شفان إبراهيم *
بعد أقلّ من خمسة أشهر على زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عاصمة إقليم كردستان العراق، أربيل، جاءت زيارة الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، ليكون أول رئيس إيراني يزور الإقليم. وقد التقى رئيس الإقليم ورئيس الوزراء وممثلي الأحزاب الكردية والأقليات القومية والدينية، وعقد اجتماعاً خاصاً مع رئيس الحزب الديمقراطي مسعود البارزاني، ويكاد يكون مستوى لقاءات الرئيسين، التركي والإيراني، في كردستان متقاربة. والواضح أن الدولتين الإقليميتين تنظران إلى وجودهما في إقليم كردستان العراق ضرورة و”حقاً”، خصوصاً على مستوى التبادل التجاري، ولعب أدوار متقاطعة في قضايا كثيرة، مصيرية ومشتركة، سواء الأمنية أو الاقتصادية أو الاستقرار، وبات جائزاً القول إن كردستان تتحوّل إلى مُلتقى السلام الإقليمي، عدا عن الدولي.
جاءت الزيارة بعد ثلاثة تحوّلات سياسية مهمة، شهدها إقليم كردستان، على مستوى العلاقات الداخلية والخارجية، الأولى: زيارة رئيس الإقليم، “نيجرفان البارزاني” طهران، بعد انقطاع العلاقات السياسية المباشرة أو توقفها، وهي فاتحة خير وترميم العلاقات المتردّية، خاصة بعد وصول التوترات إلى مستوى استخدام صواريخ بعيدة المدى لقصف أربيل، علماً أن زيارة بزشكيان، جاءت بعد دعوة رسمية قدّمها رئيس الإقليم للرئيس الإيراني الراحل، إبراهيم رئيسي، وتجديد البارزاني الدعوة في أثناء تنصيب الرئيس بزشكيان. وواضح أن الزيارة بداية علاقات وحقبة جديدة، مع غياب التنبؤ بمستوياتها الزمنية، والتي حتماً ستخضع للاعتبارات نفسها التي حرّكت الدعوة وقبولها. ومع ضخامة الشوائب والسرديات السوداء التي نقلت إلى الجانب الإيراني من جهات متخصّصة بالرصد والمتابعة، سواء الجهات الولائية لطهران، أو ليس من المستبعد أن يكون بعضها كردية، عن إعطاء صور معاكسة واتهام الإقليم بوجود الموساد على أراضيه، فإن الزيارة قطعت الطريق على كثيرين منهم.
الحدث الثاني: وهي زيارة مسعود البارزاني بغداد بعد قطيعة دامت ست سنوات، ومع الاستقبال الحافل والرسمي، هي الأخرى، ذللت عقبات وعراقيل عديدة أمام إعادة العلاقات بين الطرفين. والتحول الثالث: لا يُمكن فصله بأي شكل عن طبيعة، الزيارة، هي النتائج المتوقعة للانتخابات البرلمانية المقبلة في كردستان، وتتطابق المؤشّرات واستطلاعات الرأي، بما فيها قناعة نُخب قيادية في الاتحاد الوطني الكردستاني، عن حصول الحزب الديمقراطي الكردستاني- العراق على الغالبية المطلقة للأصوات وعدد مقاعد البرلمان، بشكل أخصّ بعد تدهور الخط البياني لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني. ومن الطبيعي أن تدرك ايران ذلك، بفعل حجم التغلغل الكبير لها في السليمانية، ومعرفتها بكثير من خبايا الأمور. ورغم الحركات البهلوانية لبعض قيادات الصف الأول للاتحاد الوطني الكردستاني في أثناء استقبال الرئيس الإيراني، والتصفيق وإرسال الُقبلات، وهي معاكسة ومنافية لأي عرف دبلوماسي أو أصول الاستقبال الرسمي للرؤساء، لن تكون غالباً في صالحهم، بالرغم من أن الغالبية العظمى من الــ450 كلم للحدود المشتركة بين الإقليم وإيران تقع ضمن مناطق نفوذ الاتحاد الوطني، وتركيز الزيارة على أربيل، ومع الدعوة الرسمية التي تلقاها الرئيس مسعود البارزاني لزيارة إيران، والتي استقبلت برد فعل إيجابي واهتمام كبير، خصوصاً أن البارزاني لم يزر إيران منذ أكثر من 12 سنة، ما يعني بوضوح أن إيران بدأت الانفتاح الفعلي على الإقليم دولة ضمن دولة، وأن فترة الجفاء والقصف الصاروخي تغيّرت، ورغبة ايران في الحفاظ على التبادل التجاري الذي يتجاوز ستة مليارات دولار سنوياً.
وخلافاً لما ذهب إليه بعضهم، فإن تحدّث الرئيس الإيراني باللغة الكردية في بغداد مع الرئيس العراقي، وجوابه بها عن سؤال مراسل فضائية كردية، لن يُجدي نفعاً في الكسب السياسي، وإن كانت “لقطة” جميلة ودليلاً على حيوية هذه اللغة وتاريخيتها، لكنها لن تلعب أدواراً متقدّمة في تقديم التنازلات، أو تغيير البوصلة السياسية لكردستان العراق؛ إذ إن الذاكرة الكردية متخمة بشخصيات كردية وصلت إلى مراكز صناعة القرار، من دون أن يكون لهم أيّ أدوار أو فاعلية في استقرار القضية الكردية.
ومن جهة ذات صلة، ثمّة التوترات بين طهران وتل أبيب، وبشكل أخص بعد حرب الأخيرة ضد غزة، وإذا كانت إيران تهدد بضرب المصالح الأميركية في العراق وسورية، والأقرب إليها في أربيل، فلم تعد حالياً ترغب في أي تصعيد، في أيِّ جهة. وقد تلقت الرسالة بوضوح، بعد عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، ومع انسحاب حاملة الطائرات الأميركية، روزفلت من المنطقة، غالباً أنها تعكس تهدئة أميركية – إيرانية في المنطقة، وهو ما سينعكس إيجاباً على إقليم كردستان العراق. وفي المقابل، تشير إلى تحوّلات سياسية وجغرافية تلفّ المنطقة كلها، مخالفاً كل التوقعات، ولن يكون إقليم كردستان بعيداً عنها. إضافة إلى المرحلة “الانتقالية” القلقة جداً في أميركا، وصفرية أي احتمال لتدخل عسكري أو جوي في الشرق الأوسط، إلى حين صدور نتائج الانتخابات الرئاسية، والتي ستقود، في حال فوز ترامب” بالرئاسة، إلى توقف صراعات وحروب شاملة كثيرة. وغالباً ما لن تترافق مع ذلك تغيرات سياسية أو جغرافية، وربما يجري اعتماد سياسة تجميد الصراعات، واستمرار سياسة الأمر الواقع، وهو ما بدا واضحاً من مواقفه من الحرب الروسية على أوكرانيا، ووعده بإنهاء الحرب فور فوزه بالانتخابات.
واضحٌ أن النُّخب القيادية في رئاسة الإقليم وحكومته يُجيدون جيّداً قراءة الرسائل السياسية، والتعامل مع الأزمات التي تعصف بالمنطقة، خصوصاً إنهم سيكونون الحلقة الأضعف في أيِّ مواجهة عسكرية مع أيٍّ من دول الجوار، في الحد الأدنى على صعيد البنية التحتية، والقوة الجوية، والآثار السلبية على قطاع السياحة والتصدير وتداعياتها الاقتصادية. لهذا استمرّت كردستان في اتباع سياسة القوة الناعمة في التعاطي مع الصراعات الإقليمية، وعدم رغبتها في توسعة أي رقعةٍ للحرب والمواجهات، خلافاً لما سعت إليه دولٌ إقليمية وأحزاب كردستانية، إدراكاً من أربيل، حيث الثقل السياسي لصناعة القرار الكردستاني، أن أي حربٍ ستشكّل بيئة صالحة لانتقال الصراعات وتأثيراتها عليها.
براغماتياً. لن يكون الإقليم مكتفياً بالاحتفاء بزيارة الرئيس الإيراني، بل سيجني الكثير من إعادة فتح العلاقات، سواء لجهة توقف الحشد الشعبي وحملة السلاح الولاءين أو كارتيلات السلكة ضمن الحكومة العراقية من الاعتداءات الأمنية والعسكرية على الإقليم، والتي تستمرّ في تشكيل كتلة من التهديدات على أمن إقليم كردستان واستقراره، أو من حيث إيقاف “عجلة” المؤامرات عليه، ومن ضمنها قضية الميزانية وحصة الإقليم منها، وضمان عدم إيجاد أطراف كردية عراقيل ومشكلات قبل انتخابات برلمان كردستان، وذلك كله يجعل من الزيارة مهمة ومتبادلة المنافع والمصالح وليست بروتوكولية فقط.
والواضح أن كردستان تُنوع من مساراتها السياسية، وتسعى، منذ فترة، خاصة عقب تقاطع رغبات (وطموحات) العراقيين وبعض الدول ذات الشأن في العراق مع أطراف كردية ضن الإقليم من مواجهة الاستفتاء التاريخي للإقليم على تقرير مصيرهم، وما رافقه من أحداث ومواجهات في كركوك والمحمودية وبردي، فإن كردستان تتجه صوب تعزيز أعمق للعلاقات مع أطرافٍ ودولٍ أخرى، العربية منها وعلى وجه الخصوص، ودولٍ إقليمية، مثل إيران وتركيا.
* كاتب كردي- سوري
المصدر: العربي الجديد