ساطع نورالدين *
هكذا يكتب التاريخ دائما، وهكذا أيضاً تسجل محطاته الحاسمة. وكلما فاض سيل الدم، وتفاقم المس بالديموغرافيا، زاد خطر “الواقعة”، وتحولت الفصول والصفحات الى مدونات لتغيير في الجغرافيا السياسية.. للبنان والمشرق العربي، والعالم العربي عموما.
اغتيال زعيم “حزب الله”، حسن نصرالله، ذروة تراجيدية يعيشها شيعة لبنان، تعلن ختام رحلة تمرد طويلة على الكيان اللبناني، لامست تحدي موازين “النظام الإقليمي” وثوابته، التي كانت قد أخرجت الشعب الفلسطيني من حسابات ذلك النظام وما زالت تسعى الى انهاء وجوده كشعب، لم يكن يفيده ان يبادر حزب لبناني الى نصرته، في عملية انتحارية متسرعة كانت بمثابة إعلان “وحدة الجنازات”، بين بقعتين جغرافيتين متباعدتين، بات تنظيم جنازة فيهما ترفاً.
التحاق حزب الله في حرب غزة، انتحار واعٍ ومتعمَد. كأنه كان يحاول أن يمحو بعضاً من انجراحات الماضي والتباسات العلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين، بين الشيعة ومقاومتهم وبين فلسطين وسلطتها وقواها الإسلامية. كأنه كان يغطي على تلك الخطيئة التي ارتكبها حزب الله، وأغلب شيعة لبنان، في الانتصار لبشار أسد، وفي حمل سيف إيران المسلول على سنة سوريا وبقية البلدان العربية.
كان حزب الله، في عمليته الانتحارية تلك، يعلن عن عروبته الافتراضية، عندما كانت العروبة ولا تزال تسفك دم شركائه الفلسطينيين، وتساهم في تصفيتهم. كان يؤكد أن سلاحه فلسطيني، هذه المرة، والمسجد الأقصى عنوانه الرئيسي. لكن توقيته كان خاطئاً، متأخراً، لم تسقط من الأذهان عبارة المرشد الإيراني علي خامنئي التي لا تُنسى: “إذا لم نقاتلهم على جبهات لبنان وسوريا واليمن، فإننا سنضطر إلى قتالهم في شوارع طهران وأصفهان ومشهد وتبريز..”.
لكن “حزب الله” لم ينتحر لأجل طهران التي يبدو أنها هي الأخرى لم تحسب موازين القوى ولم تُحسن قراءة الوقائع، ما جعل العمق الإيراني مكشوفاً مثله مثل العمق الفلسطيني أو اللبناني أو السوري، ووضع المرشد نفسه في دائرة الخطر، بعدما بات اليوم مسؤولاً مباشرة، عن إغاثة شيعة لبنان المنكوبين بالموت الجماعي والتهديد الديموغرافي الكبير، وعن مراجعة تجربة حزب الله ووضع يده على عملية إعادة تنظيم هياكله السياسية والعسكرية والأمنية والمالية والاجتماعية.
مستقبل الحزب عاد إلى طهران مجدداً. لم يكن بعيداً عنها يوماً، لكن هامشه الأوسع من بقية حلفاء إيران ورتبته الأرفع من “دولة شقيقة” للإيرانيين، والتي تمتد جذورها الى ما قبل الثورة الخمينية، انتهى، وصار قرار الحزب شأناً داخلياً إيرانياً، تُمليه وقائع المواجهة الإيرانية المفتوحة مع الغرب، وتطوراتها، بما يعيد إلى الذاكرة فترة التأسيس الأولى للحزب في مطلع ثمانينات القرن الماضي… مع الاخذ بالاعتبار أن الهزيمة الراهنة أمام الأعداء أكبر وأخطر من الهزيمة التي حلت في أعقاب الغزو الإسرائيلي في العام 1982.
التعديل الأهم الذي يمكن أن يطرأ في ذلك السياق هو أن المرشد مضطر هذه المرة إلى الأخذ بالاعتبار أن هوى الغالبية الإيرانية الساحقة، يميل بسرعة فائقة ضد الثورة الإسلامية وعمائمها ومؤسساتها، وهو ما تجلى في انتخاب مرشح رئاسي مغمور، وغير ذي شأن ، هو مسعود بزشكيان بأصوات 17 مليون ناخب أيراني، فقط لآنه رفع شعار المصالحة بدل المواجهة مع الخارج والداخل، قبل أن يتحول إلى دمية في يد الحرس الثوري.
عندها لن يبقى لشيعة لبنان القتلى والجرحى والمشردين، سوى أن يتكلوا على الله، وعلى أنفسهم، وعلى دولة لبنان التي ساهموا في نحرها طوال العقود الأربعة الماضية، وعلى البلدان العربية التي شاركوا في طعنها مراراً.. علّها تستطيع أن تكف الشر الإسرائيلي عن الطائفة التي لطالما سارت على حافة الانتحار الجماعي، وبلغت نهاية الدرب المسيرة.
* كاتب صحفي لبناني
المصدر: غلوبال جستس Global Justice