أرنست خوري *
يسهب تقرير صحيفة فايننشال تايمز البريطانية المنشور يوم الأحد الماضي (29/9) في جمع خيوط الاختراق الإسرائيلي الاستخباري الكبير لحزب الله، الذي تسبّب بخسارة كبرى للحزب، لو توقّع حصولَها أحدهم، لكرّس نفسه رمزاً للسخرية والتنمر لكثرة ما أقنعتنا الخرافة بأن الحزب لا يُقهر، وأنه ختم العلم العسكري بالفعل وارتقى إلى مرتبة أقوى مليشيا في العالم.
يخبرنا التقرير أموراً كنا نسمع عنها بالعناوين العريضة. نصدّقها لكن بابتسامة تشكيك ترتسم على ثغورنا في كل مرة نُذهَل فيها بإلى أين وصل الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته في المجالات العلمية والحربية.
وجبت قراءة تقرير الصحيفة البريطانية لنفهم مثلاً كيف أن وجوه كل من يُشارك في جنازات لمقاتلين من حزب الله قضوا في سورية، تحفظها بيانات الاستخبارات الإسرائيلية وتُحللها، وخصوصاً لأن تلك الجنازات كانت تجذب أحياناً القادة الكبار من الظل. تُفاجئنا بكم كانت “ملصقات القتلى” التي يستخدمها حزب الله لنعي عناصره الذين قتلوا هناك قيّمة، وكم أنّ المعلومات التي نخالها تافهة وصغيرة وبديهية، مهمّة للقابعين الإسرائيليين خلف أجهزة الكومبيوتر ولبرامجهم الذكية، مثل البلدة التي ينتمي إليها المقاتل، ومكان مقتله، ودائرة أصدقائه الذين ينشرون الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي.
يخبرنا التقرير عن أهمية الأقمار الاصطناعية التجسّسية في الاختراق الكبير لحزب الله، والطائرات المسيّرة المتطورة، وقدرات القرصنة الإلكترونية عبر الهواتف المحمولة. عن صور كاميرات المراقبة، وأصوات المشكوك في أنهم مقاتلون أو مسؤولون، وقد التقطتها ميكروفونات جهاز التحكّم عن بعد للتلفزيون الذكي. عن مليارات الصور لشوارع ومبانٍ وحقول، تُرصد وتُحلَّل للعثور على أدنى التغييرات، على أمل تحديد جهاز متفجّر بدائيّ بجانب الطريق، أو فتحة تهوية فوق نفق، أو إضافة مفاجئة لتعزيزات خرسانية تشير إلى وجود مخبأ. عن حركة البشر في شوارع مناطق نفوذ حزب الله، بما أن تغييراً في روتين شباب هناك قد يعني أمراً ما يجدر تحليله. هي أمثلة بسيطة عن أدوات عمل كل من الوحدة 8200 في الاستخبارات الإسرائيلية، المسؤولة عن التنصّت والحصول على معلومات استخباراتية دقيقة، والوحدة 9900، التي تجمع الاستخبارات البصرية (المرئية) وتعرف كيفية تحديد المعالم الدقيقة للأهداف، من دون الحديث عن الجواسيس والعنصر البشري، أي اختصاص الوحدة 504 التي تفعّل عملاء في لبنان.
ما سبق ذكره، وغيره الكثير من العمل التكنولوجي البشري العلمي في التجسس وجمع المعلومات والتنصت والرصد والتحليل كان حاسماً. لكن أين بدأت القصة؟ كل شيء بدأ في انخراط حزب الله في احتلال سورية وفي الحرب على ثورتها. كشفه ذلك “على نحو غير مسبوق لقوى عديدة مخترقة بدورها” كما تقرأ في تقدير موقف لـ”المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”. وكشف الانخراط للحزب اللبناني “نتيجة لمشاركته ضمن غرف عمليات يسهل اختراقها في الجيش السوري أو الإيراني”، يكتب المدير العام لتلفزيون سوريا حمزة المصطفى. انتقل مقاتلو حزب الله وضبّاطه في سورية من “طهرانيين متديّنين منضبطين إلى أشخاص يتعاطون مع أناس أكثر بكثير مما يجدر بهم أن يقابلوا، وغطرستهم ترافقت مع تحول في دورهم” يقول يزيد الصايغ من معهد كارنيغي.
النتيجة أن الحرب في سورية كانت بالنسبة إلى الإسرائيليين نبعاً من المعلومات عن حزب الله طوال 12 عاماً، وهو ربما ما جعل إسرائيل تترك حزب الله يصول ويجول في سورية، وهي ساحة لأجهزة مخابرات العالم، حيث غالباً ما يكون الضابط في جيش الأسد وصّفة للانكشاف، وكذلك حال إيرانيين وروس كثر، فلا تعود غريبة ملاحظة أن معظم الفيديوهات التي يبثها حزب الله لقادته الذين قتلتهم إسرائيل في الأيام الماضية، يحاضرون ويدرّبون ويثقفون عسكرياً مكشوفي الوجه، هي فيديوهات من سورية.
هناك، في سورية إذاً، كُشفت وجوه الرموز الحربية لحزب الله والأسماء والأدوار وأنماط السلوك والعلاقات والمعارف. هي سورية التي كشفت الكثير، ليس مخابراتياً فحسب، بل أيضاً أخلاقياً وسياسياً.
* كاتب لبناني ومدير تحرير صحيفة “العربي الجديد”
المصدر: العربي الجديد