة وفى الضفة الغربية».

الحقيقة، أن نتنياهو يعرف أفضل من أي مسئول إسرائيلي آخر أن محور صلاح الدين ليس بهذه الأهمية الاستراتيجية التي يتحدث عنها، ويعرف أن السيطرة عليه لن توقف تزود الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بالأسلحة الضرورية لمواصلة الكفاح ضد الاحتلال.

  • • •

السبب الثالث، فيتقاطع مع أكثر من عامل، منها ما يتعلق بالرغبة في التأبيد في الحكم، ومنها ما يتماس مع الرغبة في تحقيق (إنجاز) تاريخي، ومنها ما يتسق مع أيديولوجيته اليمينية. إذ يرى اللواء احتياط، يسرائيل زيف، القائد السابق لفرقة غزة ولشعبة العمليات بالجيش الإسرائيلي، أن نتنياهو يتخذ من مسألة المحور ستارا للتغطية على أمرين: الأمر الأول هو تبرير قرار التخلي عن الأسرى، والثاني هو، إنضاج الظروف للبقاء في قطاع غزة، كمنطقة محتلة، والسيطرة عليها، وإعادة بناء المستوطنات اليهودية بها.

يشير، زيف إلى أن هذه الخطوة تضمن لنتنياهو أمرين مهمين: الأول، شبكة أمان طويلة المدى لحكومته من جانب سموتريتش وبن غفير، على أمل أن يفوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية ويمكنه من الاستمرار في احتلال غزة وإعادة الاستيطان بها، ما يضمن له تأييد سموتريتش وبن غفير لوقت طويل جدا؛ والثاني، تحقيق حلمه في أن يكون زعيماً تاريخياً، أرسى أسس ما يُسمَّى بـ(أرض إسرائيل) في حدود ما يُعرف بـ(الوعد الإلهي)، و(صوَّب) ما أسماه سموتريتش (الفشل التاريخي) الخاص بالانسحاب من غزة عام 2005م. وبحسب، اللواء زيف، فإن إعادة بناء مستوطنات جوش قاطيف في غزة، وبدء إنشاء ما يُسمّى (أرض إسرائيل الكاملة/ الكبرى) تمثل بالنسبة لنتنياهو «نوعا من تصويب الزعامة وتقلل، أيضا من حجم مسؤوليته عن كارثة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر». لا يستطيع نتنياهو مصارحة الرأي العام الإسرائيلي، والرأي العام العالمي، بما في ذلك إدارة بايدن، بهذه الانعطافة السياسية الحادة في الأهداف التي حددها مجلس الحرب (القضاء على حماس واستعادة الأسرى)، لذا، يتشبث بتكتيكات مرحلية من قبيل، محور صلاح الدين، وممر نيتساريم، مع التهويل والمبالغة فى أهميتهما.

تقترن تكتيكات بنيامين نتنياهو، بالضرورة، بوجوب استمرار الحرب على غزة وعدم وقفها، لأن وقفها يعني إسقاط حكومته، ولكي تستمر الحرب، يجب أن تكون هناك أهداف لا نهائية، لن يعدم نتنياهو اختلاقها، وهذا هو السبب في أنه لم يوافق، حتى الآن، على مناقشة أي خطة لـ«اليوم التالي»، لأن أي خطة من هذا القبيل ستؤدي إلى انسحاب إسرائيل من القطاع، وستنسف نوايا إعادة احتلاله. لقد رفض نتنياهو، مراراً وتكراراً، فكرة أن تكون السلطة الفلسطينية، بزعامة محمود عباس، بديلاً لحكم «حماس» في القطاع، وقال عبارته الشهيرة: «لن أستبدل فتحستان بحماستان»؛ وعيَّن ضابطاً رفيعاً مسؤولاً عن الإدارة المدنية في غزة، ورصد ميزانية تقدر بنحو 40 مليار شيكل للاحتياجات الإنسانية للقطاع، وكلها مؤشرات تدل على نية احتلاله والبقاء فيه لفترة لا يعلم مداها إلا الله.

تنسجم خطة إعادة احتلال غزة وإعادة الاستيطان بها، مع ما يجري على أرض الواقع من تصعيد واضح في الضفة الغربية المحتلة، وإطلاق العنان للمستوطنين لترهيب وترويع السكان الفلسطينيين، ومحاولة الاستحواذ على كامل المنطقة (ج/سي) وطرد ما يقارب من 300 ألف فلسطيني وفلسطينية يقيمون بها، وتقويض السلطة الفلسطينية، من أجل ضمان بقائه في الحكم، ومن أجل بناء زعامة جديدة عنوانها: «نتنياهو باني أرض إسرائيل الكاملة/الكبرى»، كما يقول، اللواء زيف.

  • • •

السبب الرابع لتشبث نتنياهو بالسيطرة على المحور فيتمثل في الرغبة في تحقيق الأهداف المركزية التي أقرها مجلس الحرب الإسرائيلي، ومنها القضاء قضاءً مبرما على القدرات العسكرية والسلطوية لـ«حماس» في القطاع، واستعادة الأسرى الإسرائيليين، ولكن من خلال إعادة احتلال القطاع، بما في ذلك محور صلاح الدين، وإقامة حكم عسكري به، والسيطرة الأمنية المستمرة عليه، بعد أن فشل طوال أحد عشر شهراً في تحقيقها، ما يحفظ له ماء وجهه، بحسب تصوره، أمام ناخبيه، ومؤيديه، خاصة، وأمام الإسرائيليين، كافة.

  • • •

ستثبت الأيام أن التصور الذي يتبناهُ واهمٌ. فلن يكون إعادة احتلال قطاع غزة نزهة. غزة مستنقع كبير، واستنزاف متواصل للجيش الإسرائيلي، وتعميق للانقسام الداخلي، ومزيد من العزلة الإقليمية والدولية.

* كاتب مصري وأستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.