أحمد عيشة *
يمكن القول إن أكثر ما يختلف فيه السوريون هو المصطلحات التي يطلقونها تجاه ما حدث ويحدث في سوريا، وخاصة منذ بداية الثورة التي كان من أكبر مفاعيلها التخلّص إلى حد كبير من الرعب الذي عاشوه منذ عقود، منذ أن سطت العائلة الأسدية على الحكم في سوريا. ولا تنحصر تلك المصطلحات أو الأحكام تجاه النظام، بل تجاه كل شيء من أفراد وكيانات ومنظمات وعلى مختلف الأصعدة، لدرجة يمكن المجازفة والقول إن هناك “حرباً أهلية” فيما بينهم، ولكن على البارد: أي “حرب أهلية” باردة، سلاحها الكلمات التي وفرت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة جيدة لها، كما للنقاش والحوار، وإن كان نصيبه أقل.
ففي الأوصاف والأحكام والمصطلحات التي يتداولها السوريون (وهنا سأتحدث عمن يعارض النظام وينحاز للثورة) تجاه النظام، ثمة مصفوفة عريضة منها، وهي ليست كلها جديدة، فبعضها يعود لتيارات المعارضة من قبل، لدرجة الدخول في متاهة بما يخص تقييم النظام، فتجد في نفس المقال أو التقييم أن النظام ديكتاتوري واستبدادي وشمولي، ومرات تجد أنه فاشي ونازي وإبادي. مؤخراً مع انتشار الأبحاث والدراسات، التي كانت ممنوعة في زمن الأسدية إلا إن كانت تستوفي شروط العلاقة التي يفرضها النظام وأجهزته الأمنية، دخلت مصطلحات جديدة مثل: اللصوصية، ويكتبها البعض بنفس صيغتها الأجنبية لكن بأحرف العربية (كليبتوقراطية)، والأبوية (باتريمونالية)، ناهيك عن وصفه بأنه طائفي أو أن سياسته طائفية، والبعض يقول بأن لسياسته بعض الأوجه الطائفية، وهكذا..
مع مرحلة الثورة، تفجرت ذاكرة السوريين تعبيراً تجاه النظام الأسدي عن مدى الألم والقهر الذي عاشوه لعقود عديدة، كما تجاه الكيانات التي نشأت خلال العقد الماضي، سواء السياسية أو العسكرية (وما أكثرها)، فكان التعبير الأكثر رواجاً على المستوى الشعبي أنه نظام ديكتاتوري “ابن حرام”، طائفي، والبعض تبعاً لخلفيته العقائدية يستبدلها بأنه “نصيري” كصيغة تحقيرية تجاه النظام، وليس تجاه الطائفة، وإن كان البعض من قوى التطرف، وهي إحدى الكوارث التي حلّت بسوريا، إلى جانب النظام، لا تستثني حتى الطائفة. أما الاتهامات المتبادلة بين الكيانات الناشئة حديثاً، سواء تسلمت سلطة أم لا، فهي لا تقل اختلافاً وتوتراً، فنجد وصف الأكراد بأنهم “ملاحدة”، أبوجية (نسبة إلى أوجلان: الأب والملهم لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا)، في حين يرد الأكراد بوصف العرب بأنهم “قومجيون” و”دواعش” وغيرها، ناهيك عن تبادل صفات العمالة والارتهان للدول الراعية.
وعلى مستوى “النخب” السياسية، لم تكن الأوصاف والأحكام أقل ارتباكاً وتشوشاً، فعدا عن الأحكام والتقييمات العديدة تجاه النظام وممارساته، ينطبق الأمر نفسه حول الكيانات الجديدة، كما تفسيرها للمجريات وخاصة لمآلات الثورة، حيث تتفرع تلك الأحكام النخبوية إلى فئتين: الأولى هي نتاج تبني توصيفات وأحكام غربية أكاديمية وحتى سياسية من دون أي محاولة نقدية لتلك الأحكام والمواقف، والثانية مجاراة الشارع الشعبي في محاولة لكسب وده، والحصول على “شرعية” يفتقدونها، وفي كلتا الحالتين، ما يغيب هو الدراسة الجدية لمجريات الوضع في سوريا، وبالتالي الغرق في أحكام لا تزيد الوضع إلا تعقيداً بدلاً من أن تساهم في كشف المسارات، وحتى تقديم مفاهيم جديدة مقاربة للوقائع المعاشة بدلاً من قسرها ضمن قوالب وأحكام أكاديمية أو سياسية غربية.
وأول ما يتطلبه الأمر من تلك النخب الثقافية والسياسية النزول عن منصة التوجيه، (أي عن السحارة كما يقال بالعامية) ولوم الجمهور، بمعنى الخروج من خندق التعالي على الناس والتقليل من النزعة “السلطوية” لديهم، كونهم يمتلكون “المعرفة”، تلك المعرفة التي تستوجب الاشتباك مع الوقائع ومقاربتها بناء على المتغيرات والمجريات في الحياة الواقعية للبشر لا بالترجمة والنقل، والتخلص بشكل ما من روح التسليم بكل ما يقوله الغرب، بمعنى التعامل معها برؤية نقدية يتفرع عنها القبول أو الرفض، أو حتى التعديل وفق الوقائع المحلية، وينطبق الأمر ذاته على المواقف السياسية للمنظمات الدولية التي تتعارض مع مصالح الشعوب المقصودة. فعلى سبيل المثال، ألغت الأمم المتحدة في عام 1991 تعريف الصهيونية، كشكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري الذي أقرته عام 1975، في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل في ممارساتها الإبادية تجاه شعب فلسطين!
أما بخصوص التوصيفات والأحكام، تجاه مجريات الثورة السورية وتفرعاتها، التي تتراوح بين الثورة والأزمة والأحداث والصراع والحرب الأهلية، فهي تعكس مواقف على الأقل أخلاقية تجاهها، إن لم نقل سياسية تحت ذرائع ومبررات مختلفة ثقافية وسياسية وأخلاقية، فعادة تتعامل عموم الكتابات في الغرب معها على أنها حرب أهلية أو صراع طبقاً لتعريف جاف من حيث المدة والأطراف وعدد الضحايا، وهناك جهات غربية ومحلية تتعامل معها على أنها أزمة كونها لم تصل إلى نتيجة، وحتى لا يوجد في الأفق حل واضح لها، أما جماعة الأحداث فهم “محايدون” لا لون ولا طعم. تخفي مختلف التصنيفات، عدا أنها ثورة، الدافع الحقيقي لها، وهو الجانب السياسي المتلخص في ممارسة نظام الأسد الإبادية طيلة عقود من الزمن، ويعزوها لأسباب تتعلق بالمجتمعات المحلية والبنى التقليدية والهجرة من الريف إلى المدينة والبعض إلى المناخ متناسين دور النظام الأسدي في قهر الناس وإذلالهم ونهب البلاد.
لا يعكس ما يجري بين السوريين حول واقع الحال في سوريا سواء على صفحات التواصل الاجتماعي أو في الإعلام اختلافات في المصطلحات فقط، وإن كان جزئياً يعود لذلك، وإنما يعكس اختلافاً في المواقف، فالخلاف حول مصطلحات الحرب الأهلية والثورة، المتمردون والثوار وغيرها، بغض النظر عن التصنيفات الغربية التي يجب التعامل معها نقدياً، بكونها ليست مقدسة ونهائية، يعكس موقفاً من الحركة العامة للسوريين وبالتالي يعفي بشكل من الأشكال النظام من المسؤولية، وفي أفضل الأحوال تحمله جزءاً من المسؤولية كباقي الأطراف، وينطبق الأمر ذاته عند الحديث عن التمرد والمتمردين بوصف ما جرى بأنه عمل عسكري من البداية ضد قوات “الدولة”، وهو منافٍ تماماً لما حدث في سوريا.
ما جرى وما عاشه السوريون من البداية هو ثورة شعب عانى مختلف صنوف القهر والإذلال، لكن التدخلات الدولية والإقليمية التي لم تكن في معظمها مع تغيير النظام، والارتهان للمصالح الدولية كرّس حالة الفصائلية العسكرية والسياسية، وحوّل الثورة إلى حرب بالوكالة بأدوات سورية وأخرى غير سورية، هذه الحرب التي أدخلت البلاد إلى فخ المساومات الدولية على حساب إضعاف الرؤية الثورية التي نادت بالحرية والكرامة، وبالتالي انتشار الروايات المختلفة حول ما يجري في سوريا، وساعد على ذلك النموذج “البديل” الذي طفا على السطح بممارساته التي تجعل من الممارسات الأسدية نموذجاً.
إن التركيز على قيم الثورة كما صدحت بها حناجر الثوار في الفترة الأولى المتمحورة حول الحرية والكرامة ومناهضة الظلم والاضطهاد أياً كان مصدره وأساسهم نظام الأسد الإبادي، وقبول المختلف الذي يعد جوهر العملية الديمقراطية بدلاً من المهاترات التي تزيد في حدة الاستقطاب آخذين في الحسبان الحال الذي وصلت إليه البلاد بعد أن أصبحت البلاد ساحة لحروب بالوكالة هو أفضل وسيلة لبناء سردية وطنية للثورة، هذه السردية التي تتلاشى مع الزمن لصالح تسيّد روايات بديلة تصف ما جرى في سوريا بكل شيء إلا بأنه ثورة، بغض النظر عن النتائج التي آلت إليها.
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: موقع تلفزيون سوريا