محمد المنشاوي *
على العكس من الرئيس جو بايدن، لا تملك المرشحة الديمقراطية للرئاسة، كامالا هاريس، خبرة أو معرفة عميقة بالقضايا الدولية، ومنها قضايا الشرق الأوسط. وعلى العكس أيضاً من جو بايدن، الذي قضى ما يقرب من نصف قرن بين دهاليز السياسة الخارجية سواء في البيت الأبيض، أو قاعات لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، قضت هاريس فقط ثلاثة أعوام ونصف العام في البيت الأبيض تستمع وتشارك وتخطط لتنفيذ السياسة الخارجية التي يختار بايدن عناوينها الكبيرة، واتجاهاتها العامة.
لا تملك هاريس ما يملكه بايدن من تاريخ لم يستطع الفكاك منه. يؤمن بايدن بإسرائيل، كدولة وفكرة وحدوتة يراها ربانية وتستحق الوقوف بجانبها ودعمها بأي ثمن مهما كانت التكلفة أو النتائج. لا يتردد بايدن في ترديد أنه صهيوني الهوى، ويذكر أن دعمه لإسرائيل له بعد شخصي بدأ منذ لقائه برئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، جولدا مائير، قبل حرب أكتوبر عام 1973. كما يتفاخر بايدن بمعرفته القوية بكل قادة إسرائيل منذ ذلك التاريخ. لكن في الوقت نفسه لم يستطع بايدن التخلص من إرث الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، والتي شكلت وشغلت أغلب حياته المهنية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ولم يتخلص من عمق وتأثير نظريات الردع النووي، والتدمير المتبادل. ويرى بايدن أن روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، هي محور الشر العالمي، ومن هنا يمكن تفهم محددات قراراته تجاه أزمة أوكرانيا.
- • •
على مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية، تعرفت هاريس على السياسة الخارجية وتفاصيلها من خلال تنفيذها لأجندة الرئيس بايدن، وتجولت حول العالم وزارت 21 دولة، ومثلت بلادها في العديد من المحافل الدولية والقمم العالمية.
مع صعودها السريع لتتبوأ بطاقة الترشح الديمقراطية للرئاسة الأمريكية، والتي قد تجعلها، حال فوزها، القائدة العليا لأكبر وأقوى جيش في العالم، تُطرح العديد من الأسئلة حول كيفية رؤية هاريس للعالم، وقضاياه، ولدور الولايات المتحدة فيه، وكيف ستكون سياستها الخارجية إذا فازت في الانتخابات في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
بدايةً، هناك أسس موضوعية ستفرض حتمية تبني نظرة مختلفة لقضايا العالم ودور بلادها فيه مقارنة بجو بادين. هاريس تصغر بايدن بما يقرب من ربع قرن، من هنا تنتمي هاريس لجيل جديد مختلف تماماً عن جيل بايدن. سمح هذا الاختلاف الجيلي بتحرر هاريس من مسلمات آمنت بها نخبة واشنطن المسنة خلال العقود الأخيرة.
قالت هاريس في مؤتمر الحزب الديمقراطي «بصفتي رئيسة، لن أتردد أبدا في الدفاع عن أمن أمريكا ومُثلها العليا، لأنني في الصراع المستمر بين الديمقراطية والطغيان، أعرف أين أقف وأعرف أين تنتمى الولايات المتحدة». وقبل ذلك بشهور، وأثناء مشاركتها في مؤتمر ميونيخ للأمن، أكدت هاريس للقادة الأوروبيين أن «العزلة ليست بديلاً» فيما كان انتقاداً مباشراً لنظرة دونالد ترامب للعالم.
كنائبة للرئيس، حرصت هاريس على زيارة إفريقيا- وهو أمر وعد بايدن بالقيام به، لكنه لم يفعله بعد. يعكس ذلك إدراك هاريس للجنوب العالمي، والدور الكبير الذي يلعبه في القضايا العالمية الكبرى، وتأثره الكبير بالتنافس الصيني الأمريكي الحتمي.
كما أن خلفية هاريس كدارسة للقانون وعملها كمدعية عامة في مدينة سان فرانسيسكو وولاية كاليفورنيا، تفرض عليها نمطاً من التفكير، والنظر للقضايا الدولية بصورة تختلف جذريا عن بايدن.
- • •
على الرغم من تبني هاريس نفس موقف إدارة بايدن فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتأكيدها على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وأنها ستضمن أن يكون لديها القدرة على القيام بذلك، كانت هاريس من بين أول من أشاروا إلى حجم وعمق المعاناة الإنسانية لسكان القطاع. وخلال كلمتها في المؤتمر العام للحزب الديمقراطي، دافعت هاريس عن تبنيها لمبدأ حل الدولتين، ودعمها لإنشاء دولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل.
لكنها حتى الآن لم تقدم سوى القليل من المؤشرات على كيفية ترجمة تعاطفها الخطابي إلى سياسة. ويأمل بعض الخبراء المتفائلين أن تدفع خلفية هاريس القانونية لإعطاء وزن أكبر للقانون الدولي، والقوانين الأمريكية، فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة لإسرائيل، وموقف واشنطن من قرارات محكمتي العدل والجنائية الدوليتين.
لكن لا يجب أن يتصور أحد أن هاريس ستغير السياسة الأمريكية بدرجات كبيرة، فهي تستعين بـ«فيل جوردون»، كمستشار للأمن القومي، وهو أحد خبراء السياسة الخارجية الأمريكية التقليديين، والذي، ومن خلال عمله في مناصب عديدة بإدارات ديمقراطية سابقة، ومراكز الأبحاث المحسوبة على الحزب الديمقراطي، يعرف قواعد عمل وحسابات وتوازنات واشنطن جيداً. وقبل نهاية أيار/ مايو الماضي، وفي حديث أمام مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن حضرتُه شخصياً، أكد جوردون، أن «المسار الذي تتبعه واشنطن ووضعته إدارة بايدن لا يزال في الأساس المسار الوحيد، الذي يبدأ باتفاق تحرير الرهائن ووقف إطلاق نار طويل الأجل، مع اتخاذ تدابير لمنع حركة حماس من أن تكون في وضع يسمح لها مرة أخرى بحكم غزة».
اعتبر جوردون، الذي يُتوقع له أن يدير السياسة الخارجية حال فوز هاريس بالانتخابات أن «انتقال الحكم في غزة إلى السلطة المدنية الفلسطينية، وإعادة الإعمار سيُمكن الفلسطينيين في نهاية المطاف من حكم أنفسهم».
- • •
في النهاية، تبقى هاريس ابنة لأم مهاجرة من الهند وأب مهاجر من جامايكا، قد تصل لأهم منصب على كوكب الأرض، ويدفعها ذلك لإدراك حقيقة أن العالم يتغير بطرق سريعة متنوعة ومختلفة، في الوقت ذاته، لا يمكن عدم الأخذ في الحسبان كون هاريس سيدة سوداء، متزوجة من محامٍ أبيض يهودي، وهو ما يؤثر كذلك في رؤيتها وقراراتها للقضايا العالمية بما فيها الشرق الأوسط.
* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن
المصدر: الشروق
الرئيس في الولايات المتحدة لا يحكم بل هو المترجم لمراكز القوى في الدولة من الجيش الى اقطاب المال والسلاح