سمير العيطة *
لا تشبه حرب الإبادة والتدمير التي يشهدها الفلسطينيون والفلسطينيات منذ سنة تقريباً في غزة والضفة احتلالاً عادياً أو أية مرحلة من مراحل العدوان الإسرائيلي التي تكررت منذ عقود. ولا تشبه العمليات الحربية الدائرة في جنوب لبنان ما سبقها. ولا مثيل سابق للعربدة العسكرية الإسرائيلية على سوريا المنهَكة بصراعاتها الداخلية وامتداداتها الدولية. المشهد يُنذر أكثر بكارثة من حجم كارثة «النكبة» سنة 1948.
في المقابل، لا يشبه مشهد البلدان العربية شيئاً عَرَفَته سابقاً. فمنذ أحداث «الربيع العربي»، انخرطت بعض الدول العربية في مواجهات مباشرة أو بالوكالة بين بعضها البعض، أكثر من تنافسها مع غرمائها الإقليميين. وكانت ساحة تلك المواجهات هي بلدان عربية أيضاً تداعى فيها «العقد الاجتماعي» وضعُفت فيها مؤسسات الدولة. هكذا توالت سلسلة العنف في ليبيا واليمن وسوريا، وبشكل أقل عنفاً في تونس، وتتفاقم اليوم في السودان حيث تأخذ الشعب السوداني إلى المجهول. هذا عدا التوتر الذي يُنذِر بالأسوأ بين الجزائر والمغرب.
في هذا المناخ «الجيوستراتيجي» العربي يغيب أي تحرك عربي حقيقي للدفاع عن فلسطين والشعب الفلسطيني والوقوف ضدّ الإبادة الجماعيّة حتّى على الصعيد السياسي والدولي، ولم يسبقه أيّ تحرّكٍ ضدّ «نظام الأبارتايد» سوى بالحدّ الأدنى المشهدي. لا شيء في مستوى ما تقوم به جمهورية جنوب إفريقيا البعيدة. هذا بالرغم من أن التدمير الذي جرى في غزة ويحصل اليوم في الضفة قد جعل أرضهما توشك أن تكون غير قابلة للحياة لفترة طويلة. وما قد يعني عمليات تهجير جديدة ستحصل وستأتي بآثارها على دول الجوار جميعها. وكأن الأمر يُدار وكأنه تهجير كغيره. تهجير كالذي حصل ويحصل للشعب السوري واللبناني والعراقي والتونسي وغيرهم…
- • •
إسرائيل بحكومتها المتطرفة تستفيد من مناخ الصراعات العربية- العربية كفرصة تاريخية. ولكنها ليست وحدها المستفيدة. بل أيضاً جميع القوى الإقليمية، إيران وتركيا وأثيوبيا… كلٌ يجد حليفاً عربياً له، أو بالأحرى كل دولة عربية تستنجِد بحليف لها في الإقليم أو في الخارج في مجال مواجهة الأخرى، وأحياناً «بالحليف» ذاته!. والنتيجة غياب أية إمكانية «تضامن» عربي ولو بالحد الأدنى، بل وأدنى مما كان يحدث سابقاً في لحظات الأخطار الكبرى.
على الصعيد الشعبي، تبدو المواطِنة والمواطن العربي مصدومين وفي حيرة من أمرهما. بل منشغِلين في أمور أخرى. وكأن الصهيونية، كفكرة قومية سياسية تقوم على أساس الدين، تنتصِر بزخمها على «العروبة»، كفكرة قومية جامعة نشأت على أساس «الدين لله والوطن للجميع». كما وكأن الصهيونية تنتصر أيضاً على «وطنيات» ما بعد استقلال الدول العربيّة التي يُفترض أنها قامت على المواطنة المتساوية. ولا مقاومة تُذكر عربياً ووطنياً تجاه هذا الانتصار للصهيونية كمُكون عقائدي.
ذلك لا يمنع واقع أن مقاومة العدوان فلسطينياً وعربياً فقط تقوم به فصائل سياسية تعتمِد «الإسلام السياسي»، كحركة حماس الفلسطينية أو حزب الله في لبنان، أي حركات سياسية تقوم، كما الصهيونية، على أساس الانتماء الديني. ربما هذه هي سمة العصر بعد أن هَزمت نكسة 1967 مشروع العروبة أكثر من هزيمتها للجيوش العربية واحتلالها للأراضي، بما فيها القدس. وبعد أن أدت الاتفاقات العربية مع إسرائيل إلى تنازلات «وطنية» حتى على الحد الأدنى مما تعنيه «السيادة». وهناك مشروعات تضع قضية فلسطين والعرب على مستوى خلقَ «توافق» بين الديانات وليس الأوطان والمواطنة لجميع من يعيش عليها وبين هذه الأوطان وجوارها.
لم ينشأ «الإسلام السياسي» عربياً من فراغ. بل نتيجة فراغ، بعد تداعي المشروع العربي حتّى في صيغته التضامنية- وبعد ضعف المشروع الوطني، لأنه يتم فرضَه فرضاً ولا يشمل جميع أبناء الوطن. إلا أن «الإسلام السياسي» لم يكُن حكراً على البلدان العربية، فها هو في السلطة في إيران بعد «ثورة»، وفي تركيا العلمانية بعد انتخابات. ولا ننسى في هذا السياق دور العامل الأجنبي الخارجي ومشاريعه البعيدة.
الابتعاد عن مشروع المواطنة لم يكن فقط على مستوى السلطة الحاكمة في كل بلد عربي ومنطقها وحسب، بل أضحى منذ فترة أيضاً على مستوى الشعوب. والدلالة أنه في حين كانت تسمية الأولاد، البنين والبنات، تَبتَكِر في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي أسماء حديثة مشتقة من اللغة العربية الجامعة، بالضبط للابتعاد عن التفرقة الدينية والمذهبية، عادت الأسماء منذ فترة تُبرز الانتماء الديني والمذهبي والأصول العرقية.
- • •
بالتوازي ضَعُفت الحركات الاجتماعية السياسية في البلدان العربية أمام توجّه فردي يبحَث عن الاستهلاك لمن سمحت له ظروف أو تحولات بلاده أن يستهلِك، دون أخذ العبرة من تجربة بعض الدول كلبنان أن ثمن ذلك نظاماً اقتصادياً ريعياً وديوناً خارجية سيدفع ثمنهما يوماً البلد والمجتمع، مهما كانت فرحة البعض بالاستهلاك. كما تخلت مؤسسات الدول عن الرعاية الاجتماعية. وانقسمت المجتمعات بين فئات مستفيدة وأخرى تُرِكَت لمعونة جمعيات خيرية تُموَل خارجياً أو من شبكات «الإسلام السياسي»، وكذلك بين مواطنين وعمال أجانب ولاجئين يعملون بالسخرة دون حقوق.
لم يكن تصويت أهالي غزة لصالح حركة حماس نتيجة تطرّف متأصّل بهم، بل لأن السلطة الفلسطينية تقاعست في رعايتهم لمواجهة سياسات إسرائيلية عملت على إحداث فروق اقتصادية وسياسية كبيرة بينهم وبين أبناء الضفة. وتُرِكوا معزولين في سجنهم الكبير. ولم يتوجه أهالي جنوب لبنان وبقاعه، اللذين كانا مهد الحركة اليسارية، نحو حزب الله سوى لأنه دافع عن أرضهم ولأن الدولة اللبنانية تخلت عنهم. وبالطبع لعب «الخارج»، هنا أيضاً، دوراً في دعم هاتين الحركتين وملء… الفراغ. ويُمكن انتقاد الدور الذي قامت به هاتان الحركتان خارج المجتمعين اللذين تبنّاهما، في سوريا مثلاً. إلا أنه لا معنى لوضع هذه الانتقادات بصيغة «دينية سياسية» منافِسة تصارعـا معها. ولا حتى الرجوع أيضاً إلى صراعهما فترة بين بعضهما البعض. ما هو على المحك اليوم هو وجود الشعب الفلسطيني ووجود الشعوب المحيطة بفلسطين، بما فيها لبنان وسوريا والأردن.
- • •
الحيرة واضحة وجلية في ظل الصراعات العربية- العربية والفراغ والتخبط القائمين. فمن حقاً مع من؟ بين الحكومات العربية ومع القوى الإقليمية والخارجية؟ ومن مع من؟ بين القوى السياسية على الأرض؟
لكن مآلات ما يحدث أيضاً واضحة. ومهما جرى فإنه كما تمت محاسبة عبد الناصر شعبياً على نكسة 1967 سيُحاسب يوماً قادة العرب في الفكر والسياسة على جمودهم أمام الكارثة التي يؤخذ إليها. جمود لا مبرر له. خاصة أن السكوت على صيرورة الكارثة لا يصنع لشعوب المنطقة لا أوطاناً منيعة ولا مواطنة، ولا رخاء ولا سيادة. وأن الانغماس في الخلافات لا يصنع مستقبل معقول للجميع.
بالمقابل سيكون هناك حساب آخر. إذ سيحاسب يهود العالم يوماً قادة إسرائيل على «معاداة السامية» التي ستجلبها عالمياً الإبادة الجماعية المرتكبة بصلافة ومنهجية اليوم.
لا معنى للقوميات وللانتماء لأوطان دون إنسانية أولاً وأساساً، وأيضاً دون حرص على العدالة داخل هذه الأوطان وتجاه الآخر».
* كاتب وباحث اقتصادي ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق