عبد الجبار عكيدي *
لم تحمل وقائع الهجوم العسكري الإيراني على إسرائيل مساء الثلاثاء الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري كثيرا من المفاجآت، ليس لعدم امتلاك إيران إمكانيات الردع، أو عدم أحقيتها بالدفاع عن سيادتها المُهانة من جانب إسرائيل، بل ليقين الجميع بأن ما يحول دون تنفيذ الوعيد الإيراني الصارخ، منذ مقتل إسماعيل هنية في عقر دارها، هو الاستراتيجية التي تعتمدها طهران كمرجعية أساسية للتعاطي مع تل أبيب.
تقوم تلك الاستراتيجية على مبدأ إبقاء الصراع مع الكيان الصهيوني قائماً ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى التصادم المباشر، موازاة مع تفاهمات مباشرة أو غير مباشرة على مواقع التموضع والنفوذ.
أفضت تلك الاستراتيجية إلى الحفاظ على ما يدعى بقواعد الاشتباك طوال السنوات السابقة، ولا يمنع ذلك، بالطبع، من خروقات بين الحين والآخر، إذ إن استهداف إسرائيل المتكرر لمواقع إيرانية داخل الجغرافيا السورية يأتي ضمن تلك الخروقات، التي تبررها تل بأبيب بأنها ردّ على تجاوز إيران لما هو مرسوم لها أو ما هو متفق عليه.
إلّا أن ما حدث يوم الأول من نيسان/ أبريل الماضي، ونعني استهداف إسرائيل لمبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، ما أدى لقتل عدد من القياديين في الحرس الثوري الإيراني، وعلى رأسهم محمد رضا زاهدي ونائبه، والرد الإيراني الهزيل حينها، جعل إسرائيل أكثر جرأة على تجاوز الطرق المعهودة في الردع أو في تنبيه طهران على تجاوزاتها.
منذ تلك اللحظة أخذ الصراع منحىً خطيراً وبعداً آخر حين استهدف الكيان الصهيوني في شهر آب/ أغسطس الماضي القيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر، تبعه بعد أيام اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في المكان الذي يفترض أنه الأكثر أمناً، في قلب العاصمة الإيرانية طهران، وما تبعه خلال الأيام الأخيرة من ضربات مؤلمة استهدفت أهم القادة العسكريين والسياسيين في الحزب وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، في السابع والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر الفائت، ومعه نائب قائد الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفروشان.
أمر أحرج نظام طهران وجعله يقف أمام استحقاق وحيد يستطيع من خلاله الحفاظ على الكرامة الجريحة، على الأقل حيال الحاضنة المؤيدة والحلفاء، وبناء عليه كان الرد الإيراني مساء الثلاثاء المضبوط بل الخاضع لهندسة بالغة الدقة، وذلك من جهة قدرة هذا الرد على استعادة نوع من الاعتبار المعنوي لطهران من دون إيقاع خسائر بشرية أو مادية لدى إسرائيل، من شأنها أن تزيد المواجهة تصعيداً بين الطرفين.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى إقرار حكومة طهران بأنها أبلغت الجانب الأميركي والروسي بطبيعة وتوقيت هجومها الذي شنته على إسرائيل، مُستخدمة صواريخ بالستية بعضها فرط صوتي (قاسم سليماني، خيبر شكن، فتاح)، وهي من الجيل الثالث الأكثر حداثة وتطوراً في منظومة الصواريخ الإيرانية، لتكون واشنطن أحد الضامنين أو الشهود على انضباط الرد الإيراني، وكذلك على حسن نيّة طهران بعدم الذهاب إلى قرع طبول الحرب.
من الناحية العسكرية فإن العملية فقدت العامل الأهم في أي معركة عسكرية وهو عنصر المفاجأة والمباغتة، فالعدو الصهيوني علم مسبقاً بنية إيران شن هجومها، وأخلى المواقع المتفق على استهدافها، بالإضافة إلى تساقط كثير من تلك الصواريخ في الأراضي العراقية والأردنية والضفة الغربية، واستعداد القبة الحديدية ووسائط الدفاعات الجوية للتعامل معها وإسقاطها، بمشاركة ومساندة القوات الأميركية المتواجدة في المنطقة.
وعليه فإن ما قامت به إيران هو هجوم مختلف عن هجوم نيسان/ أبريل الماضي تقنياً ونوعياً بالفعل، لكنه من ناحية الفاعلية العسكرية وبحسب التصريحات الإسرائيلية يساوي صفراً، فلا ضحايا بشرية ولا خسائر مادية ولا أضرار لحقت بمنشآت الاحتلال العسكرية والمدنية، ومع ذلك من المبكر الحكم على مدى نجاح هذه العملية أو فشلها لأننا لا نملك العدد الدقيق للإطلاقات، ولا نملك عدد الإصابات الناجحة إن وجدت، وبالتالي لا يمكن الحكم لا على مدى نجاح العملية الإيرانية ولا على مدى نجاح القبة الحديدية الإسرائيلية في التصدي لهذا الهجوم.
يبدو أن الهجوم الإيراني الأخير كان سياسياً أكثر من كونه عسكرياً، وعملية استعراضية أكثر من كونها عملية ثأرية، وقبل ذلك وأهم منه أن إيران لم تكن تريد الثأر لإسماعيل هنية وحسن نصرالله وقادة الحرس الثوري القتلى، بقدر ما أرادت أن تقول كفوا عن قتل المزيد.. ولم تكن تريد التخفيف عن لبنان وغزة، وإنما منع نتنياهو من ممارسة المزيد من العربدة والضغط عليها.
* كاتب وخبير عسكري سوري
المصدر: تلفزيون سوريا