الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مرحلة الانتقال بين رئيسين أميركييّن هي الأخطر

عبدالوهاب بدرخان *

يمرّ الشرق الأوسط حالياً بمرحلة الأسئلة الصعبة في انتظار الانتخابات الأميركية وحسم من سيكون في البيت الأبيض، وإلى أي حدّ سيكون داعماً للخيارات الإسرائيلية الأكثر جذرية وتطرّفاً، وهل سيكون هناك فارق حقاً بين كامالا هاريس ودونالد ترامب؟ مع افتراض أن بنيامين نتنياهو وحلفاءه باقون في الحكومة، علماً بأن أياً من البدلاء أمثال بيني غانتس أو يائير لبيد لم يُعرف يوماً بترويجه أفكاراً مؤدّاها السلام أو الحلّ العادل مع الفلسطينيين، فأصحاب مثل هذا التوجّه العقلاني انقرضوا تماماً ولم يعد لهم وجود في المشهد السياسي الإسرائيلي، وبات الحضور يقتصر على مَن يؤيدون أجندة نتنياهو – سموتريتش – بن غفير أو يزايدون عليها. وفي هذا المجال لم يعد ممكناً مجرّد تصوّر أن واشنطن يمكنها فرض أي أجندة اعتدال لمواجهة صلف المتطرّفين الإسرائيليين بعدما تحدّى هؤلاء مجتمعهم وذهبوا إلى المجازفة بحياة الرهائن في غزّة، وبعدما أصبح الجيش – للمرّة الأولى – هو الذي يطالب بشروط أقلّ تعجيزاً لإبرام صفقة الهدنة وتبادل الأسرى.

ثمة الكثير من الأسئلة، ولعل أبرزها أن استمرار فشل التوصّل إلى وقف لإطلاق النار لا يزال يعني للأميركيين احتمال أن تنفّذ إيران ردّها الانتقامي الموعود وإنْ تراجع زخمه بنسبة كبيرة، وفي هذه الحال تعهّدت أميركا الدفاع عن إسرائيل، لكن هل تستطيع منع نتنياهو من انتهاز فرصة متاحة له لتفجير “الحرب الإقليمية” التي أرادها دائماً ويريدها الآن بشدّة لتبديد أي اهتمام دولي بغزّة أو حتى بالضفة الغربية ولبنان؟ لكن، حتى مع استبعاد مثل هذه الحرب، مَن سيدير استمرار الحرب على غزّة بعدما أصبحت عبارة عن مجازر يومية “روتينية”، بل كيف سيديره ما دام نتنياهو وحلفاؤه قد أسقطوا وقف إطلاق النار من حسابهم، ولا يكترثون ليأس الأميركيين أو لانكفائهم عن أي مفاوضات؟ ومَن يمكن أن يدفع إلى فتح معبر رفح أمام المساعدات المتوقفة للشهر السادس على التوالي، بل مَن يضمن سلوك الجيش الإسرائيلي وعدم تدهور الوضع في محور فيلادلفيا بين مصر وإسرائيل؟ وأخيراً وليس آخراً، مَن يمكنه أن يضبط اندفاعات الجيش والأمن والمستوطنين المسلّحين في الضفة الغربية وعدم انزلاق السيّئ الحاصل حالياً إلى ما هو أسوأ؟

كانت متوقّعة هذه المرحلة من عدم اليقين، منذ بدأت “الخلافات” بين إدارة بايدن ونتنياهو، بالأحرى منذ اتضحت مراهنة الأخير على عودة ترامب رئيساً، فمَن تحدّى بايدن والبنتاغون لن يتوانى عن إذلال هاريس إذا ظهر بوضوح أنها الفائزة مساء الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.

في تصريحات أخيرة ذهب ترامب إلى أقصى تحريض المتطرّفين، إذ قال في اجتماع ليهود أميركا إن فوز هاريس يعني “انقراض إسرائيل”، ولا يزال لقوله إن مساحة إسرائيل “بحاجة إلى توسيع” أصداؤه في المنطقة، لما ينطوي عليه من دعم لاحتلال القطاع وتوسّع الاستيطان في الضفة. في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن المرحلة الانتقالية بين رئيسين وإدارتين في واشنطن، أياً يكن الفائز في الانتخابات، هي الأخطر، لأنها تتيح لإسرائيل، وحتى لإيران ووكلائها، هامش فراغ قد يتيح الانزلاق إلى مزيد من التفجير.

المعروف عن العلاقة الأميركية – الإسرائيلية أن البنتاغون هو حلقتها الرئيسية، لكنها مرّت وتمرّ بتوترات بسبب مواقف نتنياهو. كان البنتاغون قد أرسل حاملتي طائرات وقطعاً بحرية، تحسباً لهجوم إيراني وأملاً في إنجاز وقف إطلاق النار، لكنه أبلغ إسرائيل أخيراً أنه لا يستطيع إبقاء هذه الترسانة في شرق المتوسط إلى أجلٍ غير مسمّى. كما أعلن أنه يعمل على وقفٍ لإطلاق النار مع “قوات لحفظ السلام”، وهو ما ترفضه إسرائيل، وكذلك “حماس”. غير أن ضباط البنتاغون منشغلون الآن بمرحلة ما بعد انهيار مفاوضات الهدنة وكيف سيتعاملون معها، وهذا ما عبّر عنه مديرا الاستخبارات الأميركي والبريطاني بالإعلان عن استخدامهما كل القنوات “للضغط بقوة من أجل خفض التصعيد”. من الواضح أن لدى أقرب حليفين لإسرائيل استياءً شديداً من إفشالها مفاوضات “صفقة” تبادل الأسرى وتهوّرها في التعامل مع مصلحة استراتيجية للحلفاء تتمثّل في عدم توسيع نطاق الحرب.

استطاع نتنياهو أن يستخدم عنصر الوقت لمصلحته السياسية الخاصة وللتحكّم بخيارات إدارة بايدن واستدراجها إلى مرحلة الانتخابات لإرباكها كما هي الآن. فرض التمديد للحرب متلاعباً بهدفَي “القضاء على حماس وإعادة المخطوفين”، وأجّل البحث في “اليوم التالي” ثم ميّعه لأن “اليوم التالي” عنده هو اليوم الأول لتوغّل جيشه براً في القطاع، ورفض باكراً أن تكون “حماس” أو السلطة الفلسطينية في إدارة قطاع غزّة “بعد الحرب” كونه يعلم مسبقاً أن اقتراح “جهة ثالثة” فلسطينية لا يمكن تحقيقه، ولم يتعامل جدياً، أو تعامل بشروط تعجيزية مع صيغ لإدخال قوات أطلسية – عربية إلى القطاع. ثم إن خطوات كإنشاء شريط في أقصى شمال غزّة، وزرع “محور نتساريم” لشطر القطاع إلى نصفَين، كذلك احتلال “محور فيلادلفيا/ صلاح الدين” في الجنوب على الحدود مع مصر، وأخيراً تعيين حاكم عسكري للقطاع… استهدفت عملياً فرض أقصى تعقيد لأي مشروع لوقف إطلاق النار وعودة النازحين مع مواصلة التقتيل والتجويع… ولماذا فعل كل ذلك؟ لأن خطّة الحرب، رداً على “طوفان الأقصى”، كانت خطّة إعادة احتلال لقطاع غزّة، فلا انسحاب للجيش ولا إنهاء للحرب.

في غضون ذلك، كان هناك تحضير لنقل الحرب إلى الضفة، أو إلى الشمال/ جنوب لبنان. في الضفة يتم التركيز على المخيمات حيث تنشط “فصائل المقاومة”. أما المستوطنون الذين سلّحهم بن غفير ويرافقهم في اقتحاماتهم للمسجد الأقصى، فيضاعفون اعتداءاتهم على قرى وبلدات بهدف واضح هو تهجير سكانها أو محاصرتها بمشاريع سموتريتش الاستيطانية. وبالنسبة إلى لبنان تبقى الحرب واردة وخططها جاهزة لكن مؤجّلة، ولو حصلت إسرائيل على التزام أميركي باعتراض صواريخ “حزب إيران/ حزب الله” (كما هو الالتزام ضد هجمات إيران نفسها) لما تأخّرت لحظة. وفي الحالين تحتاج إسرائيل إلى ترامب كي تستكمل خططها، في الضفة لاستكمال “صفقة القرن” وتوسيعها، وفي لبنان لضرب “حزب إيران” باعتباره عنوان قوتها الإقليمية.

* كاتب صحفي لبناني

المصدر: النهار العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.