إياد الجعفري *
يمكن التقاط جملة دلالات جراء التدقيق في الأرقام الخاصة بحركة النزوح من لبنان إلى سوريا، وفي الجغرافيا التي يقصدها الوافدون، وفي التفاصيل والأحداث التي ترافق هذه الحركة.
ولنبدأ بالأرقام. فالمنظمة الدولية للهجرة قالت إن 235 ألف شخص عبروا الحدود اللبنانية إلى سوريا براً، بين 21 أيلول/ سبتمبر و3 تشرين الأول/ أكتوبر. منهم نحو 82 ألف لبناني، و152 ألف سوريّ. فيما إدارة الهجرة والجوازات التابعة للنظام السوري، قالت إن نحو 270 ألفاً دخلوا سوريا، منهم 72 ألف لبناني، ونحو 197 ألف سوريّ. وبالمقارنة بين الأرقام الدولية وتلك الصادرة عن النظام، نجد أن الأخير رفع أرقام الداخلين بنحو 35 ألف شخص، وقلّل من اللبنانيين منهم، بفارق 10 آلاف.
ونحن هنا، لن نجزم بأن الأرقام الدولية أكثر دقة من نظيرتها الصادرة عن النظام. لكن إن أضفنا هذا الفارق في الأرقام، إلى جملة ملاحظات أخرى، سنخرج بدلالة من الصعب تجاهلها. أولى تلك الملاحظات، تركيز خطاب النظام الرسمي والإعلامي على دعم “الأشقاء اللبنانيين”، في الوقت الذي يقلل فيه من أعدادهم بالأرقام الرسمية مقارنة بتلك الدولية. وفيما يبدو أن الخطاب الرسمي والإعلامي موجّه لجهة، نعتقد أن الأرقام الرسمية الصادرة عن النظام موجّهة لجهة أخرى. فالأول موجّه للحلفاء داخل “المحور الإيراني”، بأن النظام حريص على استقبال ودعم حاضنتهم الشعبية المتضررة جراء الحرب في لبنان. وهو خطاب دعمه إجراء على الأرض، تمثّل في تجاهل النظام لتجاوزات أنصار حزب الله بحق أهالي مدينة حمص، قبل نحو أسبوع. فيما الأرقام الرسمية موجّهة للإقليم والمجتمع الدولي، وهدفه الإشارة إلى عودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلدهم. وهو الهدف الذي عجزت عنه كل محاولات “الدولة اللبنانية”، قبل الأزمة الأخيرة. ويريد النظام الإيحاء بأنه يفتح لهم الأبواب، على مصراعيها. وأنه متعاون في استقبالهم. لكن “قدراته” لا تسمح له بتحمّل تبعات عودتهم تلك.
وتخدم الصور الواردة من دمشق ومن مدن سورية أخرى، للسوريين الذين افترشوا الشوارع والطرقات والحدائق وبعض “كراجات” البولمانات، في إيصال الرسالة التي يريدها النظام للخارج. وتدعمها تصريحات مسؤولين أمميين عن عودة هؤلاء إلى “منازل مدمّرة وبنية تحتية متضررة وخدمات أساسية معطّلة”. فمجموع ذلك، يقرّبه خطوة جديدة من تحقيق هدف عمل عليه على مدار أكثر من سنتين، بأن تتطور مشاريع “التعافي المبكّر” بأموال دولية، لتتحوّل إلى مشاريع أشبه بإعادة الإعمار، بالتعاون معه، وبصورة تصب في صالح شبكات الأعمال والمنظمات المحلية المرتبطة به.
وبعيداً عن مكاسب النظام المرتقبة، تحكي تفاصيل الأرقام الرسمية، جانباً آخر من قصّة النزوح هذه. فرغم أن نحو 75% من الوافدين إلى سوريا، سوريون، فإن هذه النسبة تختل مناطقياً. فمحافظة حمص استقبلت أكثر من 25 ألف لبناني، مقارنة بحوالي 23 ألف سوريّ فقط. فيما طرطوس استقلبت 4.5 ألف لبناني، ونحو 5.8 ألف سوريّ. وتتحقق النسبة الإجمالية في محافظة ريف دمشق، التي استقبلت 132 ألفاً، منهم 32 ألف لبناني.
ومن بين المحافظات الثلاث، هناك خصوصية للأرقام بحمص، في ضوء مُعطَيَين اثنين. الأول يتعلّق بالمعلومات المتوفرة عن إيواء عائلات لبنانية في منازل مهجّرين سوريين في منطقة القصير بريف المحافظة. وهي المنطقة التي تحولت إلى معقلٍ رئيسي لحزب الله داخل الأراضي السورية. فيما المعطى الثاني يتعلّق بترويع أهالي مدينة حمص، من جانب عناصر مسلحين يتبعون لحزب الله، قبل نحو أسبوع. هذا الحدث جاب أحياء رئيسية في المدينة، ووصل إلى مركزها. ورغم أن حمص تعودت على وجود عناصر الحزب في بعض أحيائها، إلا أنها المرة الأولى، على الإطلاق، التي يتحرك فيها عناصر الحزب بهذه الصورة التي حملت بعداً “إخضاعياً” لسكان المدينة. وعلى مرأى ومسمع من عناصر أجهزة النظام وقوات أمنه، التي انسحبت من بعض مواقعها، أو لم تحرك ساكناً في أخرى.
إن أضفنا ما سبق إلى المعطيات المتوافرة عن حركة النزوح إلى المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام، تصبح الدلالة أوضح. فـ”الإدارة الذاتية” الكردية في “شرق الفرات” تحدثت عن وصول أكثر من 16 ألف سوريّ عائد من لبنان، ونحو 33 لبنانياً. ووفق المعلومات المتوافرة، فهؤلاء العائدون يتوجهون إلى منازلهم أو منازل أقاربهم في شمال شرق سوريا. كذلك وصلت أعداد قليلة من السوريين إلى مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في إدلب، بالتنسيق مع أقارب لهم هناك. فيما وصل نحو 2000 سوريّ إلى مناطق سيطرة “الحكومة المؤقتة” و”الجيش الوطني” في شمالي حلب. هؤلاء تحديداً، اندلعت أزمة جراء تباطؤ الجهات المعنية بإدخالهم. وقد بررت الشرطة العسكرية المسؤولة عن ذلك، بأن معظم القادمين من لبنان، هم نازحون سوريون من مناطق خاضعة لسيطرة النظام. أي أنهم فضّلوا سلوك رحلة شاقة وطويلة وصولاً إلى مناطق سيطرة “المعارضة”، على أن يعودوا إلى مناطقهم الخاضعة لسيطرة النظام. لاحقاً، حُلّت الأزمة بضغط شعبي، أدى لإدخالهم. لكن المعطيات بوجود حركة نزوح من مناطق سيطرة النظام إلى تلك الخاضعة لسيطرة “المعارضة”، شمالي حلب، تتزايد. ومعظم المنخرطين في هذا الحراك، هم آتون من مناطق كانت ثائرة ضد النظام، وخضعت له لاحقاً، قبل العام 2018.
حركة النزوح الداخلية تلك، لا تقارن بطبيعة الحال، مع نظيرتها الآتية من لبنان. لكنها تحمل دلالة ملفتة للأنظار. فالفرز بين مكونات الشعب السوري، تصبح أكثر حدّة. والنظام حريص على تعميق هذا الفرز. فقد تم توثيق اعتقالات لسوريين عائدين من لبنان، لأسباب أمنية، أو بهدف سوقهم للخدمة الإلزامية في قوات النظام. مما يدفع هذه الفئة المستهدفة إلى استخدام قنوات تهريب البشر، ودفع ما يتراوح بين 500 إلى 1000 دولار أميركي، للوصول إلى مناطق “شرق الفرات”، أو مناطق سيطرة “المعارضة”، شمالي حلب.
المعطيات آنفة التفصيل، تبرر مخاوف محللين سوريين من عملية تغيير ديمغرافي جديدة في سوريا، تخص خاصرتها الغربية على الحدود اللبنانية، مجدداً. لكن هذه المرة على نطاق أوسع، وأكثر ديمومة، لو اتخذت الحرب في لبنان بعداً استئصالياً لحزب الله، على غرار ما تحاول إسرائيل القيام به، في غزة. وفيما تُثقَّلُ حاضنة حزب الله الديمغرافية في مناطق سيطرة النظام، تتحرك حاضنة أخرى بصورة أكثر تسارعاً، نحو الشمال.
* كاتب وإعلامي سوري
المصدر: المدن