عاطف معتمد *
قبل ظهور أسماء رواد علم الجغرافيا في مصر من الرعيل الأول، أمثال محمد عوض محمد ومصطفى بك عامر وسليمان حزين والسيد غلاب والجيل الذي تلاهم من أمثال صبحي عبدالحكيم وصفي أبوالعز وجمال حمدان كان هناك برنس من الأسرة المالكة اسمه الأمير عمر طوسون الذي أبدى اهتمامًا كبيرًا بعلم الجغرافيا في مصر، وأضاف للمكتبة العربية والفرنسية الكثير مما تلقاه الجغرافيون في العصر الجمهوري من بعده. وسنضرب هنا ثلاثة أمثلة من مؤلفاته:
مصر والسودان:
قبل 100 سنة وضع عمر طوسون بحثًا صغيرًا طرح فيه سؤالين يبدو من الظاهر أن لا علاقة بينهما:
- ما الحل أمام التزايد السكاني لمصر بينما الأرض الزراعية ستصل إلى حدها الأقصى في الاستصلاح؟
- كيف نسترد السودان الذي تسبب الاحتلال الإنجليزي في ضياعه رغم ما أنفقت مصر فيه على مدى سبعة عقود من استكشافات وغزوات وأموال ورجال؟
المُدهش أن المشكلة السكانية كانت تقلق عمر طوسون حين كتب بحثه هذا في عام 1923 وعدد السكان لا يتجاوز 14مليوناً وكان يُقلقه أن عدد سكان مصر يتزايد بمعدل ربع مليون إنسان كل سنة. ومرد القلق أن الرقعة الزراعية القابلة للاستصلاح كانت قد أوشكت على التمام بتجفيف مستنقعات شمال الدلتا، ولن تكون هناك أراضٍ جديدة تقدم الغذاء.
قام طوسون بحساب العدد الأمثل لسكان مصر وفق مواردها الزراعية فوجد أنه يجب ألا يزيد عدد سكان بلادنا على 20 مليون نسمة بحلول عام 1940.
يقول طوسون في عام 1923:
«نحن على أعتاب بلوغ تلك المرحلة التي يجب ألا نضيف فيها أعدادًا من السكان لأنه لا يوجد ما يعولهم من أرض زراعية، هذا التاريخ الذي ننتظره في المستقبل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، فماذا نصنع بعدئذٍ والزيادة مستمرة في السكان؟».
وبعد أن يناقش طوسون كل السبل الممكنة لتوزيع وتصريف السكان الجدد، بينما بلادنا مرهونة بما هو متاح فقط من التربة والمياه، لا يجد طوسون أمامه سوى حل الهجرة، كيف نشجع المصريين على الهجرة، وهم ملتصقون بأرضهم؟
وبعد أن يناقش محاور الهجرة المتاحة يجد أن المحور الذي يناسب عقليتنا وأرواحنا وارتباطنا بالنيل هو المحور الجنوبي لا المتوسطي، فيرى أن الهجرة إلى السودان الغني بأرضه وخيراته وجغرافيته الشاسعة هي الحل.
كان البرنس عمر طوسون من أنصار وحدة مصر والسودان، وكتب في بحثه هذا يقول: «وحدة مصر والسودان التي يحكم فيها السودانيون مصر أفضل من خسارة مصر السودان».
خليج الإسكندرية وترعة المحمودية:
من بين مؤلفات عمر طوسون التي يمر عليه اليوم قرن من الزمان، كتاب «خليج الإسكندرية وترعة المحمودية»، وهو جزء من أبحاث البرنس عمر طوسون عن أحد مرافق الري والزراعة في مصر. وفيه يُعلمنا الأمير كيف تطورت ترعة المحمودية على النحو التالي:
- يعود أول عهد لمد قناة من النيل إلى الإسكندرية إلى الإسكندر الأكبر الذي كان يحتاج إلى مياه النيل بشكل دائم لمدينته الجديدة فأمر في 331 ق.م بشق قناة حملت اسم «شيديا» تبدأ من الفرع الكانوبي (اندثر الآن وحلت محله ترع). وبالتالي كانت تسمى ترعة «شيديا». وتحمل «شيديا» في العصر الحديث اسم «النشو البحري».
- لأسباب طبيعية وبشرية تناقص الاهتمام بالفرع الكانوبي حتى ضمر، وأصبح مجرد ترعة، بينما كان فرع رشيد يكبر، ويتعمق وكانت بداية ذلك في القرن الخامس الميلادي.
- بتحول مصر لولاية عربية تواصلت جهود الحكام لضمان سريان المياه إلى الإسكندرية من «الترعة» الكانوبية خاصة من مأخذها القديم عند شيديا والكريون (قرب كفر الدوار حاليًا).
- منذ دخول العرب وحتى الغزو العثماني تعرضت ترعة الإسكندرية للانسداد والأطماء عدة مرات استلزمت أعمالًا للتطهير كما حدث في عهد ابن طولون والحاكم بأمر الله الفاطمي والظاهر بيبرس وغيرهم. في هذه الفترة التاريخية سيظهر موقع المحمودية الحالي باسمه الأصلي (العطف) في عهد السلطان الناصر قلاوون وبالتحديد في عام 1310 م حين شق من فرع رشيد مأخذًا لترعة الإسكندرية، وقام بتطهير بقية المجرى. وهذه هي أول مرة ستكون فيها العطف (الواقعة قبالة «فوة») هي مأخذ الترعة من فرع رشيد. ولأن الترعة تمت في عهد الناصر قلاوون فقد سميت بالخليج الناصري.
- قبل قرن من وصول العثمانيين في عهد السلطان المملوكي الأشرف بارسباي تم تغيير مأخذ الترعة لتبدأ إلى الجنوب من مأخذها السابق لتصبح البداية من «الرحمانية» (وتقابلها على الضفة الأخرى لفرع رشيد بلدة «دسوق») وتمت أعمال الحفر في عام 1422 وقد حملت اسم السلطان الأشرف برسباي فصارت تعرف بالترعة «الأشرفية» نسبة لهذا السلطان.
- ستبقى الترعة مُعرضة لعهود متتالية من الإهمال والصيانة حتى عهد محمد على الذي سينقل مأخذها من الرحمانية ويعيده شمالًا إلى «العطف» معطيًا المكان اسم السلطان العثماني «محمود»، ومن ثم تصبح الترعة منذ عام 1818 وحتى اليوم تعرف باسم الترعة المحمودية.
قوانين الدواوين:
من أهم المعاجم والقواميس الجغرافية عن مصر ذلك الكتاب الذى يضم إحصاء البلاد المصرية وأصل تسمية أشهر البلدات والقرى فيها، وتبعيتها الجغرافية والإدارية. وهو عمل مبكر صدر قبل 800 سنة، وبالتالي فهو خطوة فريدة من نوعها في العالم.
غير أن هذا الكتاب اختفى قرونًا متواصلة ثم عاد للنور في العصر الحديث. ويمكننا أن نوجز قصته بإرجاع الفضل فيه إلى أربعة مساهمين: وزير وأمير وعالِمين:
- أما الوزير فهو «الأسعد بن مماتي»؛ رجل مسيحي من أسيوط كان نجمًا ساطعًا في نظام الحكم فى مصر قبل أكثر من 8 قرون (عهد صلاح الدين الأيوبي وخلفائه). ولأن الرجل شغل منصب رئيس ديوان المالية فقد اشتهر بقدرته ومهارته في تنظيم إدارة الأقاليم الجغرافية للدولة المصرية. وقد تركَ مؤلفات عدة، أهمها كتاب عظيم لم يصل إلينا منه سوى ثلثه، والذي يضم معجمًا لحصر البلاد المصرية في عهد توليه الوزارة.
- أما الأمير في هذا الكتاب فهو «البرنس عمر طوسون»؛ كان طوسون رئيسًا للجمعية الزراعية الملكية التي أخذت على عاتقها إعادة طبع كتاب الوزير ابن مماتي بعد 700 سنة من صدوره.
لم يكتفِ البرنس المستنير بطباعة الكتاب في عام 1933 فحسب، بل بحث عمن يحقق مادته وموضوعاته فاختار أحد علماء عصره، وهو الإداري ورجل الدولة و«القاموس الجغرافي الذي يمشي على قدمين» الأستاذ محمد رمزي الذي رشحَ بدوره نابغة عصره في هذا الشان آنذاك «عزيز سوريال عطية» الأستاذ في جامعة فاروق الأول (فرع الإسكندرية) ليتولى التحقيق، خاصة بعد ما اشتهر عن عزيز سوريال عطية من أنه كان يجوب جامعات ومكتبات أوروبا التي احتفظت بمخطوطات متفرقة من كتاب الوزير ابن مماتي.
وهكذا تعاون العالِمان «عزيز سوريال عطية» و«محمد رمزي» لإنتاج القاموس الجغرافي الذي يحصر أراضي مصر الزراعية ومحلاتها من قرى وبلدات حتى تاريخ وفاة ابن مماتي في 606هـ/ 1209م.
صدر الكتاب عن الجمعية الزراعية، وبعدها بأكثر من عشر سنوات سيكون كتاب ابن مماتي النواة التي سيبني عليها محمد رمزي قاموسه الشهير «القاموس الجغرافي للبلاد المصرية»، وسيصبح ابن مماتي المُلهم الأول لمعجم محمد رمزي يفض الدعم الواعي الذي قدمه الأمير المستنير «البرنس عمر طوسون».
ما زال هناك الكثير الذى يمكن قوله عن مساهمات عمر طوسون في جغرافية مصر، وهو ما قد نعود إليه في مقالات مقبلة.
* كاتب وباحث أكاديمي مصري
المصدر: الشروق