عمار ديوب *
صامتاً، وكأنّه غادر محور المقاومة. هكذا جلس ينتظر نتائج الحرب على غزّة. لم يشارك بأيِّ دعمٍ في حرب الإسناد الّتي خاضها حزب الله والحوثيون ومليشيات عراقية تابعة لإيران. لم يهتم بالعمليات المؤلمة التي تعرّض لها حزب الله، البيجر واللاسلكي ومقتل قيادة الرضوان وحتى التعزية بحسن نصرالله تأخر بها عدّة أيامٍ؛ ولكنّه أعلن الوقوف مع اللاجئين اللبنانيين، وتقديم المساعدة الكاملة لهم داخل سورية.
أحدث صمتُه ذاك فجوةً مع إيران، ولكن الأخيرة أصبحت تتحكّم في قطاعٍات كثيرة في البنية الصلبة لديه؛ الفرقة الرابعة وأجهزة أمنية تابعة لها، وكثيرين من القيادات العسكرية والأمنية. مصدر ضمانة كتلة الرئيس أن قوّة إيران داخله محكومة لمعادلة التوازن؛ فلروسيا أيضاً قادة وفرقٌ وأجهزة وقواعد عسكرية، ومن ثم، لا يمكن لإيران التمادي في السيطرة الكاملة، وهذا ما يَسمح لرأس النظام وكتلته بالصمت وانتظار النتائج.
مع اشتداد الحرب ضد لبنان، قامت دولة الاحتلال بكثير من القصف الجوي ضمن سورية، وتركّز أغلبه على مواقع إيرانية وتابعة لحزب الله أو على مواقع تستفيد منها هذه الجهات. تريد بذلك استغلال الدعم الأميركي، للثأر من حزب الله، والذي يمتد إلى عقود وليس فقط بسبب حربه الإسنادية، وتَلقى دولة الاحتلال تأييداً واسعاً في الغرب باعتبار حزب الله رفض الإقرار بتطبيق قرار مجلس الأمن 1701. الجدير ذكره أن النظام تلقّى تهديدات كثيرة بأن يجلس جانباً ومنذ طوفان الأقصى من دولة الاحتلال، ولهذا يغرق بصمته وكأنّه فارق الحياة.
أزمة النظام المتعدّدة الأوجه جعلته في غاية الإنهاك، وكذلك مكنت روسيا وإيران منه بشكّلٍ كلّيِّ. الضربات المتتالية على حزب الله داخل لبنان ستُضِعفه كثيراً، وقد يضطر إلى نقل الكتلة الأكبر من قواته إلى لبنان، ولكن ذلك سيُضعِف النظام بدوره؛ وقد كان حزب الله القائد الفعلي للمليشيات في سورية، وكان تأثيره كبيراً في عموم المنطقة. مع معرفة النظام بهذه النقطة الهامة، سيستفيد من ضعف الحزب، حيث أصبح بمثابة قوّة آمرة عليه إلى جانب روسيا وإيران، وهذا مما لا يطيقه.
انتهى النظام الذي كان يصول ويجول في المنطقة، ومن أكبر الأخطاء تسويق فكرةٍ جديدة تقول إن ضعف إيران وحزب الله سيسمح له بالعودة إلى لبنان! إن نظاماً لا يستطيع استعادة جغرافية بلده بالتأكيد لا يستطيع التمدّد خارجيّاً؛ بنيته الأمنية والعسكرية في غاية التفكك، ومن ثم، لا أجد صواباً في تحليلاتٍ كهذه. حالة النظام، وفي غمرة الاندفاعات الصهيونية والردّ الإيرانيِّ أنّه ينتظر النتائج، والنجاة بنفسه، ولا شيء آخر.
كان الردُّ الإيرانيُّ أخيراً على مقتل إسماعيل هنية وحسن نصرالله والآخرين من صنف الردّ بعد عملية القنصلية في دمشق في إبريل/ نيسان الفائت، أي لم يكن مؤلماً وموجعاً، ويمكن أن يكون كذلك إن حُوصرت أكثر فأكثر أو قُصفت بشدّةٍ، ويتضمن ذلك رسالة أن إيران لن تتخلى بسهولة عن أذرعها الإقليمية، وتريد عقد صفقة مع الإدارة الأميركية بما يخص الاتفاق النووي، والاستمرار في الهيمنة الإقليمية من ناحية، وربما توافق على تقليص هذا الحضور في بعض المناطق مثل غزّة ولبنان!
لن تصمت دولة الاحتلال عن الردّ الإيراني، فهي ترى أن حركة حماس وحزب الله والحوثيين والمليشيات العراقية تحت إمرة إيران، وأنّها أصبحت تهدّد أمنها. تريد دولة الاحتلال استعادة هيبتها وتغيير الشرق الأوسط وفرض هيمنتها عليه، وهي تحاول ذلك منذ “طوفان الأقصى”؛ هذه الدولة، وبعد أن نقلت معركتها إلى لبنان وسورية إلى حدٍّ ما، وبعد الرد الإيراني ستكثّف الحرب في لبنان وسورية، وستوسّعها نحو إيران، وربما في الأيام المقبلة.
كان الموقفان، الأميركي والإيراني، بعدم التوسعة، وفعلت إيران المستحيل من أجل ذلك، وحصر العدوان على غزّة، ولكن ذلك انتهى الآن. إن تبني أميركا لعدم التوسعة من قبل وتقييد دولة الاحتلال في غزّة أصبح ماضياً. يبدو أن سير المفاوضات مع الرئيس الإيراني، بزشكيان، وفريقه الإصلاحي، لم يؤدِّ إلى نتيجة إيجابية، ومن هنا جاء الرد الإيراني. ولكن هذا ستستغله دولة الاحتلال للرد، ولن تتوانى عن قصف المواقع النووية الإيرانية وربما النفطية وأنظمة الدفاع الجوي، والمراكز الأساسية في الحرس الثوري، واغتيال بعض الشخصيات، تراها الأكثر تشدّداً ضدّها؛ هل هذا ممكن؟ فرصة حكومة نتنياهو الحالية، والانتخابات الأميركية بمرحلة انتقالية، ستستغلها أشدّ الاستغلال.
هل ستردُّ إيران من جديد، أم ستصمت كما صمتت دولة الاحتلال في أثناء الرد؟ هذا ممكن. تفيد محدودية ردّ طهران بأن الأخيرة تريد إعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، بينما ما فعلته حكومة الاحتلال وبالتحديد بعد تصفية حسن نصر الله يقول إن الخطوة المقبلة، ولو لم يحصل الرد، هي مهاجمة إيران.
لم يعد النظام السوري مقبولاً دوليّاً، وهو لم يتمكن من استعادة سورية. لم يستطع تغيير الوقائع تغييراً حقيقيّاً رغم الدعمين الروسي والإيراني ومسار أستانة؛ ظلّت درعاً غير مستقرّة ودخلت السويداء في انتفاضة مستمرة منذ أكثر من عام، وهناك انفكاكٌ كبيرٌ للحاضنة عن تأييده وموالاته، وهو ملاحقٌ بجرائم أمام القضاء الدولي، كذلك لا يمكن لبعض الدول الأوروبية والعربية المطبّعة معه، أو الساعية نحو التطبيع تغيير كل هذا المشهد.
صمت نظام الأسد تجاه غزّة ولبنان لن ينقذه، ولمحاولته التموضع ضمن محور الاعتدال شروط كثيرة، وقد تعطلت تقريباً، وهي بذاتها مشروطة أميركيّاً، وعدا ذلك ارتباطه بالمحورين، الإيراني والروسي، والذي يعيده إلى بيت الطاعة كلّما حاول المغادرة؛ إن إيران وكلّما اقترب من السعودية أو تركيا تسارع إلى إرسال دبلوماسييها لضبط محاولاته أو إيقافها.
ستحاول كتلة الرئيس السوري استغلال كل لحظة ضعف لدى إيران للتفلّت من قبضتها، ولكن روسيا وتركيا ليستا قادرتين على تعويمه، والأميركان ليسوا في هذا الوارد. ورغم ذلك، هل يمكن للسياسة الأميركية أن تتغيّر، ولا سيّما بعد أن امتهن الصمت، وتضمّه إلى محورها مع دولة الاحتلال، كما ترغب بعض الدول الأوروبيّة والعربية؟
هذا تحوّلٌ دونه تعقيدات كثيرة، ومن ثم، ستكون سورية، في الأيام المقبلة، إحدى ساحات الصراع بين مليشيات إيران ودولة الاحتلال، ولن ينجو نظام دمشق مما تراكمت عليه من أزمات منذ 2011، ولن تُحلَّ قبل البدء بتفكيكه.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد