مالك ونوس *
في وقت تُصنِّف فيه دولٌ كثيرةٌ السكّانَ مواردَ بشريةً، تُضاف إلى ما تملكه تلك الدول من مواردَ طبيعيةٍ ومن مقوّماتٍ اقتصاديةٍ وجغرافيةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ تُعَدُّ من عوامل قوّتها، تَعتبِر أنظمة عربية السكّان عالةً عليها، وأنّه من الأفضل التفكير في طريقةٍ للتخلّص من عدد كبير منهم. ولا تحتاج الشعوب العربية إلى سماع هذه الحقيقة صراحةً لتصدّقها، ولكي تبادر بترك أوطانها والهجرة إلى بلدان أخرى.
لذلك يكفي أن تتخلّى حكومات الأنظمة العربية عن عدد من واجباتها ومهامّها حتّى يختل اقتصاد البلاد، ويتخلخل الوضع الأمني والبنى الاجتماعية والنفسية لدى أبنائها، فتلجأ أعداد منهم إلى الهجرة القسرية، وتَكُرُّ السُّبحةُ حتّى تصبح مُغادرةُ البلاد ظاهرةً أقرب إلى الهروب الجماعي منها إلى الهجرة.
وفي هذا السياق، كان لافتاً (وحزيناً) المشهدُ الذي أظهر تسابقَ مئات الأشخاص للتجمّع قرب قرية الفنيدق على الساحل الشمالي للمملكة المغربية تحضيراً لتخطّي السياج الشائك، والعبور إلى جيب سبتة (الذي تحتلّه إسبانيا)، في 15 من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، بعد تلقّيهم دعوات في وسائل التواصل الاجتماعي تدعوهم إلى الهجرة الجماعية إلى هذه المدينة، في محاولةٍ للعبور منها إلى أوروبا. وكان من بين هؤلاء أفارقةٌ ومغاربةٌ، توزّعوا بين نساء ويافعين وكبار، لكنّ الشرطة المغربية تصدّت لهم، وأعادت قسماً كبيراً منهم إلى المناطق التي قدِموا منها. وتشهد هذه المنطقة عادةً، إضافةً إلى جيب مليلية المحتل هو الآخر، محاولاتِ عبورٍ اعتياديةٍ ولا تتوقّف، إذ قالت وزارة الداخلية المغربية إنّها منعت أكثر من 11300 محاولة للعبور إلى سبتة، و3300 محاولة أخرى إلى جيب مليلية، خلال شهر أغسطس/ آب الماضي وحده.
وقد أعاد المشهد المغربي إلى الذاكرة المشهد السوري خلال التغريبة السورية، التي بدأت سنة 2015، ولم تنتهِ بعد، وسُجِّل فيها توافد عشرات آلاف المهاجرين السوريين إلى أوروبا، كان من بينهم جماعات شكّلت سلاسلَ بشريةً سالكةً طريقها مشياً على الأقدام، في مسارات طويلة قطع المشاركون فيها مئات الكيلومترات عابرين عدّة بلدان. وقادتهم تلك الرحلات من تركيا إلى ألمانيا، وغيرها من الدول الأوروبية، بالتزامن والتوازي مع الطرق البحرية، التي سلكها سوريون آخرون للوصول إلى هذه القارّة الآمنة، هاربين من الحرب، ومدفوعين باليأس من عدم وجود أمل بانتهائها، أو الوصول إلى حلّ سياسي يضع حدّاً لها. ولكن، إذا كانت الحرب مُبرّراً لحصول هجرات جماعية، كتلك الهجرة السورية، هنالك ما يثير الاستغراب بسبب تلك الهجرات الجماعية التي تجمع أُناساً من بلدان تشهد استقراراً أمنياً، في حين أنّ الهجرات الفردية كانت سمتها قبل ذلك. إلّا أنّ الذي حصل في المغرب، وتواصُل انطلاق مراكب المهاجرين من تونس وليبيا، تحمل رُكّاباً من جنسيات عربية وأفريقية عديدة باتجاه أوروبا، يدفع إلى التفكير والاعتقاد أنّ ثمّة طارئاً جديداً حلّ في مزاج المواطن العربي، ودفعه إلى اليقين بأنّ حال البؤس حال مقيم، وتغييره بات أمراً مُستبعَداً في ظلّ اليأس الذي حلّ بغالبية أبناء بلداننا.
تتوفّر الظروف التي دفعت وتدفع المواطن العربي (خصوصاً في دول المشرق والمغرب)، إلى الهجرة القسرية خارج بلاده؛ إلى أي مكان يحفظ كرامته ويقدّم له أقلّ متطلّبات العيش الإنساني الكريم التي يفتقدها في بلاده. فقد تضافرت عوامل عدّة جعلت هذا المواطن يشعر بتمزُّق عوامل تَكوُّن هُويَّته الوطنية، التي يُعَدُّ الشعور بالانتماء واحداً من أهمّها. لذلك نرى أنّ المواطن قد فقد الشعور بالمواطنة حين تكالبت عليه مصاعبُ لا تُحصى، جعلته يلهث طوال يومه لتأمين الحدود الدنيا من متطلّبات المعيشة له ولأسرته، لكنّه يفشل في مساعيه، على الرغم من أنّه موظفٌ أو عاملٌ في مِهَنٍ لا توفّر له الدخل الأدنى المُعترَف به دولياً.
علاوة على ذلك، يفقد المواطن الشعور بهُويَّته ومواطنيته حين يفقد الأمان الشخصي في وطنه، بعدما فقد الأمان الاقتصادي والاجتماعي. إذ كيف لشخص يشعر طوال الوقت بأنّه متَّهم، بغض النظر عن نوع التهمة، لمُجرَّد أنّه وُلِد في هذه البقعة من البلاد العربية أو تلك، أو لمُجرَّد أنّه يحمل رأياً مُخالفاً، سواء جاهر به أم كتمه؟ كيف له أن يشعر بالانتماء إلى وطن لا عمل للسلطة فيه سوى قسر رعاياها وترهيبهم، فلا يجدون أمامهم سوى الهروب خارجه لضمان سلامة جلودهم؟ … وإذا لم يكن خطرُ حمل الرأي المخالف دافعاً للهروب، فإنّ انحدار تلك الدول اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وأمنياً لتصبح دولاً فاشلة، يدفع فئاتٍ عديدةً من مجتمعاتها إلى الهروب بعدما فقدت عواملَ الأمان التي تسبب بها فقدان البلاد استقرارها.
غير أن الملاحظ في موجات الهجرة، أو “الهروب الجماعي” (وهو عنوان الوسم الذي كان وراء تنظيم تلك الواقعة في المغرب)، أنّ الأنظمة لا تعبأ بتلك الهجرات، ولا تعترف بموجات الهروب الجماعي أو حتّى الفردي، وكأنّ الأمر لا يعنيها، ولا يُشكّل تهديداً للمكوِّن الاجتماعي ولاقتصاد البلاد، ولا يسلبها خاماتها العلمية حين يُفرِّغ البلاد من الأطباء والمهندسين وأصحاب الاختصاص في التكنولوجيا والعلوم، إضافةً إلى تشكيل البيئة الطاردة لرؤوس الأموال والاستثمارات. ولا عجب، فالأنظمة التي امتنعت عن تحقيق التنمية الحقيقية والمُستدامة، اعتدنا منها الخطابَ السلطوي والإعلامي، الذي يرى في كلّ مولود جديد عبئاً إضافياً وفماً يجب إطعامه، بينما السلطة التي تعرف مقدار الفشل الذي وصلت إليه، تدرك أنّها ستكون عاجزةً عن توفير احتياجاته ومتطلّبات تعليمه وتوفير فرصة العمل له، لذلك ستفرح إن فرّ من البلاد، وستفرح أيضاً بالتحويلات المالية الضئيلة التي سيرسلها إلى أهله، لأنه سيزيح عنها عبئاً أخر.
لكن الذي سيكسب على الصُعد كافّة هو الغرب الذي يفتح ذراعيه مرحّباً بكل الخبرات التي تطردها دول العالم الثالث، فهي بالنسبة له فرصة ومورد لا ينضب حين تستغلّه وتجني بفضله مكاسبَ عجزت بلاده عن جنيها. ويوحي هذا الأمر وكأنّ ثمّة اتّفاقاً بين السلطويات في بلداننا وبين دول الغرب، تقوم بموجبه هذه السلطويات بتلك المهمّة. لمَ لا، أليس دعم الغرب للدكتاتوريات والحكومات الفاسدة هو أحد العوامل المُسبّبة للهجرة؟
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: العربي الجديد