بكر صدقي *
اتضح أن تأخر إيران في الرد على اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية، في بيت ضيافة الحرس الثوري في طهران، كان بهدف مراكمة ثارات أخرى لم تتكاسل إسرائيل عن تأجيجها. فقد أعلن الحرس الثوري الإيراني عن إطلاق مئتي صاروخ على إسرائيل «رداً على اغتيال حسن نصرالله ومعه مسؤول ملف لبنان في فيلق القدس اللذين قضيا في الهجوم الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 أيلول، وإسماعيل هنية في 31 تموز/ يوليو الماضي».
ما لم يعلنه الحرس الثوري هو أن تلك الصواريخ قد تكون رداً مسبقاً أيضاً على بدء إسرائيل لاجتياح لبنان برياً، وربما على اعتداءات أخرى قادمة في إطار الحرب المفتوحة التي تشنها إسرائيل على الجميع بدعم أمريكي مفتوح. في حين أنه تجاهل الإشارة إلى وقائع أخرى كاغتيال بعض من أبرز القادة العسكريين لـ«حزب الله» أو الضربات الإسرائيلية المستمرة على أهداف إيرانية ولـ«حزب الله» في سوريا، تم تنفيذها جميعاً في الشهرين الأخيرين أي منذ اغتيال هنية. والمعنى الواضح لهذا التجاهل هو أنها شؤون لبنانية وسورية، تعتبر طهران أنها غير معنية بها في إطار التزامها عدم الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة، مثلها في ذلك مثل حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة منذ عام كامل، أو الهجمات الإسرائيلية على اليمن.
يزيد من فداحة الموقف الإيراني أن وسائل الإعلام امتلأت بتسريب إبلاغ طهران لواشنطن بموعد هجومها على إسرائيل، الأمر الذي جعل الأخيرة تتخذ تدابيرها الاحترازية لتلقي وابل الصواريخ الإيرانية بلا خسائر، فضلاً عن مشاركة القوات الأمريكية في صد أكثرها وتدميرها في الجو.
القصد أن ديون إيران بخصوص الرد على الاعتداءات الإسرائيلية قد تجاوزت كل حدود «الصبر الاستراتيجي» والتكتيكي معاً، فاضطرت لتكرار ما فعلته للمرة الأولى في شهر نيسان الماضي، في عملية اقتصرت على الجانب الدعائي، بعدما انهارت سمعة إيران وبدأت بوادر انفضاض حتى أشد مناصري محور الممانعة عنها، في لبنان بخاصة بعد الكارثة التي حلت ب«حزب الله» في أقل من أسبوعين. فشعور جمهور «حزب الله» بالمرارة من الخذلان الإيراني انعكس بوضوح في تصريحات أبواق إعلامية تقليدية.
في الحصيلة، ضحت القيادة الإيرانية بمئتي صاروخ من ترسانتها مجاناً، كنوع من «الدّيّة» بدلاً من خسائر أكبر محتملة في حال أي مشاركة جدية في مساندة أذرعه في الإقليم التي باتت تنهار تباعاً أمام وحشية حروب نتنياهو التي لا يضمن أحد ألا تصل إلى الأراضي الإيرانية نفسها وربما المنشآت النووية وغيرها من الأهداف. فالجدار الواقي من المنظمات المسلحة التي واظبت إيران على تشكيلها ورعايتها ودعمها طوال عقود، بات مهدداً بالانهيار التام، وفي مقدمتها «حزب الله» جوهرة تاج نفوذها الإقليمي، لتنكشف إيران نفسها مباشرةً أمام إسرائيل. هذه ورطة حقيقية قد لا تنجو منها إيران، سواء حافظت على صبرها الاستراتيجي أم لا.
وبدت إيران في موقف حرج حين قال رئيسها الجديد بزشكيان أن واشنطن قد «خدعتنا» حين وعدت بوقف العدوان الإسرائيلي مقابل عدم توسيع نطاق الحرب إلى حرب إقليمية! يذكرنا هذا التصريح بآخر مطابق له كان الرئيس السوري السابق حافظ الأسد قد قاله بعد توصله إلى اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى محاصرة بيروت في العام 1982، الذي أبرمه مبعوث الرئيس الأمريكي آنذاك فيليب حبيب. الهدف الواضح من كلا التصريحين هو تبرير الانسحاب من الحرب المتواصلة أمام جمهور المؤيدين للنظامين، وللقول إنهما قد حققا انتصاراً دبلوماسياً زائفاً.
لبنانياً، كثرت الأصوات التي بدأت تحذّر، بحق، من حرب أهلية محتملة بين المكونات اللبنانية بعد الضربة الكبرى التي لحقت بـ«حزب الله». وهذا خطر جدي بالنظر إلى تاريخ هذا البلد الذي شهد حربين أهليتين في الخمسينيات والسبعينيات، وافتقاده إلى دولة موحدة تشعر فيها جميع المكونات الأهلية والتيارات السياسية بأنها دولتها. لطالما كانت الكيانات الطائفية والمناطقية فيه أقوى من الدولة من حيث الهيمنة الاجتماعية بمعناها الإيجابي. أما بعد العام 2000، وبخاصة بعد اغتيال رفيق الحريري وانسحاب جيش نظام الأسد منه في العام 2005، حدث ما يشبه الانقلابات العسكرية من خلال تغول «حزب الله» على الدولة اللبنانية. فلم يعد وضع لبنان يختلف كثيراً عن وضع الأنظمة التي وصلت إلى الحكم من خلال انقلابات عسكرية، كحال سوريا والعراق ومصر وليبيا وغيرها، على رغم اختلافات تتعلق بالخصوصيات الاجتماعية والتاريخية لكل بلد. فقد «أقفل» نبيه بري، حليف «حزب الله» باب مجلس النواب، في أعقاب اغتيال الحريري وبروز معارضة موحدة، حركة 14 آذار/ مارس، ووضع الثنائي الشيعي فيتو على أي مرشح لرئاسة الجمهورية لا يرضى عنه، واتخذ الحزب قرار الحرب الكارثية في 2006 بمعزل عن الدولة والأطراف اللبنانية الأخرى، واستأنف سلسلة اغتيالاته لرموز المعارضة السياسية والثقافية والقضائية، ليكملها بغزوة السابع من أيار/ مايو في 2007، لفرض جو من الإرهاب أسكت الأصوات المعارضة، ولعرقلة إنشاء المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري، كما عمل بكامل طاقته على إفشال عمل تلك المحكمة بعدما تأسست رغماً عنه. وتهرب من أي مسؤولية عن كارثة تفجير المرفأ من خلال عرقلة التحقيق فيه، كما من مسؤوليته مع حلفائه عن الانهيار المالي، لينقض أخيراً على الانتفاضة الشعبية في العام 2019. هذه جميعاً من مفردات الانقلابات العسكرية التي نعرفها، وخلاصتها إسقاط الدولة والاستيلاء على الحكم وفرض قانون طوارئ على البلاد.
في دول كعراق صدام وسوريا حافظ أسد وليبيا معمر، حيث النظام الانقلابي ابتلع الدولة وقوّض أسسها، أدى سقوط النظام إلى انهيار بقايا الدولة معه. من المحتمل أن لبنان «حزب الله» لن يكون استثناء، ما لم يبادر اللبنانيون إلى تلافي ذلك.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي