عبير نصر *
تفترض وقائع راهنة، في مجملها، أهمّية البحث في طبيعة العلاقة التي جمعت نظام أسد بحزب الله، الذي أسّس أيديولوجيته السياسية على مقاومة الاحتلال، دعمته مُتغيّراتٌ كثيرةٌ، أكثرها أهمّية الانسحاب السوري من لبنان وتصدّره المشهد العام، إضافة إلى حرب تموز/ يوليو (2006)، التي منحته بُعداً عربياً وإسلامياً كبيراً لضربه مقولة “الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر”، وهو ما آل بالضبط إلى تحوّل أمينه العام، حسن نصرالله، المتمتّع بكاريزما لافتة، رمزاً شعبياً كبيراً، وتحوّل حزبه لاعباً إقليمياً مؤثّراً مركزه لبنان، وشريانه سورية، ومحرّكه إيران.
على التوازي، يشير الجدل المحموم اليوم حول التصعيد المُلتهِب بين حزب الله وإسرائيل، بوضوح إلى رغبةٍ جليّة في اجتثاث الذراع الإيرانية في لبنان، قد تدفع المنطقة نحو حرب مفتوحة، وما من مبالغة في أهمية اغتيال حسن نصر الله، وفي خصوبة الحدث سياسياً، بينما يعتبره كثيرون “عدالةً إلهيةً” طاولت الحزب بعدما أصبح محلّ خلاف وانتقاد و”شيطنة”، وتأكيد تحوّلاته التي كشفت الجانب الطائفي الكامن في طبيعة الحزب ودوره وأهدافه، فدخل موالوه دوامة معقّدة من التيه وفقدان البوصلة.
إلى ذلك، يرى مُحلّلون (بغض النظر عن المقاربات الأخلاقية لأفعال حزب الله في سورية)، أنّ مشهد الشماتة الذي يسوّقه بعض السوريين لم نشهده يوماً، مع إمكانية تصفية الحسابات مع حزب الله عبر أيّ طريق غير إسرائيل. ورغم أنّهم لم ينسوا بعد احتفال أنصاره بتوزيع الحلوى فرحاً بالنصر على بلدة القصير السورية، فالأمر لا يمرّ تحت عتبة الصفح حرفياً (إنْ جاز التعبير)، لأنّ حرائق لبنان ستطاول سورية، حكماً، بدلالة استهداف إسرائيل فجر الاثنين (30/9/2024) معبر جديدة يابوس الحدودي مع لبنان.
العرض المُكثّف آنف الذكر، الذي يعكس في جانبٍ منه مُخرجات الاستبداد الأسدي وأدبياته، يدفعنا إلى النظر مليّاً إلى الداخل؛ نهاية حزب الله بدأت فعلياً مذ وقف مع نظام الأسد لحمايته من السقوط، فتحوّلَ من حركة مقاومة يحتضنها الشارع العربي فرقةً للموت تفتقر لأيّ شرعية أو احترام، خاصّة أنّ الحزب، وكلما نعى أحد قياداته التي اغتالتها إسرائيل، يتباهى بدوره في قتل السوريين وتهجيرهم على أنّه “قتالٌ للجماعات التكفيرية”، متبنّياً لغةَ بشّار الأسد في وصف معارضيه. هكذا، وبعدما كان حزب الله يحظى بهالة مُؤثّرة بصفته الطرف غير التابع لدول الاستكبار العالمي، الذي بدّل بشكل عميق توازنات القوى، تغيّرت هذه النظرة كلّياً، وانقسم الشارع العربي وتيّاراته تجاه الحزب، مع شيوع البُعد الطائفي في تفسير كلّ ما يحصل.
بطبيعة الحال، كانت العلاقة بين نظام الأسد وحزب الله تتحدّد بالمرونة في خضمّ ديناميكيات الأخطار الكامنة والمُستجِدّة، وعندما انخرط الحزب في الحرب السورية عام 2012، بدأ على استحياء، حفاظاً على شعبيته التي حصدها من حروبه مع إسرائيل، ثمّ تدرّج في موقفه ليعلن اصطفافه السياسي والعسكري الكامل إلى جانب الأسد، بعد تضخّم هواجس طهران بفقدان دورها وطموحاتها في المنطقة مع بدء الثورة وتزعزع النظام في سنواته الأولى. هناك من وصف تدخّل حزب الله بـ”الضرورة الجهادية”، وهناك من سمّاه “الغزو غير الشرعي” لبلد ممزّق إبّان ثورة ناشئة، لتبهت رمزيته المُقدَّسة في الضمير الجمعي العربي والإسلامي. ومهما تعدّدت التسميات والأهداف، فالمُؤكّد أنّ الصورة الناصعة للحزب تشوّهت بعد انتفاضة السوريين، ويمكن لأيّ متابعٍ أن يرى كيف رقص حزب الله بحرفية على الحبل الفاصل بين جماهريته الساحقة، ومطامعه المُبطَّنة المُجسِّدة للمشروع الإيراني، ليغدو أخطرَ الفاعلين في المشهد السوري المُتحلّل، وحليفاً للقوى الاستبدادية، المجاور لها والمتفاعل معها، سلباً وإيجاباً. هكذا هشّم حسن نصر الله كثيراً من مصداقية الحزب وصورته، حين جهرت أفعاله بما كان يهمس الآخرون به، بصفته العمود الفقري للتحالف بين إيران وسورية، وهي رؤية جديرة بالعناية بالنظر إلى وفرة الحجج الواهية التي تبنّاها حزب الله للتدخّل، مرّة بحجة الدفاع عن العتبات الدينية الشيعية في دمشق، وتارة بذريعة الدفاع عن المحور المقاوم في الإقليم.
ومع جلجلة التحولات والتبدّلات بعد “طوفان الأقصى”، التي طاولت المفاهيم والمعادلات السياسية في المنطقة، يترقّب الجميع اليوم موقع قدم حزب الله في خريطة العدوان الإسرائيلي على لبنان، ومدى صلابة الأرض التي يقف عليها، إثر الخسائر الجسيمة التي تكبّدها، التي تجعل الكرة في ملعبه، خاصّةً بعد اغتيال أمينه العام. ما يطرح تساؤلاتٍ بشأن طبيعة الردّ بعد كشفٍ سافر عن خروقاتٍ صادمة لمنظومة الحزب الأمنية، الذي إن ولد من رحم الحرب الأهلية، فإنّه يشهد حالياً فوضى غيرَ مسبوقةٍ تجعل من الصعب عليه إعادة ترتيب صفوفه وسدّ الثغرات الأمنية سريعاً. هو تحوّل تاريخي يحمل دلالات كبيرة وسط حالة من التململ والعتب سَرَت في صفوف الحزب بعد تصريحاتٍ أطلقها أخيراً مسؤولون إيرانيون وُصفت بالمهادِنة تجاه إسرائيل، زادها بِلَّة تجنّب المُرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي ذكر حسن نصر الله بالاسم بعد الاغتيال، مكتفياً باستنكار قتل اللبنانيين، ناهيك عن خبر سيدفع الكثيرين للتذكّر والتفكّر إذا ثبتت صحّته، ومفاده أنّ صحيفة لو باريزيان الفرنسية نقلت عن مصادر أمنية لبنانية أنّ إسرائيل وبمساعدة “عميلٍ إيراني” حصلت على معلومات تُفيد بمكان نصر الله قبيل اغتياله.
ما تقدّم يبدو بدايةً لوضعٍ عربي مفتوح الاحتمالات، ولعملية ممنهجة تقوم بخلق شرق أوسط مختلف، بالتالي تعريفاً جديداً لشعوب المنطقة، ما يترك حزب الله جريحاً، ينزف وحيداً، ومن شأن هذه الصورة أن تأخذنا إلى تصوّر مصير مأساوي للحزب وزواله فكرةً، وربّما انتهائه تيّاراً مُتطرّفاً صغيراً خارج حضن الدولة اللبنانية، إذا ما تمت مراجعة داخلية عميقة لطبيعة الدور المنوط به، وضرورة تبنيه مشروعاً وطنياً خالصاً، وسط معطياتٍ ضاغطة، أهمها أنّ بشار الأسد سيميل نحو إعطاء الأولوية لبقائه في السلطة على كلّ ما عداه، وسيواصل سياسة النأي بالنفس التي اعتمدها بُعيد العدوان الإسرائيلي على غزّة، بصفته “العدو العاقل”، مكتفياً بإرسال مساعدات طبّية إلى لبنان، وتسهيل استقبال النازحين اللبنانيين من دون شروط.
يأتي هذا بالتوازي مع رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي أيّ هدنةٍ، والتلويح بسيناريو التوغل البرّي في الأراضي اللبنانية، وبإسناد أميركي بالطبع، بينما ظنّ حزب الله أنّ إسرائيل ستبقى في دائرة الاشتباك المحدود خوفاً من دخول إيران على الخطّ، فاقتلاعه من جذوره يعني ضربةً مباشرةً للمشروع الإيراني المُشتهَى في الإقليم بأسره. وللمفارقة، يُعلن الرئيس الإيراني المنتمي للتيّار الإصلاحي، مسعود بزشكيان، الذي سبق أنّ صرّح “نحن أخوة للأميركيين أيضاً”، مُثيراً استياءً محلّياً عارماً، يُعلن بعد عودته من نيويورك أنّ مسؤوليه أجروا محادثات مع مسؤولين أوروبيين حول الاتفاق النووي، وتمّ الاتفاق على إعادة مناقشة هذا الموضوع، مُعبّراً عن عدم رغبة طهران في اندلاع حربٍ جديدة في المنطقة. مُعطياتٌ تزيدها قسوةً مناوأةُ كثير من اللبنانيين للحرب التي ستزيد طين حياتهم بِلَّة، ربّما تجعل حزب الله البيدق الأخير في لعبة شطرنج محسومة، تتخطّى قدرته على الانتصار أو حتّى التأثير.
* كاتبة وإعلامية سورية
المصدر: العربي الجديد