رندة حيدر *
دخل لبنان في أتون صراع وحشي ودامٍ لم يعرف مثله اللبنانيون، حتى المخضرمون منهم الذين شهدوا الغزو الإسرائيلي في 1982، وأطلق عليه الإسرائيليون اسم “عملية سلامة الجليل”. يومها نتج من الحرب خروج المقاومة الفلسطينية المسلحة من لبنان، لكن إسرائيل فشلت في تغيير النظام السياسي في البلد وتوقيع اتفاق سلام معها. وانتهت كل المشاريع السياسية لإسرائيل بفوضى عارمة، وشكلت درساً قاسياً لإسرائيل بأنّ عليها تجنّب الدخول في مغامرات سياسية في لبنان. وحتى تجربة “الحزام الأمني” الذي أقامته في الجنوب واستخدامها عملاءها من جيش لبنان الجنوبي باءا بفشل ذريع مع انسحاب جيش الاحتلال عام 2000، وهروب فلول ذلك الجيش أمام تقدّم قوات حزب الله وسيطرته على القرى والبلدات الجنوبية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
أما تجربة حرب تموز (2006) بين إسرائيل وحزب الله، فقد انتهت بعد شهر تقريباً من المعارك “بالتعادل السلبي”، باعتراف خبراء إسرائيليين عديدين، ومنذ 18 عاماً تحوّل حزب الله إلى القوة العسكرية والسياسية الأساسية المسيطرة على لبنان، وأكبر تهديد عسكري لإسرائيل في شمالها.
يختلف العدوان الإسرائيلي في 2024 عن سابقاته، لأنه يأتي في سياق مواجهة ضارية يخوضها “محور المقاومة” بقيادة إيران وحلفائه ضد إسرائيل والدول الغربية المتحالفة معها، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، منذ أكثر من عام مع بداية عملية طوفان الأقصى، ومع تحوّل حرب الإسناد التي بدأها حزب الله في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى حرب استنزاف، ثم إلى عدوان إسرائيلي وحشي مدمّر.
يدّعي الإسرائيليون أن الغرض من أعمالهم العسكرية، ضرب حزب الله وقياداته وتدمير بناه العسكرية والضغط عليه للقبول بالشروط الإسرائيلية التي تعرفها إسرائيل وحدها. وفي الواقع، شاهدنا كيف تغيرت أهداف العدوان بسرعة جنونية، من هدف “إجبار قوات الرضوان على التراجع إلى ما وراء خط نهر الليطاني”، وصولاً بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إلى فرض واقع مختلف في جنوب لبنان، وربما في لبنان كله، والحديث عن شرق أوسط جديد.
ولدى اللبنانيين خبرة في توسع أهداف حروب إسرائيل، تماماً مثلما تجاوز جيشها في 1982 خط نهر الأولي ووصل خلال أيام إلى بيروت وطريق بيروت- دمشق. فهل إسرائيل اليوم واقعة مرّة أخرى في وهم الطموحات الجامحة التي سرعان ما تتحوّل على الأرض إلى كوارث مؤكّدة؟ من يتابع التصريحات الرسمية الإسرائيلية، يجد مروحة واسعة من أهداف العدوان على لبنان. الأكثر واقعية “إجبار حزب الله على القبول بالتسوية” التي في حدّها الأدنى النزع الكامل لسلاح حزب الله جنوبي الليطاني، وربما شماله أيضاً، وتفكيك ترسانته الصاروخية. ويرى مراقبون أن هذا الهدف يجب تحقيقه من دون توغل برّي كبير أو احتلال أراضٍ لبنانية. بينما تتحدّث أصوات إسرائيلية علناً عن أهمية التوغل من أجل “اجتثاث” القدرات العسكرية لحزب الله الذي يحافظ، رغم كل الضربات التي تكبدتها قياداته، على انتشاره على الأرض وجهوزيته، وقد أثبت في الأيام الماضية قدرته على اعتراض توغل مجموعات من الجنود الإسرائيليين في أكثر من نقطة لبنانية متاخمة من الحدود، وأوقع في صفوفها خسائر باهظة. ولكن أصواتاً في إسرائيل تتحدّث علناً عن “فرصة تاريخية” لفرض واقع جديد في لبنان، مع ما ينطوي عليه من إمكانات احتلال وإقامة حزام أمني جديد، وربما حكم عسكري موقت. أما التيارات الأكثر تطرّفاً، فتتحدّث عن مشاريع هذيانية لإقامة مستوطنات يهودية في جنوب لبنان، انطلاقاً من رؤية أرض إسرائيل الكاملة، وأن الجنوب جزء منها.
وعلى أي حال، حتى الهدف الرسمي الإسرائيلي للعدوان على لبنان، العودة الآمنة لسكان مستوطنات الشمال إلى منازلهم بعد الضربات التي تكبدها حزب الله، يبدو صعب التحقق في الظروف الحالية. إذ على الرغم من كل الاغتيالات والتدمير المنهجي للقرى وموجة التهجير الواسعة للبنانيين من قراهم، لا يزال الوضع الأمني على الحدود الجنوبية خطراً وشائكاً. وعلى الرغم من عمليات “التطهير” التي يزعم الجيش أنه يقوم بها في البلدات المتاخمة للحدود، فهذا لا يضمن أي عودة في ظلّ القصف الصاروخي المستمرّ يومياً على شمال إسرائيل. بمعنى آخر، تبدو الأهداف الإسرائيلية الموضوعة للعدوان كلها صعبة التحقق راهناً وفي المستقبل القريب.
أنتقل إلى الجحيم الداخلي اللبناني. ليس عن كارثة النزوح الذي غيّر، بين ليلة وضحاها، وجه العاصمة، ولا عن الموت اليومي لعشرات المدنيين الأبرياء، ولا عن الخسارات الهائلة في كل جنى اللبنانيين في هذه السنوات الصعبة الحالكة، بل أود التوقف عند مساعٍ يبذلها أركان الحكم لاسترجاع شيء من المبادرة السياسية وبناء إجماع وطني وطرح خطّةٍ تطالب بوقف إطلاق النار. محزن مشاهدة رموزٍ كانت في أساس الأزمة السياسية في لبنان، واستفادت من فائض القوة العسكرية لحزب الله، لتحقيق مكاسب سياسية على حساب سائر الشركاء، هي نفسها التي تقود مبادرة إنقاذية للبنان، وتسعى لانتخاب رئيس للجمهورية، بينما كانت هذه الجهة تحديداً من يعرقل إجراء هذا في موعده بذرائع واهية، وبهدف فرض مرشّح حزب الله لمنصب رئاسة الجمهورية اللبنانية.
صحيحٌ أن مهما كان الحراك السياسي على الساحة الداخلية اللبنانية محزناً ومثيراً للإحباط، فإنه لا يقارن بمشاهد البؤس اليومي التي نراها يومياً، ولا يُقاس بالتوحّش الذي تمارسه إسرائيل على لبنان. لكنه مؤلم أن يشهد اللبنانيون إسرائيل تقطع أوصالهم وتخنقهم وتحاصرهم بالنار والموت، فيما تحاول رموز السلطة اللبنانية السياسية الفاشلة لملمة أشلاء ما تبقى من الوحدة الوطنية المعرّضة للتشظّي والانفجار في أي لحطة.
* كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
المصدر: العربي الجديد