جبر الشوفي *
لم يكن ذلك العجوز السبعيني، الذي أُلقي به بيننا، سوى كومة لحم مهترئ وقروح وروائح قيح ودم. انتشلته مع زملاء سجن تقاووا على أوجاعهم وجروحهم، وبصعوبة أنهضنا الجسد المتهالك، الغارق في سكينة برزخية تقارب الاحتضار، ثم سحبناه كما تُسحب الجيفة لثلاثة أمتار، لنجلسه على البلاطة المربعة المخصصة افتراضياً لكل سجين منا.
حرصنا أن ندلله بوضعه قرب باب المرحاض المكشوف والمتعدد الأغراض ومتنوع الزنخ وشتى الروائح، إكرامًا لشيبته ولوفادته الحديثة ولصعوبة حالته في غرفتنا الضيقة المكتظة بأكثر من عشرين نزيلاً، يتزاحمون، في غرفة أقرب ما تكون إلى الإسطبل رائحةً وقذارةً ومرارة عيش!
قال المساعد أبو علي، بعد أن دفع باب الغرفة الحديدي الكبير برجله وبعجرفة المستعلي على الضعف: “ضبّوا هذا الكر الخرفان بينكم”. وكان ثلاثة من شرطة السجن قد رموه كما تُرمى الخرقة ومضوا. لم يكن النزيل السبعيني، الذي اقتيد مع ابنه الثلاثيني وهما في طريقهما إلى العمل في ورشة بناء، قد استعاد وعيه ولا أدرك مكانه ولا من حوله. كانت سحابة من قيح ودم وألم، تعجّ في دماغه الساكن في برزخ موت لا يشبه الموت وحياة لا شيء فيها يشبه الحياة.
وكان جفناه المتورمان قابضين بثبات على سكرة أنفاسه وهو في نصف إغماضة، تذكرتُ الحلاج وهو في حالة من التلذذ الماسوشي بخدر برزخي مستسلم، يدور به في دوامة من الألم المدمى، وقد هبط عليه كمناخ سديمي ومسح تجاعيد كتلة الدماغ فغدت ملساء قاتمة، لا ينفذ منها حتى بارق للضوء.
أخذت يده، وقد أعيتني آلام جراحه وغيبوبته، التي راحت تتناوب مع صحو موجع مخمور يتنقل ويتماهى في كل جسده ثم يتمدد في مفاصله وأضلاعه. حتى إذا نطق بعد فترة صمت وانتظار، أدركت أن معاندة الموت والمكابرة إحدى نواميس الحياة، وهي تتمنطق بإرادة العيش في مواجهة الموت.
مشبوه هذا العجوز.. اسمه يتوافق مع اسم مشبوه آخر، تتطابق الأحرف والكنية، ويتفارق الجسدان والروحان والثقافة والضمير، وحينما نجا المشبوه بهروبه من الأجهزة الأمنية، كان لا بد من اصطياد الشبيه وشبيه شبيهه، وإن لم يمت الاسم المطلوب، فليمت الاسم المطابق والموافق، والأقرب إلى ترتيب حروفه!
مات الشبيه أبو حسين ومات شبيهه، وظلت سياط الجلاد، تنتشي بالدم واللحم المهترئ وآهات جحيم تخلع الأرواح فتهرب هلعة إلى الاستجارة بالحضور الرمزي لاسم الله، مدبر الأكوان حين أشاح الكل ببصره تقززًا ونفورًا!
يا الله كيف يموت الشبيه وشبيه الشبيه بين يديك؟ كيف تُجلَد الحقيقة فيتوب الحق عن حقه والصواب عن صوابه، ويزحف الموت ببطء كبق الفراش، يتلذذ بمذاق دمه، وهو في ذروة الانغماس في وجعك الكوني المرير! مات لصيقي، وترك لي دمه وعرقه وروائح قيحه التي خدرت وجع روائحنا الشبيهة، وتسربت عميقًا في خياشمنا ومسامات جلودنا ودهاليز مشاعرنا!
مات أبو حسين العجوز بجانبي، شهدت موت الحقيقة بلا صوت، شهدت موت الإله في وجدان وضمائر من قتلوه، لا لأنه أذنب معهم، بل لأنه مجرد شبيه، وحين يُقتل الشبيه فكأننا نُقتل كلنا!
شهدت موت أحبة، أهلًا وأصدقاء، شهدت موت الطفولة والصبا والكهولة، ولم يكن للموت هذا الثقل الكوني الذي أحسسته ساعة احتضاره. صار الموت مناخًا من زنخ وقيح ورطوبة ودم، وكانت الحياة بضّة ضوء واهن من ثقوب ضئيلة، تجهد فتكشف عري أجسادنا، بينما تضل عن أرواحنا السابحة في زوبعة من غبار كثيف، ويغلي في كثافتها نمل الحقيقة ويظل نحلها الهمجي الشرس، يراقص طقوس الموت المتجدد فينا كل ساعة.
للحظة شعرت بأنني الحلاج يأكل من لحمه ويلعق دمه، وكان السوط مقرعة الحقيقة الداوية المفزعة.. فهنا سحابة من أنين عميق ومن تشنجات عصبية بينما الروح تنازع رغبتها في التحرر من تابوت جسد متناهٍ!
إنها لحظات اندحار الحقيقة المطلقة، انكسار صدى الروح حين تطلق صرختها الأخيرة والوحيدة!
ويا شبيهي، يا أبا حسين، مت قليلًا أو كثيرًا، لا فرق! مت لأن الزمن مات والمكان مات. اذهب لكي تقول لي مرة أخرى: تعال يا شبيهي خذ مكاني، اجلس على بلاطة 30×40 سم، انتظر دورك ولا تطل مكوثك، فثمة آخرون، ينتظرون المساحة الميتة ذاتها والزمن الميت ذاته، وسوط الجلاد ذاته، لا لأن الموت هو أجلنا المحتوم، بل لأن الذين قصروا آجالنا، يريدون أن يعيشوا بلا نكد ولا شبيه يموت نيابة عن شبيهه!
أخذت أرتب أوراقي، أحضرت شاهدي وموكلي، ونظرت حولي متفحصًا حصيلة ما حرصت عليه من حجج وأقاويل وبيانات، وانتظرت.. وهل يحتاج الموت إلى بيان؟
* كاتب وسياسي سوري
المصدر: تلفزيون سوريا